في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1977 هبطت طائرة الرئيس المصري أنور السادات في مطار بن جوريون في القدس. زيارة مفاجئة أنهت سنوات من الحرب، وأسست لتفاهمات كامب ديفيد في 1978، ثم معاهدة سلام "بارد" وطويل وقعت عام 1979، ولكنها في الوقت نفسه كانت أحد أسباب اغتيال السادات.
تفاصيل الزيارة معروفة، وبنود معاهدة السلام معلنة، وكذا ملاحقها، ولكن دائمًا يبقى هناك ما هو خلف الكواليس، وهو ما تكشفه لنا مجموعة الوثائق السرية التي أفرجت عنها وزارة الخارجية الأمريكية مطلع هذا الشهر، تستعرضها المنصة معكم في سلسلة من الحلقات.
في الحلقة الثالثة نستعرض خطة السادات والتي ارتكزت على شيئين: استعادة سيناء، والرهان على صداقته مع كارتر. وطريقته في إدارة المفاوضات على القضية الفلسطينية، والاختلافات بينه وبين فريقه من الخارجية المصرية وكيف رصدت الوثائق الأمريكية ذلك.
حين توجه الرئيس المصري أنور السادات ومعه فريق من دبلوماسيي وزارة الخارجية إلى منتجع كامب ديفيد الرئاسي في الولايات المتحدة، كانت ترتيبات التسوية في الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها بعد عام 1967 حاضرة في أجندة التفاوض مع الجانب الإسرائيلي. ففي سبتمبر عام 1978 كانت العلاقات المصرية العربية المتوترة بفعل زيارة السادات الى القدس في العام السابق لم يصبها الانهيار الكامل بعد. وكان رهان السادات على أنه سيستطيع الحفاظ على علاقاته مع السعودية وسوريا والأردن في حال حصل من الإسرائيليين على وعد بإعطاء الفلسطينيين حق تقرير مصيرهم في الأراضي المحتلة بعد حرب 1967.
في اليوم الأول من مفاوضات كامب دافيد (5 سبتمبر 1978) اجتمع السادات على انفراد مع الرئيس الأمريكي جيمي كارتر في مقر إقامة الأخير بالمنتجع، وقال له إنه جاء إلى المفاوضات حاملاً معه خطة سلام "شاملة" وأن الخطة "في جيبه". كانت كلمة "شاملة" من الكلمات التي رددها السادات كثيرًا في تلك الفترة سواء في أحاديثه المعلنة أو الثنائية مع كارتر، وكان يعني بها خطة سلام تشمل سيناء والأراضي الفلسطينية المحتلة، التي اعتبرها السادات وسيلته من أجل تسويق فكرة التسوية السلمية مع إسرائيل في المحيط العربي وفي الداخل المصري.
سنفعلها يا صديقي العزيز
وفق ما ذكره لورانس رايت في كتابه "ثلاثة عشر يوماً في سبتمبر" فإن السادات قال لكارتر خلال لقائهما "إسرائيل يجب أن تنسحب من أرضي. أي شيء آخر يا صديقي العزيز، يمكنك أن تفعل فيه ما تريد، وسأوافق عليه". سأل كارتر السادات إذا كان مدركاً ما سيتم طلبه منه، وبدا السادات مصممًا على أنه قادر على الوفاء بأي التزامات ستنتج عن التفاوض، وقال لكارتر: "نستطيع أن نفعلها يا سيادة الرئيس. نستطيع أن نفعلها".
لكن يبدو أن وفد السادات وعلى رأسه وزير خارجيته محمد إبراهيم كامل، لم يكن على اطلاعٍ واسع بما يدور في ذهن الرئيس. فوفق محضر اجتماع الجانب الأمريكي مع الجانب المصري في اليوم الثالث من المفاوضات (7 سبتمبر 1978) فإن جوهر الورقة المصرية التي عرضها كامل ومعه أحمد ماهر على نائب الرئيس الأمريكي والتر مونديل ووزير خارجيته سيروس فانس والسفير الأمريكي في القاهرة هيرمان إيلتس، كان التوصل إلى ترتيبات خاصة بسيناء والضفة الغربية وغزة.
ذكر كامل لأعضاء الوفد الأمريكي إن المقترحات المصرية الخاصة بالأراضي الفلسطينية هي "الحد الأدنى الذي يمكن أن تقدمه مصر للعرب. السعوديون وباقي الدول سوف يدعمون المقترحات الواردة في الورقة. أي شيء أقل من ذلك سوف يضع السادات ومصر في موقف سيء. السادات مستعدٌ للموافقة على كل شيء متعلق بتطبيع العلاقات والأمن، لكن لا يستطيع فعل ذلك مع الأرض أو السيادة".
وفق المحضر الأمريكي فإن "السادات ذكر احتمال إقامة ترتيبات غير دائمة فيما يتعلق بالضفة الغربية". وقد أصر كامل على أن السادات لا يمكن أن يتجاوز ذلك. وقد ركز كامل على نقطة أن مصر تريد سلامًا حقيقيًا وهي جادة في ذلك. وهي تريد أيضاً تمتين العلاقات الإنسانية مع الإسرائيليين. لكن لو تم تجاهل حقوق الفلسطينيين أو لم تتم إعادة الأرض العربية، فإن كامل يصر على أنه لن يكون هناك سلامٌ دائم.
"مصر هاتقوم بالليلة"
لكن العقبة التي كانت تواجه المصريين في كامب دافيد لم تكن فقط تعنت الجانب الإسرائيلي بقيادة رئيس الوزراء مناحيم بيجن، ولكن أيضًا طريقة السادات في إدارة المفاوضات. فوفق المحضر الأمريكي فإن "كامل قال إنه ليس واثقاً كيف ستمضي المفاوضات قدماً. فهناك اختلاف كامل بين طريقة بيجن وطريقة السادات. السادات يبحث عن الضروريات (المقصود هو الخطوط العامة ولكن وردت في الوثيقة تحت لفظ: essentials)، بينما بيجن يركز على التفاصيل. هذا الاختلاف في طريقة التعاطي مع المفاوضات تجعل الأمر صعباً بالنسبة للرئيس كارتر".
من خلال محضر لقاء يوم السابع من سبتمبر بدا أن موقف العرب المحتمل من أي اتفاق ينجزه السادات في كامب دافيد يشكل هاجساً لدى الفريق المصري. فوزير الخارجية كامل أشار إلى مسألة إنهاء المقاطعة المصرية لإسرائيل، وقال إنها "ستتسبب في مشاكل لمصر مع العرب. لكن على الرغم من ذلك فإن مصر مستعدة للمضي قدماً لو تم الاتفاق على الضروريات. وأصر كامل على أن مصر تستطيع أن تنجز الأمر (تقوم بالليلة وفق التعبير الدارج المماثل لتعبير can carry the day)".
الأسلوب الإسرائيلي: اعترض ثم انتظر
طريقة الإسرائيليين في التفاوض كانت واضحة من خلال ما قاله الأمريكيون للمصريين، إذ يمكن تلخيصها في: عدم تقديم تنازلات، وفي الاعتراض على المقترحات المصرية، وعدم تقديم بديل، وانتظار أن يكشف المصريون عن تصوراتهم لاتفاق التسوية.
وزير الخارجية الأمريكي سيروس فانس قال للمصريين إن "الإسرائيليين اعتبروا الورقة المصرية غير مقبولة". سأل ماهر عن إذا كان الإسرائيليون ينوون تقديم مقترح مضاد. فانس قال "الإسرائيليون لا يزالون يدرسون هذا الاحتمال". لكنه أشار إلى أن الجانب الأمريكي مستعد لعرض مقترحات".
"كامل أشار إلى أن السادات أخبر الوفد المصري أن الرئيس كارتر سأل عن إمكانية إحراز نجاح جزئي. وأن السادات رد عليه بأن نفس الدرجة من الجهد ستكون ضرورية من أجل إحراز نجاح شامل. وقد أشار كامل إلى أن المصريين استخدموا العديد من الوصفات الأمريكية في ورقتهم".
طريقة لعب السادات
يشرح لورانس رايت في كتابه الهام حول المفاوضات طريقة تفكير السادات في إدارة التفاوض خلال قمة كامب دافيد. فقبل الذهاب الى كامب دافيد طمأن السادات أعضاء وفده بأن المهمة سوف تكون سهلة وواضحة وستحدث كالتالي: يقدم الجانب المصري ورقة حول التسوية السلمية. سوف يرفضها الإسرائيليون، وهو ما سيجعل كارتر يضغط على بيجن لقبولها.
وفق نظرية السادات فإن الجانب الإسرائيلي إما سيقبل بالورقة المصرية تحت الضغط الأمريكي، وهنا سوف تكون مصر قد حققت نصرًا كبيرًا. وإما أن يرفضها الإسرائليون وتفشل القمة وهنا لن تخسر مصر شيئاً، بل على العكس سوف تستفيد من تمتين علاقتها بالولايات المتحدة. وفق الشهادات التي حصل عليها رايت فإن السادات قال لمساعديه قبل الذهاب الى كامب دافيد "ما نسعى إليه هو كسب الرأي العام العالمي. الرئيس كارتر يقف الى جانبنا. هذا سوف يسهم في سقوط بيجن".
فلسطين
كان الجانب الأمريكي مهتمًا بمعرفة الموقف المصري من المستوطنات في الضفة الغربية، وما إذا كان المصريون سوف يتعاملون معها مثل مستوطنات سيناء. فقد أخبر السادات كارتر بأن "السيادة والأرض ليست قابلة للتفاوض"، وقد فهم الأميركيون أن السادات يقصد سيناء وإزالة المستوطنات الإسرائيلية منها.
ولكن هل يقصد السادات أيضاً مستوطنات الضفة الغربية؟ هكذا سأل وزير الخارجية فانس نظيره المصري في جلسة السابع من سبتمبر.
كامل أجاب بأنه "من حيث المبدأ فإن كل مستوطنات الضفة الغربية يجب أن تفكك. لكن الأطراف التي يجب التفاوض معها حول ذلك هي الطرف الفلسطيني و/أو الطرف الأردني. مصر لا تستطيع أن تقوم بأي التزام حول المستوطنات. الإسرائيليون يمكن أن يقوموا بزيارة الضفة الغربية مثل أي أجنبي". فانس أشار الى أن الإسرائيليين يعتقدون أن مسألة الأمن في الضفة الغربية مختلفة عن سيناء. رد كامل بأن "الإسرائيليون يعتقدون أن لديهم الحق في الإبقاء على المستوطنات وأن الأمن ليس هو المشكلة"، ثم اعتبر كامل أن "المستوطنات هي استفزاز"، وأعاد عرض "استعداد مصر تقديم كل الإجراءات الأمنية الممكنة".
وماذا سنفعل في الضفة الغربية؟
حاول الجانب الأمريكي أن يحصل من الجانب المصري على موقف يفصل المسار التفاوضي حول سيناء عن المسار التفاوضي حول الضفة الغربية. توالت الإشارات الأمريكية على أن الإسرائيليين لن يمانعوا كثيرًا في تفكيك مستوطناتهم في سيناء، ولكن نفس الشيء سيكون مستحيلاً بالنسبة للضفة الغربية.
نائب الرئيس مونديل أخبر الجانب المصري أنه من أجل إنجاح المفاوضات يمكن إعلان "أن مستوطنات سيناء سيتم إزالتها، لكن سيتم تجميد بناء مستوطنات في الضفة الغربية لخمس سنوات، خلال التفاوض حول تسوية للقضية الفلسطينية. الأطراف المعنية يمكن أن تتفاوض حول تفاصيل حل مشكلة المستوطنات مثل شراء الأراضي". عبر كامل عن رأيه بأن تجميد بناء مستوطنات جديدة قد يساعد. مشيرًا إلى أن "مصر لا تصمم على أن إزالة المستوطنات ينبغي أن يتم بين يوم وليلة، وأن تلك المسألة يمكن مناقشتها لاحقاً".
قال كامل أيضاً إن "مصر لا تستطيع أن تقول الآن أن بعض المستوطنات يمكن أن تبقى. الفلسطينيون والأردنيون ينبغي أن يقرروا ذلك". فرد عليه مونديل أن "مصر يمكن أن تقول أنها تعارض بقاء كل المستوطنات وتعتقد أنه يجب تجميدها". فقال كامل إن ذلك يبدو جيداً بالنسبة له، لكن مصر لا تستطيع أن تذهب أبعد من ذلك، وسوف يقوم بنقل تلك الفكرة الى السادات".
اقرأ أيضًا:
كما يمكنك الاطلاع على النسخة الأصلية من وثائق هذه الحلقة عبر هذا الرابط.