في نهاية الموسم المنقضي نجح نادي بارما في العودة إلى الكالتشيو بعد غياب. كان الفريق قد هبط إلى الدرجة الرابعة بعد إعلان إفلاسه في 2015، ليرحل نجوم الفريق. لكن القائد لوكاريلي قرر الاستمرار ووعد عشاق الفريق بالعودة مرة أخرى، وهو ما حدث.
بقاء لوكاريلي كان مسألة وفاء نادر وجمال استثنائي. خورخي فالدانو كان يقول " الميديوكر وحده هو من لا يتطلع إلى الجمال"، وكرة القدم، أكثر الألعاب شعبيةً، أحد وجوه الجمال التي يتطلع الواحد إليه، ومن يُسخِف من الولع بها لن يفهم جمالها أبدًا. يمكن الحديث عن جمال التكتيك، جمال المهارات الفردية لعظماء اللعبة ووله المشجعين بهم، الأهداف التي جلبت السعادة والأهداف التي كسرت القلوب. وخلف كل ذلك تكمن حكايات وافرة الجمال والغرابة، حكايات عن الدوريات وديربياتها، حكايات عن المنافسات الأوربية الأشهر، وحكايات عن كأس الكؤوس، كأس العالم.
أغرب حكايات المونديال
إذا كان كتاب "الهرم المقلوب: تاريخ تكتيكات كرة القدم" لـ جوناثان ويلسون هو مانيفستو كرة القدم، فعلى الضفة الأخرى من الأطلنطي كانت البداية، وكان هناك الساحر ماريو بيندينتي وقصته "مهاجم الجبهة اليسرى" ضمن مجموعة " المونتيفيدييون"، وقصيدته" وقتك اليوم حقيقة" التي أهداها لـ مارادونا، وكان هناك إدواردو جاليانو وكتابه "كرة القدم بين الشمس والظل" وهناك كتاب "كرة قدم صافية" للأرجنتيني روبرتو فونتاناروسا. وعاد الأدب الكروي إلى الواجهة في القارة العجوز مع ظهور السير الذاتية للمدربين وأشهر اللاعبين، ولكنه لم -ويبدو أنه لن- يغادر أمريكا الجنوبية.
وينضم كتاب أغرب الحكايات في تاريخ المونديال للأرجنتيني لوثيانيو بيرنيكي، لهذه القائمة من الكتابات اللاتينية عن كرة القدم.
في الكتاب الصادر عن دار مسعى بترجمة محمد الفولي، يسرد الأرجنتيني لوثيانو بيرنيكي أغرب الأحداث التي صاحبت كل مونديال منذ البطولة الأولى في أوروجواي 1930 وحتى الأخيرة في البرازيل 2014.
في صدارة الكتاب، قبل مقدمة المؤلف، نجد تعليقًا من إدواردو جاليانو عن صاحب أغرب الحكايات في تاريخ المونديال: "لوثيانو بيرنيكي جاسوس مخضرم. لقد تمكن هذا المحترف الماكر من التسلل إلى كل بطولات كأس العالم منذ عام 1930، ونجح – مُتنكرًا كبعوضة أو ربما راية ركنية- في استقصاء أسرار تجرأ مؤخرًا على كشفها. نحن معشر الكرويين ممتنون له، فهذا هو وقتها".
اقرأ أيضًا في أيام المونديال: عايزين نتفرج: رحلتي من الراديو إلى القمر الإسرائيلي آموس
الكأس والكلب
قد تكون الإحصاءات والنتائج المتعلقة بالكرة وكأس العالم متوفرة. ومع وجود الإنترنت ومحركات البحث، فلا يبدو العثور على الأرقام أمرًا صعبًا. حضرت الأرقام في الكتاب لمجرد التوثيق، فيما سعى الكتاب إلى تحقيق هدف آخر، وهو مراجعة المواجهات التي لا تُنسي في كل دور من أدوار كأس العالم، وما صاحب ذلك من أحداث أو قصص مدهشة، والبحث عن الجانب الإنساني في كل حدث، سواء داخل الملعب أو خارج خط التماس، كل هذه الحكايات تجذب القارئ إلى التورط في حب الكرة والمونديال أكثر.
أخذ بيرنيكي خطوة إلى الوراء وبدأ كتابه من حكاية التأسيس وظهور كرة القدم الذي يخضع لفرضيتين؛ الفرضية الأولى أنها ظهرت في الصين القديمة في زمن مملكة هان في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد. والثانية هي أنها ظهرت في إنجلترا، قبل خمسين عامًا من ميلاد السيد المسيح، عندما لعب الجنود الإنجليز برأس جندي روماني بعد الانتصار على فيالق يوليوس قيصر الرومانية في إحدى المعارك. أما ظهور المنظمة الرسمية الأولى لكرة القدم، فكان في 1863 مع ظهور اتحاد الكرة الإنجليزية بعد انفصال كرة القدم عن الرجبي. وبعد ثلاث سنوات كانت أول مباراة بين بلدين (إنجلترا واسكتلندا)، وكان نجاح التجربة حافزًا كبيرًا لتكرارها، ولكن المشاركات ظلت محصورة بين البلدان الأوروبية حتى 1924 عندما شاركت الأورجواي ونجحت في الحصول على ميدالية ذهبية، الأورجواي التي ستكون الأوفر حظًا لاستضافة المونديال الأول عام 1930.
الكأس التي ينالها البطل كانت بداية أغرب الحكايات، الكأس المصنوعة من الذهب على هيئة "نيكه" إلهة النصر الإغريقية بيدين ممدودتين. بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، قام أوترينو باراسي، نائب رئيس الاتحاد الإيطالي بإخراجها من الهيئة المصرفية، وحفظها في خزانة أحذيته خوفًا من الألمان، ولكن حفاظه عليها كان في مهب الريح بعد حوالي 30 عامًا لما اختفت الكأس. بعدها كُلِّف صانع آخر بصنع كأس مماثلة، وما كاد يُتمَّها حتى عثر الكلب بيكلز على الكأس المختفية.
مجهود البرازيل كذلك كان هباءً منثورًا، فبعد كفاحها للفوز بالكأس والاحتفاظ بها، سُرقت وصُهر ذهبها على يد أرجنتيني.
ضربة البداية
بداية من الكأس الأولى في الأوروجواي وحتى الكأس الأخيرة في البرازيل، كل فصل في الكتاب هو كأس، أغرب حكاياته، قوانينه، وأرقامه القياسية.
البداية لم تكن سهلة، والكأس الأولى واجهتها صعوبات كانت على وشك إفسادها بسبب تعلل الدول بمشاكل اقتصادية. وتفردت تلك الكأس بأول مباراتين تُلعبان في نفس التوقيت. وتتوالى غرائب الكأس الأولى بدءًا من حكاية المرمى الملعون حكاية المرمى الملعون في ملعب "باركي ثنترال" المطل على سكة حديد، والذي كلما مر قطار وأطلق سائقه صافرة، اهتز المرمى بهدف. وحكايات أخرى عديدة ضمها الكتاب، وصلت إلى حوالي 400 حكاية، كحكاية رأس الحربة النمساوي فالتر ناوش الذي رفض تمثيل ألمانيا بعد احتلالها للنمسا. وحكاية قميص المنتخب البرازيلي الحالي، الذي صممه العدو الكروي الأورجواياني جارسيا سكلي.
نهائيات ألمانيا 1974 ومجيء هولندا ومعها كرويف لتأكل الأخضر واليابس بما عُرف بالكرة الشاملة، ولكن مساعيهم أُحبطت في النهاية على يد الألمان وفازوا هم باللقب. وكما بطولتي إيطاليا 1934 وفرنسا 1938، لُعبت بطولة الأرجنتين 1978 وسط دماء وصرخات التعذيب التي انتجتها الديكتاتورية.
اقرأ أيضًا: هنري كيسنجر.. استعادة التاريخ الأسود لرجل بلا ضمير
بطولة الولايات المتحدة 1994شهدت المشهد الحزين لمارادونا وهو يرحل عن ملعب "فوكسبورو" في بوسطن، صحبة إحدى ممثلات اللجنة المنظمة، بعدما ظهرت نتيجة تحليل المنشطات الخاص به وكان إيجابيًا. وتكرر مشهد حزين آخر مع زيزو، زين الدين زيدان، في مونديال ألمانيا 2006 بعد اللقطة الشهيرة ونطحه للاعب الإيطالي ماتيراتسي، لينال طردًا قسريًا دون أن يُمنح فرصة أن يكون صاحب وقت قرار الاعتزال نهائيًا.
المنتخب الإنجليزي نال نصيبه من الإهانة في مونديال كوريا واليابان 2002. فبعدما اصطحبوا حلاقيهم معهم، وجاء بيكهام بحلاقه ومصمم أزياءه الخاص لتكون قصة شعر بيكهام هي الأشهر وقتها؛ فيما المنتخب يتجول أعجبته تي شيرتات مكتوبة باللغة المحلية، ولكنهم لم يعرفوا أن ترجمة المكتوب "أنا شاذ إنجليزي سالب، أبحث عن عشيق ياباني مفتول العضلات".
المونديال نفسه شهد قصة الشعر الشهيرة للظاهرة رونالدو، التي اضطر لها ليكون ابنه الصغير قادرًا على التمييز بينه وبين روبرتو كارلوس، ولا يُقبِّل كارلوس بدلًا منه على شاشة التلفزيون.
الذهب ما بين اليد والأرداف
حفر مارادونا اسمه في أذهان الجميع في 22 يونيو 1986 حين سجَّل هدفه الأول في المباراة التي انتهت بنتيجة (2-1) لصالح الأرجنتين، بعد تلقيه كرة عالية أدخلها بيده الشباك، ووصفه بأنه هدف أحدثته "يد الرب". أما الهدف الثاني؛ فهو هدف القرن العشرين، حيث انطلق بالكرة قبل خط الوسط وراوغ نحو نصف لاعبي انجلترا قبل أن يصل للمرمى ويسجل الهدف. الهدفان كانا سببًا في أن تفوز الأرجنتين بكأسها الذهبية الثانية والأخيرة.
في مونديال 2010 طالب مارادونا، وهو مدرب للأرجنتين هذه المرة، بتغيير الحمامات إلى موديلات أكثر حداثة من الموجودة، وهو ما كان. تغيرت الموديلات القديمة إلى جديدة حملت اسم (باثروم بيزار) ومن وقتها استغل الباعة طلب مارادونا للترويج لهذا الموديل ولا يزال يحقق أرباح كما الذهب.
ولكن حكايات الكتاب تقول إن ليس كل ما يأتي من وراء مارادونا مكسب. فهدف "يد الرب " الذي سجله تسبب في خسارة رهان كبير لأحد المشجعين، ليصبح ذلك المشجع مديونًا وتهجره زوجته.
ليست مجرد لعبة
كثيرًا ما يسمع الواحد أن كرة القدم مجرد شيء كروي السطح يجرى حوله 11 رجلًا من كل فريق. إلا أن كرة القدم أوسع وأكثر حميمية من ذلك.
بعد حصولها على كأس 1954 احتفلت ألمانيا ببهجة عارمة. لما "عبر القطار الذي كان يقل الفريق البطل من برن إلى ميونخ (الحدود السويسرية الألمانية)، كان هناك ستة آلاف مشجع يملأون أنحاء محطة "ييشتيتن"، أول قرية بعد الحدود على الجانب الألماني. ألقى المشجعون المتحمسون -بعد أن سددوا بكل احترام ثمن التذاكر للدخول إلى رصيف المحطة- بأنفسهم على القضبان لإيقاف مسيرة القطار وتحية أبطالهم. وبعد وصولهم إلى ميونخ في السادس من يوليو، استقبل الأبطال في الساحة الرئيسية للعاصمة البافارية أكثر من نصف مليون شخص. ولم يتوقف الأمر على هذا، بل إن المصانع والمصارف والمكاتب الحكومية قررت -بتوصية من عمدة المدينة- منح موظفيها عطلة رسمية، فلم تفتح المدارس ولا الكليات أبوابها. وتجول الفريق بشوارع المدينة على متن خمس عشرة سيارة، وأكدت السلطات للصحافة أن "الحماس الذي عم اليوم يتخطى بكثير ذاك الذي كان موجودا بالتجمعات إبان حقبة هتلر، حين كانت ميونخ عاصمة الحزب النازي".
كرة القدم لغة عالمية ولطالما حاول الساسة استغلالها، لكنها ما تنفك تهرب من مقصلتهم. كرة القدم مسألة إنسانية، حياة مصغرة في ملعب بكل ما في ذلك من معنى. العاطفة الشديدة والتعصب للفريق الذي نشجعه، الزخم مثلًا قبل مباريات الديربي كالأهلى والزمالك في مصر، والغريمان التقليدان في إسبانيا ريال مدريد وبرشلونة، والولع الهائل في إنجلترا، وصراع قطبي مدينة مانشستر، وديربي الميرسيسايد بين ليفربول وإيفرتون، وسخرية مشجعي لندن من بعضهم.
ونعيش الآن – نحن العرب والمصريين بالأخص- حالة التفاف ومحبة تجاه محمد صلاح. نجاحه نجاح شخصي لكل واحد، وأي شيء قد يضيره ترى الوجوه قد أصبحت حزينة من أجله كما العائلة، وليس أصدق دليلاُ على ذلك من الحزن الذي ضرب مصريين وعرب عند خروجه مصابًا في نهائي دوري الأبطال.
ينتهي الكتاب باستكمال رحلة الغرابة بعرض موجز للأرقام القياسية التي تحققت في كل مسابقات المونديال. ومع اقتراب ضربة بداية مونديال روسيا 2018، فالكتاب قد يكون أفضل رفيق رحلة، مع وقائع ويوميات كأس الكؤوس.