بينما ينهمك الاتحاد الأوروبي في إصدار قوانين جديدة لحل أزمة اللاجئين قد يفتح وزير الداخلية الإيطالي الحدود أمام اللاجئين ليتدفقوا إلى جميع أنحاء أوروبا أو يفي بوعده وينقل المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا بطائرات حربية..
بعد ساعات قليلة من تولي زعيم حزب الرابطة اليميني، ماتيو سالفيني، وزارة الداخلية الإيطالية، بدأت فرصة له ليعلن غلق الموانئ الإيطالية في وجه سفينة الإنقاذ أكواريوس التي كانت تحمل على متنها 629 مهاجرً غير شرعيًا قادمين من السواحل الليبية، من خلال تغريدة في حسابه الرسمي على تويتر.
أدهش سالفيني الجميع بإعلانه غلق جميع الموانئ الإيطالية في وجه سفينة الإنقاذ، لكنه برر وحكومته الجديدة المشكلة من حزب الرابطة اليميني وحزب الخمسة نجوم ذو الشعارات الشعوبية، بأن استقبالها "مهمة لا تمت بصلة بعمل حكومته".
تنصل من المسؤولية
وعلى ذلك، طلب وزير الداخلية الإيطالي من سفير مالطا في إيطاليا، إذا كان في إمكان بلده استقبال السفينة فرفض الأخير طلبه "إنطلاقا من انصياع بلاده للقواعد والقوانين الدولية". على حد تعبيره، "مالطا لا تتملص من واجبها الإنساني إزاء المهاجرين غير الشرعيين باستقبالهم ومساعدتهم، لكنهم قدِموا ضمن عمليات البحث والإنقاذ الليبية التي تنسق عملها مع الجانب الإيطالي، وليس له أي علاقة ببلاده".
ولم يفوِّت وزير الداخلية الإيطالي فرصة تغليف مطلبه بمظهر إنساني براق، زاعما أن ميناء مالطا "أكثر أمانا" للمهاجرين، لأن السفينة رست بالقرب من الجزيرة المالطية. كما أرسل سفنا تلبي احتياجات المهاجرين غير الشرعيين طبيًا وغذائيًا. وكأنه أغلق الباب على اتهامه باللا إنسانية. لكن السلطات المالطية نفسها لم تتقيد بأي مطلب إنساني، وقررت بألا تلبي نداء المهاجرين العالقين في جوف البحر المتوسط.
الحكومة اليمينية تتجاهل الجميع
ضربت الحكومة الإيطالية عرض الحائط بـآلاف المتظاهرين في ميلانو وروما وباليرمو وبولونيا وكالياري وكالابريا الذين نزلوا إلى الشوارع تعبيرًا عن غضبهم إزاء القرار العنصري، مطالِبين بالترحيب بالمهاجرين في موانئ مفتوحة دائما.
ربما كانت الحكومة الإيطالية الجديدة على موعد مع ما يبدو أول خلاف مع العائلة الأوروبية، لتثبت أن بإمكانها أن تقول لا بكل برودة أعصاب، وتبعث برسالة أنها ليست كسابقاتها من الحكومات التقليدية التي ستنصاع لكل ما يأمر به المسؤولين في بروكسيل.
وتجاهلت التنديد الدولي الذي تجلى في وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن ما فعلته إيطاليا يحمل الكثير من السخرية وانعدام المسؤليىة، ليرد عليه قصر كيجي الرئاسي بأن يكف عن دروس المنافقين.
ورأى وزير الداخلية والأمن الوطني والبناء الألماني، هورست زيهوفر، في مكالمة هاتفية مع نظيره سالفيني أن قرار الحكومة الإيطالية أحادي الجانب، وكأنها إشارة على "استقلالية" القرار، كذلك شجبت مدريد ما تَحلَّت به روما من عدم تحمل مخاطر القرار.
بعد يومين انتهت الأزمة العالقة بإعلان أسبانيا نيتها في استقبال المهاجرين، لترسو على ميناء فالنسيا، مصحوبة بسفينتين حربيتين إيطاليتين تحمل أفرادا من قوات خفر السواحل وقوات من البحرية الإيطالية.
ربما انتهاء رحلة المهاجرين الأخيرة في موانئ أسبانيا، يفتح فصلًا جديدًا من الصدام بين إيطاليا والاتحاد الأوروبي بشأن أكثر القضايا إشكالية بين الطرفين، ويدشّن مرحلة جديدة في التعامل بشكل صادم مع المهاجرين ممن ينطلقون من دول جنوب المتوسط في شمال القارة الإفريقية، بعيدًا عن اتفاقيات دولية أو خطط تنموية مع الدول المُصدِّرة للهجرة غير الشرعية.
الجميع بلا استثناء في قفص الاتهام
إذا كان غلق الحكومة الإيطالية موانئها أمام "أكواريوس" أغضب الآلاف، فإن كثيرين وجدوا في سالفيني البطل المغوار الوحيد الذي نجح، أخيرًا، في حل معضلة المهاجرين غير الشرعيين بقرار حاسم، ودون أحاديث معسولة، في إشارة حازمة للاتحاد الأوروبي بأن يتحمل مسؤوليته التي غابت عن أذهان المسؤولين في بروكسيل منذ أعوام.
وإذا كان سالفيني في نظر البعض عنصريًا، انتزعت الرحمة من قلبه، فهو يعتبر نفسه حاميًا لأمن وسلامة شعبه. فقد حقق انتصارًا في سبعة أيام، فقط، لم يحققه الحكومة السابقة الموالية للاتحاد الأوروبي في سبعة سنوات كاملة.
وجهة نظر يمينية
هاجم بعض المسؤولين في الحكومة الإيطالية معارضي سالفيني بأنهم في الحقيقة يدافعون عما يسمى "تجارة الهجرة غير الشرعية". أي أنهم يستفيدون بطريقة أو بأخرى من استمرار موجات المهاجرين غير الشرعيين، بهدف استغلالهم في ظروف عمل قاسية.
اقرأ أيضًا: أطفال الهجرة المهمشون من باريس لبروكسل
واتهم سالفيني بعض المنظمات غير الحكومية بأنها لا ترغب في حل مشكلة الهجرة غير الشرعية، لكنها تساهم فقط في تفاقمها بتقديم مساعدات وتطوع لنقلهم، حتى تحولت سفن إنقاذ المهاجرين غير الشرعيين إلى مجرد وسيلة نقل مريحة، للإلقاء بهم إلى شواطئ بلاده.
لكن لا يمكن فهم اتهامات سالفيني لمن يعارضه ولمنظمات المجتمع المدني ولمؤسسات الاتحاد الأوروبي إلا في سياق أزمة اقتصادية أفرزت توترات اجتماعية بالغة على وشك الإنفجار، وأزمة كيفية تعامل الدول الأوروبية مع أزمة المهاجرين في إيطاليا.
كرم مشروط
على سبيل المثال: أعلنت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عام 2015 بأنها ستخفف من عبء إيطاليا باستقبال 40 ألف مهاجر غير شرعي، رحب العالم بكرم ميركل، لكنها في الحقيقة اختارت بعناية فائقة ومعايير محددة ما يحتاج بلادها وما يتلاءم وينخرط داخل المجتمع الألماني، فانحازت إلى استقبال السوريين فقط، دون غيرهم من نيجيريا أو ليبيا.
ولازالت معاهدة دبلن قائمة منذ عام 1990 التي تُلزِم المهاجر غير الشرعي بطلب اللجوء في أول دولة تطأ قدمه على أراضيها. معاهدة تبدو مجحفة لكل الدول التي تعتبر نقط الوصول الرئيسية لبلدان شمال أفريقيا مثل إيطاليا واليونان وأسبانيا.
وفي ذروة الأزمة السورية وخروج الملايين من الأراضي السورية عام 2015 هروبا من هلاك الحرب للوصول إلى حجيم أوروبا، حاول الاتحاد الأوروبي تخفيف عبء الدول المُضيفة بتخصيص حصصًا على باقي الدول الأوروبية مشاركة في تحمل المسؤولية، وجدت رفضا قاطعا من كل دول أوروبا.
اقرأ أيضًا: معسكر "إيدوميني".. محطة انكسار أحلام اللاجئين
هكذا قُدِّر لإيطاليا أن تواجه أزمة المهاجرين غير الشرعيين وحيدة، بمعطياتها ونتائجها على المجتمع الإيطالي، دون أدنى استفادة من كونها عضوا مؤسسا للاتحاد الأوروبي. حتى المعاهدات الثنائية بين إيطاليا والدول المُصَدِّرة للمهاجرين مثل ليبيا وتركيا، تتأرجح بين عدم استقرار النظام السياسي في ليبيا، ومساومات ومتطلبات أردوغان المتلاحقة لكسب أراضي سياسية جديدة على حساب تلك القضية.
نهاية أزمة وبداية صدام
إمعانا في الخصومة، أرسل المفوض الأوروبي لشؤون الهجرة، ديميتريس أفرامو بولوس، التحية إلى مدريد لقرارها باستقبال المهاجرين على سفينة "أكواريوس"، لأن القرار عبر عن "تضامن حقيقي" على أرض الواقع تجاه الضحايا العالقين، وتجاه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على حد سواء. الإسقاط الذي يساوي بأن إيطاليا ليست أهل لتلك التحية.
"التضامن" تلك هي الكلمة السحرية التي يستخدمها كلا الطرفين في تبادل الاتهامات. لأن حتى لو انتهت أزمة سفينة "أكواريوس" على خير، فإن سفينة الإنقاذ "واتش سي 3" تنتظر لحمل عدد لا يحصى من المهاجرين القادمين من السواحل الليبية، وتوصيلهم إلى شواطئ سيشيليا الإيطالية، لكن من المتوقع تكرار نفس سيناريو "أكواريوس".
وبالتالي فإن السؤال عن تضامن إيطاليا مع الاتحاد الأوروبي، سيقابله السؤال عن تضامن الاتحاد الأوروبي نفسه. تَعَمَّد الاتحاد الأوروبي تجاهُل الغضب المتصاعد في إيطاليا لعقود، وتركها تواجه طوفان المهاجرين غير الشرعيين القادمين من القارة الأفريقية وحيدة.
اقرأ أيضًا: قمة البريكزت.. اللاجئون أيضًا يدفعون الثمن
ما بعد الطوفان
في الثلاث سنوات الأخيرة فقط، استقبلت إيطاليا فيما يقرب من مليون ضحية، وسط أزمات اقتصادية داخلية، وارتفاع نسبة البطالة. هؤلاء المهاجرين ليس من حقهم طلب اللجوء في أي دولة أوروبية أخرى، ومحاطين بنظرة عنصرية من قبل الإيطاليين الذين صنفوهم تهديدًا لحياتهم اليومية.
لم يكن الاتحاد الأوروبي حاضرا كطرف فعال في حل الأزمة، حتى في الوقت الذي كان فيه أعداد المهاجرين يمكن السيطرة عليه. لكن مع الأعداد المهولة، ووصول الحكومة الشعبوية، وتصميم الاتحاد الأوروبي على نفس الوتيرة من التجاهل، لم تجد إيطاليا سوى ذلك السيناريو، الذي قد يبدو مبدئيا سيؤول إلى المبالغة في وقت ما.
المبالغة تأتي دائما على لسان سالفيني الذي يكرر أن الهجرة ما هي إلا تجارة. لكن الهجرة – حتى وإن وصلت إلى ذلك التصنيف – هي حقيقة يعيشها العالم اليوم. والمغزى هنا هو محاربة تجار البشر والمستغلين دون المساس بحق الضحايا في الإنقاذ من العنف.
ففي الوقت الذي ينهمك فيه الاتحاد الأوروبي في إصدار قوانين جديدة، وإصلاح مؤسسات للوصول إلى حل للأزمة المتفاقمة، قد يكون سالفيني له رأي آخر على طريقته الشعبوية. قد يفتح الحدود أمام المهاجرين غير الشرعيين ليتدفقوا إلى كل أنحاء أوروبا، أو أنه سيفى بوعده بأن ينقل المهاجرين غير الشرعيين إلى ليبيا بطائرات حربية.
اقرأ أيضًا: إن مصر وإسرائيل لشريكان.. فصباح الخير