في مدينة إفريا الهادئة بمقاطعة تورينو الواقعة في شمال غرب إيطاليا، تَجَمَّع بعض النشطاء التابعين لمنظمة العفو الدولية المعنية بحقوق الإنسان، والتحق بهم متضامنون حاملين لافتات لا زالت تتساءل - منذ أكثر من سنتين - عن حقيقة مقتل الباحث الإيطالي، جوليو ريجيني، في القاهرة، بعد اختفائه وتعذيبه عام 2016.
مسيرة لم تكن أقل هدوءا من إفريا. وعلى مقربة منها، كان وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو سالفيني، مبتهجا ينشر ابتساماته أثناء لقاء انتخابي لدعم صديقه المحسوب على التيار اليميني، ستيفانو سيرتولي، في جولته لانتخابات البلدية.
هدوء لم يمنع أفراد الأمن المصاحبين لموكب الوزير من توقيف النشطاء لفحص هوياتهم، والتقاط صور لهم، ومراجعة التصاريح الخاصة بالمسيرة، ثم منعِهم من التواجد بالقرب من مكان اللقاء الانتخابي. اقترح النشطاء إنزال اللافتات من أجل الحديث مع الصحفيين هناك، لكن أفراد الأمن هددوهم بمصادرتها دون إبداء أسباب.
انطلقت المسيرة رفضا لتصريحات وزير الداخلية، خلال لقاء له مع صحيفة "كورييه ديلا سيرا"، اعتبر فيها ان قضية ريجيني تخص أسرته، ولا يجب تحويلها إلى قضيه بلد بأكمله. وبالرغم من تفهمه لمشاعر الأسرة، إلا أن العلاقات الإيطالية-المصرية أهم بكثير، ويجب إعادة بنائها على أساس التعاون، ولن تجدي سياسة الصدام أو العقوبات نفعاً. لم يكن هذا التصريح الأول من نوعه منذ توليه منصب وزير الداخلية، فقد شدد على أهمية العلاقات مع البلدين أثناء لقاء له في البرنامج التلفزيوني "الثامنة والنصف" راغبا في علاقات مستقرة مع مصر، لكنه أكد في المقابل على ضرورة الوضوح بشأن قضية ريجيني.
مساومة أم تجاوز أزمة؟
التحول الصاخب لتصريح وزير الداخلية الإيطالي بشأن قضية البحث عن قاتل ريجيني بدا وكأنه تنازلًا عن معرفة القاتل. فقد صرح منذ أقل من سنتين أن الحكومة المصرية تتلاعب ببلاده، ووصف سلوك الحكومة الإيطالية، حينئذ، بالمهزلة لأنها تتعمد تجاهل التقصي بعمق في تفاصيل الحادث.
ربما لم يدرك سالفيني حينها أهمية العلاقات بين البلدين، أو كان يظن نفسه مجرد مُعارِض يربح جولات شعبوية ضد سلوك حكومة لم يتخيل يوما ما بأنه سيترأسها في غضون سنتين. لكنه وصل إلى ما هو أبعد من الحكومة السابقة التي حتى لم تكن تعارض مسيرات تطالب بمعرفة قاتل الطالب ريجيني، ليحوِّل القضية برمتها إلى مساومة على صفقة ما، وسط تكهنات بتورط الأمن المصري بارتكاب الجريمة وفقا لبعض الدوائر في الحكومة الإيطالية السابقة، أو إلى رغبة حقيقية في تخطٍ سلس لمعضلة سياسية قد تُواجِة إيطاليا، نسجها طرف ما، ضمن لعبة استخباراتية معقدة، ونجح في طمس آثار جريمته، لتدمير العلاقات بين البلدين، كسيناريو مُحتمل وفقا لتحليل صحيفة "البيريماتو نوتيسيا" التي حمّلت الاستخبارات البريطانية مسؤلية مقتل ريجيني، بسبب رفض جامعة كامبريدج التعاون مع الحكومة الإيطالية السابقة برئاسة ماتيو رينتسي، وتعطيل التحقيقات.
سواء كانت مساومة رابحة أو تخطيًا لأزمة مؤرقة، فقد أثار تصريح سالفيني تساؤلات في الداخل الإيطالي؛ إذ أظهر رأيه الشخصي على أنه رأي الجميع دون أن يضع في الحسبان بأنه من المفترض أن يسير وفق خطة حكومة متناسقة مُعلَنة، كل يمارس مهام مُحددة. فقد اعتبر بأن فوزه بتشكيل حكومة ائتلاف، أعطى له الحق في ممارسة مهام رئيس الوزراء ووزير الداخلية ووزير الخارجية مجتمعين.
العقلية الجديدة التي تنتهجها الحكومة الإيطالية تبدو وكأنها تخلّي عن حماية المواطن الإيطالي وهو بعيد عن بلده، سائحا أو عاملا أو طالبا، و تَضاؤُل جدوى الشبكة الدبلوماسية والقنصلية. كما أن تحوَّل العقلية الحكومية بطريقة مفاجئة لا تعني بالضرورة أنها سياسة جديدة أو حتى ناجحة، لأنها قد توحي، في أوقات كثيرة، بالتخبط والحيرة وفقدان الهيبة. وكان أحد أوجه ذلك التحول هو مؤازرة الحكومة السابقة لأسرة ريجيني في البرلمان الأوروبي، ووعود مستمرة بالبحث والتقصي، والتعاون من السلطات المصرية كي يُكشَف عن القاتل، ووصل الأمر إلى تهديد باولا، والدة ريجيني، بنشر صور لجثة ابنها عليها آثار التعذيب، ليحدث النقيض تماما بتوقيف الحكومة الجديدة نشطاء لا يتعدون أصابع الأيدي، وعدم السماح لهم بالتحدث مع الصحفيين في قضية تخص أصحابها فحسب.
كما أن إعادة بناء العلاقات مع مصر ليس مشروطا بالتخلي عن الكشف قاتل ريجيني، لأن تحسين وتطوير العلاقات الدولية يُبني على المفاوضات، وليس بغض الطرف عن القضايا. وبالتالي فإن إعادة تصنيف قضية ريجيني على أنها ليست بأهمية العلاقات الإيطالية – المصرية لن تضمن بأي حال من الأحوال علاقات جيدة.
علاقات لم تتأثر
لنفترض أن الحكومة الإيطالية تهتم بالعلاقات مع مصر، ونفترض أيضا أنها تأثرت باللغط الحاصل حول قضية ريجيني سواء بالاتهام المباشر للسلطات في مصر أو بالتورط أو حتى بالفشل في التوصل إلى الجناة، فمن الطبيعي أن تتزلزل تلك العلاقات خاصة بُعيد حادث مقتل ريجيني. لكن كل ذلك لم يحدث؛ فلم تتأثر العلاقات التجارية سلبا، بل زاد التبادل التجاري من 2015 إلى 2017 تصاعديا بشكل ملحوظ، لترتفع نسبة الصادرات من ايطاليا إلى مصر نسبة 1.1%، ونسبة الواردات بنسبة 1.8% في عام 2017، أي بعد عام واحد فقط من مقتل ريجيني، ما يؤكد أن ايطاليا ومصر احتفظتا بعلاقات طيبة يسودها السلام.
لم تلجأ الحكومة الإيطالية إلى سلاح الاقتصاد، لا في بداية الأزمة ولا حتى في أوجها، من أجل ممارسة ضغوط حقيقية، ما يعني أنها ليست متضررة . إيطاليا هي الشريك الاقتصادي الأول لمصر أوروبيا، والثاني عالميا. كما تُصَنَّف المنتجات التي تحتاجها إيطاليا من مصر على أنها استراتيجية، مثل النفط الخام، والنفط المكرر، والمواد الخام للوقود النووي، والمعادن النفيسة، والمواد الكيميائية الأساسية، والأسمدة، ومركبات النيتروجين، والمواد المُصنِّعة للبلاستيك.
وبالتالي فكل هذه المنتجات لن تستطيع إيطاليا الاستغناء عنها، ولا حتى تحمل معضلة البحث عن مصدر آخر، في ظل نظام اقتصادي وسياسي عالمي محتقن. سقطت فرضية زلزلة العلاقات الإيطالية-المصرية، لكنها مرت ببعض التوتر الدبلوماسي إثر مغادرة السفير الإيطالي في القاهرة، ماوريتسيو ماساري، في إبريل 2016، ليعود السفير الإيطالي، جيانباولو كانتيني، بعد أكثر من عام، لممارسه مهامه.
طوال تلك الفترة وما بعدها، كانت وسائل الإعلام الإيطالي والمصري على حد سواء تركز على قوة وأهمية ومتانة العلاقات التاريخية والتجارية والدبلوماسية بين البلدين. إلا في بعض الحالات حيث لجأت والدة جوليو ريجيني إلى البرلمان الأوروبي في بداية الأزمة، وسط استنكار العديد من منظمات حقوق الإنسان في إيطاليا ومصر، وتصريحات بعض السياسيين في إيطاليا الذين لجأوا إلى استخدام القضية كورقة سياسية ضد الحكومة آنذاك، مثل ماتيو سالفيني الذي كان مُعارضاً يلهب مشاعر الجماهير بكلمات رنانة، ليُبدِّل حديثه الى النقيض عند توليه وزارة الداخلية بعد سنتين فقط.
ولم يكن الجانب التجاري سوى أحد أوجه التعاون وتشابك العلاقات بين البلدين، إذ استُخدمت التكنولوجيا الإيطالية على يد شركة "إيني" في اكتشاف حقل "ظُهر" المصري الذي يقدر حجمه بأكثر من 850 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. كما أن إيطاليا في أشد الحاجة إلى توطيد العلاقات الدبلوماسية مع مصر من أجل إحكام السيطرة على موجات الهجرة غير الشرعية القادمة من ليبيا، بالتنسيق مع مصر، لأن قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، أحد أهم حلفاء القيادة السياسية في مصر. اذن فمن مصلحة إيطاليا، بل والاتحاد الأوروبي بأكمله، استغلال العلاقة بين الدولتين لإيقاف تلك الموجات بالتنسيق معهما.
وبذلك "يستحيل انفصال الشريكين الإيطالي والمصري"، حسبما صرح وزير الخارجية الإيطالي في الحكومة الإيطالية السابقة ،أنجلينو ألفانو، مبررا عودة السفير الإيطالي إلى القاهرة. لكن وزير الخارجية حينها لم يفرط في حق الإيطاليين في معرفة القاتل. وهو أيضا ما يؤكده دائما الجانب المصري بأن الجاني لن يفلت من العقاب، ووعد بإعلان تفاصيل القضية على الرأي العام العالمي، لأن طرفا ما أراد تدمير العلاقة بين البلدين.
إذا كانت الحكومتان الإيطالية والمصرية على وفاق في التحقيق في قضية مقتل ريجيني، كما أن العلاقات التجارية والتكنولوجية والدبلوماسية في أحسن حال، لكن سالفيني وحكومته الشعبوية الجديدة أرادا تخطي الأزمة، وتأطيرها على انها قضية شخصية، وكأنه يكتب الفصل الأخير لقضية ريجيني دون أي رتوش إنسانية.