أبريل أقسى الشهور كما يقول ت. س. إليوت.
في 13 أبريل/ نيسان الجاري، حلّت ذكرى وفاة فرانسوا ماسبيرو وجونتر جراس وإدواردو جاليانو. جاليانو باحث وروائي وصحفي من الأورجواي. تميزت كتابته بأنها هجينة؛ تختلط فيها القصة والرواية والشعر وكتابة التاريخ.
وصفه الروائي جون بيرجر بأنه "عدوّ الكذب واللامبالاة. وقبل كل شيء، عدوّ النسيان. والذي بفضله ستتذكر البشرية جرائم الغرب". صاحب كتاب المعانقات وذاكرة النار وأفواه الزمن ورأسًا على عقب وشرايين أمريكا اللاتينية المفتوحة الذي ترجم لأكثر من عشرين لغة؛ عاش سنوات عديدة في المنفى لأسباب سياسية، في الأرجنتين وإسبانيا. وكان الروائي الكولومبي خايمي مانريك الحاصل على جائزة جوجنهايم الكندية للآداب والفنون قد أجرى هذا الحوار مع جاليانو خلا إحدى زيارات الأخير للولايات المتحدة.
في أول أبريل 2001، نشرت مجلة بومب ماجازين هذا الحوار. وبعد نشره بأشهر؛ تغيّر العالم كثيرًا وبشكل متسارع. لكن هذه التغيرات انطلقت من نقطة أساس كانت فيها الولايات المتحدة وحدها صاحبة الصوت المهيمن على مجريات السياسة والاقتصاد في العالم. في ذكرى وفاة جاليانو تنشر المنصة ترجمة لهذا الحوار، الذي يقدم رؤية مثقف ومؤرخ لما كان عليه العالم قبل فوضى السنوات الأخيرة.
بعد قراءة كتاب جاليانو الجديد "رأسًا على عقب" كان عقلي يترنح، وجهزت 23 سؤالًا كنت أرغب في مناقشتها معه. ومع توتري من مقابلة رجل جرئ التفكير، ومُبهر كالألعاب النارية؛ ذهبت للقائه في الفندق حيث يقيم خلال زيارته مانهاتن.
جاليانو هو أكثر الكتاب المشهورين الذي قابلتهم تواضعًا؛ قدم لي فنجانًا من القهوة، وأشعل سيجارة فرنسية رفيعة وطويلة، واستراح على الأريكة، ثم حلّت الكارثة؛ لم أتمكن من تشغيل المسجل الرقمي الجديد الذي أحضرته لتسجيل الحوار، رغم أني قضيت الليل في بيتي أجربه. جاليانو النبيل حاول معرفة السبب وراء توقف هذا الشيء. وقبل أن ندرك؛ كانت ساعة كاملة قد مرت. وشعرت بالإحراج الشديد، حتى قال جاليانو "في المخطط الكبير؛ هذا لا يهم. دعنا نحدد موعدًا جديدًا للحوار".
اللقطة الثانية: بعد بضعة أيام في نفس الجناح الفندقي. هذه المرة أحضرت مسجلاً قديمًا يعمل بالشرائط الممغنطة، يتطلب فقط الضغط على زر والتحدث إلى الميكروفون. أحضرت القائمة التي تحوي 23 سؤالًا، ولكن، ما أن أوشكت على قراءة أول سؤال؛ ولأن أعمال جاليانو عادة تبدأ بقراءة في الصحف اليومية، فقد قررت سؤاله عن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. وبمجرد أن حِدتّ عن السيناريو الذي وضعته مسبقًا؛ لم تعد هناك فرصة للتراجع. وبعد تسعين دقيقة انتهت مدة الشريط الممغنط، وانتهى حديث جاليانو دون أن نتطرق لأي من الأسئلة التي وضعتها.
الأكثر من هذا؛ لم تكن لدي أية فكرة عما قاله. كنت مستغرقًا تمامًا في ارتجاله المبهر، مأخوذًا بعقله النهم للتقصي، حتى أنني شعرت كأنني أركب سيارة منفلتة السرعة، ليست لي أية سيطرة عليها.
احتفظت بقائمتي من الأسئلة. وأتمنى أن تتاح لي الفرصة يومًا كي أجري تلك المقابلة.
مانريك: جورج بوش الآن هو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بم يخبرنا ذلك عن الشعب الأمريكي -الذي يفضل بوش لأنه مناهض للفكر (anti-intellectual) بينما يحتقر آل جور لأنه -كما يقولون- ذكي أكثر من اللازم؟
جاليانو: في الحقيقة، لا يمكنني أن أضع يدي على فارق جوهري بين الاثنين.
مانريك: يروج بوش الابن لنفسه باعتباره مناهضًا للفكر.
جاليانو: لا أعرف ما إذا كان ذلك يشكل فارقًا أساسيًا. عندما تقرأ أو تسمع الخُطب، المناظرات على التلفزيون، فإن صوتيهما يبدوان متماثلان تقريبًا. فيما يتعلق بمسألة السياسة الخارجية خلال المناظرة الثانية، بوش وآل جور اتفقا على غزو جرينادا (بلد في نيكاراجوا) وغزو بنما وضرب العراق وقصف يوغوسلافيا. ربما لم أستطع أن أميز الاختلافات لأن لغتي الانجليزية ضعيفة جدًا.
وعلى أية حال فإن صورة بوش هي أنه سيطبق سياسة داخلية أقوى في قضية الأمن، وقضايا الأمن صارت تُشكِّل هاجسًا مقيمًا في بقاع عديدة من العالم خلال الأعوام الأخيرة، في ظل تزايد الجريمة وتراكم العنف في الشارع.
أثناء الحرب على يوغوسلافيا السابقة، أوصت مجموعة من الأطباء النفسيين الأمريكيين الآباء بتعليم أبنائهم الفرق بين العنف الزائف والعنف الحقيقي. وفي الوقت نفسه، كانوا يضربون صربيا وفكرت؛ إذا كان هناك أي شخص قادر على التمييز بين الخيال والواقع فيما يتعلق بالعنف، فإن هذا الشخص ساحر. انظر إلى السيناريوهات سترى أنهما [بوش وجور] الشيء نفسه.
لا أفهم كيف يمكن فرض العنف هكذا على نطاق كوني، من خلال مركز للقوة كالولايات المتحدة. أعتقد أن السبب يرجع لكون هذا البلد لم يتعرض للغزو منذ 1812. قرنين من الزمن لم تتعرض فيهما أمريكا لويلات الاحتلال، لم تتعرض للقصف أبدًا*، لكنها قامت بقصف وغزو العديد من البلدان.
مانريك: قُصفت ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولي، ومع ذلك لم يشكّل ذلك درسًا لهم. عانت يوغوسلافيا السابقة كثيرا خلال الحرب العالمية الثانية، وانتهى بهم المطاف (يقصد صربيا) إلى قصف البوسنة. يبدو لي أن العنف يولّد فقط المزيد من العنف.
جاليانو: لكن هناك شعورًا بالحصانة هنا عند استخدام العنف ضد أي بلد آخر، ويتعلق هذا بحقيقة أن هذا البلد لم يُقصف قط. وتلك الحصانة لها علاقة بما يحدث في العالم اليوم، عالم ترتكز فيه السلطة في أيادٍ قليلة جدًا. كما أن له علاقة بثقافة العنف المفروضة على الجهات الأربع الأساسية في العالم. لذلك أنا لا أعرف ما إذا كان هناك فرق كبير بهذا المعنى بين جور وبوش. تنتابني القشعريرة عندما أسمع أنهما اتفقا على أنه من المقبول تدمير جرينادا أو قصف أفقر حي في مدينة بنما، ليُقتَل آلاف الأبرياء.
مانريك: كلاهما مدافعان عن الإمبريالية. عندما هيمنت إنجلترا أو إسبانيا أو الرومان على العالم؛ كان سلوكهم مماثلاً جدًا؛ فرض الرؤية الإمبريالية بالقوة.
جاليانو: لم تكن بنية السلطة مماثلة لما نشهده اليوم. كما أن العنف يمكن ممارسته بطرق خفية أكثر من ذي قبل. إن العنف ليس مجرد قصف بلد، بل فرض منهجك ورؤيتك على بلد آخر، أو كما يمارس التكنوقراط في صندوق النقد والبنك الدوليين الأصولية الاقتصادية، فارضين الطريق "الصحيح" على العالم بأكمله. في الواقع، إنهم يحكمون سلطات البلدان الأخرى، ولكن دون أن ينتخبهم أي شخص. ويتوافد وزراء الاقتصاد على واشنطن كي يتسولوا العفو في كل إجراء يتخذونه. لم يشهد تاريخ العالم شيئًا مماثلاً من قبل.
يتساءل المرء؛ كيف تعمل هذه الكائنات التي تشكل تلك "الحكومة العالمية"؟ هل هي ديكتاتوريات غير مرئية على نطاق عالمي؟ يدير صندوق النقد الدولي خمس دول، البنك الدولي أكثر ديمقراطية بعض الشيء، الأمم المتحدة تديرها الدول الخمسة التي تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن، ولمنظمة التجارة العالمية الحق في التصويت لكنه لا يُستخدَم. وهذا فارق أساسي فيما يتعلق بالفترات التاريخية السابقة، لأنه ينطوي على استخدام المال لفرض سياسات اقتصادية قامعة للناس، ويُعلي من حرية المال على حساب حرية البشر، بما لذلك من عواقب كارثية على غالبية بني الإنسان.
مانريك: هذا واحد من الموضوعات الرئيسية في كتابك الأخير "رأسًا على عقب". لكن كثيرًا من الناس لا يفهمون ما تعنيه عولمة الاقتصاد. كنت في بيرو مؤخرًا ورأيت آثارها؛ الناس الذين يمكنهم الحصول على الدولار يعيشون بشكل جيد للغاية. أما باقي السكان، 99% من البيروفيين، ممن يتقاضون رواتبهم ويعيشون بالعملة المحلية (سول)؛ الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى الدولارات؛ فصار عليهم أن يعيشوا عمليًا كالعبيد حتى يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة.
جاليانو: إنه التناقض الهائل في عالم اليوم؛ لديك نظام سلطوي يحتاج إلى عمالة رخيصة الثمن، ولكن في الوقت نفسه، يحتاج إلى أن يبيع إنتاجه. وكي يبيع، فإنه في حاجة إلى توسيع السوق. هذا التناقض ليس له حل داخل حدود النظام، لأن الفوارق بين من يملكون ومن لا يملكون تنمو وتتسع، وتفصح عن نفسها على نطاق دولي.
الأرقام التي تعتمدها تلك الكائنات الدولية الحاكمة واضحة جدًا، إنها أرقام يجمعها أؤلئك الذين يديرون العالم، أحيانًا تكون هذه الأرقام كاشفة للحقيقة. في عام 1960، كان من لا يملكون شيئًا يمثلون 30 ضعفًا من عدد من يملكون. أما الآن؛ فعدد من لا يملكون شيئًا يبلغ 90 ضعف المستحوذين على الثروات. خلال أربعين عامًا فقط (وقت إجراء الحوار) صار الفارق ثلاثة أضعاف. الفجوة بين الطرفين إذن مستمرة في الاتساع.
التناقضات الاجتماعية يتم التعبير عنها الآن بوضوح في أخبار جرائم الشوارع، بأكثر مما تظهر في الصفحات السياسية في الصحف. وأعتقد أن هذا هو التوثيق اليومي المأساوي للظلم الاجتماعي داخل كل بلد، ولكنه أيضا تعبير عن المنظومة العالمية غير العادلة.
مانريك: في كتابك الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية المكتوب قبل ثلاثين عامًا، تقول إن أمريكا الجنوبية قنبلة موقوتة. هل تعتقد أن القنبلة على وشك الانفجار؟
اقرأ أيضًا: السد والأرز والدولة.. العنصرية البيئية تجاه فلاحي الدلتا
جاليانو: خذ على سبيل المثال هاييتي، أفقر بلد في أمريكا. إنها ديمقراطية حديثة الولادة، لا تزال غير قادرة على السير بمفردها. الوضع الاجتماعي مثل قنبلة موقوتة. وكيف يساعد البنك الدولي؟ تكنوقراطيو البنك الدولي حظروا تقديم الدعم إلى الإنتاج الوطني من الأرز. وبالطبع، فإنهم لم يحظروا على الإطلاق الدعم المقدم للإنتاج الوطني من الأرز في الولايات المتحدة، والذي تعلو قيمته بكثير حصيلة الدعم الذي كان يُقدّم لفلاحي هاييتي. والنتيجة هي أن الهايتيين يأكلون الأرز القادم من أمريكا الشمالية، ودُمرت حياة الفلاحين الذين كانوا يعتاشون من زراعة الأرز. الآن يغادر الناس هايتي على متن تلك القوارب الصغيرة الهشة. وكثير منهم يموتون في البحر الكاريبي، مثل ما حدث قبل بضعة أشهر مع 60 مهاجرًا، جميعهم من مزارعي الأرز الذين لم يصلوا أبدًا إلى ولاية فلوريدا.
يأتي ضباط الأمن إلى نيويورك من عدة بلدان في أمريكا اللاتينية في موكب ديني بعد معجزة جولياني (المقصود هو نجاح عمدة نيويورك الأسبق في مكافحة الجريمة)، لكي يتعلموا منه. ولكن من المنطقي أن تنخفض الجريمة في الولايات المتحدة، وليس فقط في نيويورك، لأن تشغيل العمالة في ازدياد. إن الصلة الإحصائية الطردية بين انخفاض البطالة وانخفاض الجريمة ليست عملًا بطوليًا من رئيس البلدية.
في أمريكا اللاتينية، تنطوي أساطير الحكومات الجائرة على حنين مكتوم للدكتاتوريات العسكرية. هذا خطر فادح يتهدد الديمقراطية.
مانريك: يبدو لي أن العديد من بلدان أمريكا اللاتينية ليست جاهزة للديمقراطية. فالديمقراطية تنطوي على نظام داخلي للإصلاح، وحكومة ذات ضمير اجتماعي، ومساحة مفتوحة كافية تتيح التبادل الحر للأفكار. في كولومبيا، لدينا ديمقراطية إسمية فقط، وهذا ينطبق على غالبية بلدان أمريكا اللاتينية. هل تعتقد أن الديمقراطية هي حقًا ما تحتاج إليه دول العالم الثالث؟ ولماذا يوجد هوس لدى أمريكا بفرض الديمقراطية؟
جاليانو: حسنًا، في الواقع هناك ازدواجية في المعايير. فمن وجهة نظر الولايات المتحدة، تكون الدولة ديمقراطية إن كانت تشتري السلاح من الولايات المتحدة. أكثر دول العالم انتهاكًا لحقوق الإنسان هي المملكة السعودية، لكنك لن تسمع أبدًا كيان سياسي رسمي ينتقد السعودية، لأنها واحدة من المشترين الرئيسيين للسلاح من الولايات المتحدة.
مانريك: ومنتجة للبترول.
جاليانو: إنها مبادلة السلاح بالبترول. نفس الشيء يحدث مع أسوأ الديكتاتوريات في جميع الأوقات، سوكارنو في اندونيسيا، الذي يقول الخبراء إنه قتل مليون شخص، كان أيضًا طفلًا ذهبيًا للحكومة الأمريكية. ناهيك عن أمريكا اللاتينية بطبيعة الحال. انظر إلى ما حدث مع بينوشيه، الذي هُتِف له هنا (في الولايات المتحدة) باعتباره مُخَلِّص شيلي، ومنتج المعجزة الشيلية - حتى الافتتاحيات في صحيفة نيويورك تايمز، قدمت الشكر له، لأن شيلي لم تعد جمهورية موز. وفي وقت لاحق، أصبح بينوشيه هو الرجل الشرير.
مانريك: إذا كانت شيلي على حافة السقوط في أيدي الشيوعية، فإن الولايات المتحدة لم تكن لتشيد بالقبض على بينوشيه؛ وكانت لتطالب بإطلاق سراحه فورًا.
جاليانو: لو أنهم يريدون فعلاً أن يساعدوا في فرض الديمقراطية على العالم، فلماذا تعارض الولايات المتحدة إنشاء محكمة جنائية دولية للجرائم التي يرتكبها إرهاب الدولة؟ ينبغي أن يكونوا هم أول دعاة للقضية، بدلًا من معارضتها. كيف يمكن لأحدهم الحديث عن الديمقراطية بينما يفرض حمايته على السلطويين، ويمارس دور مركز القوة في نظام لا يتمتع بالديمقراطية في علاقاته الأكثر أهمية مع باقي دول العالم؟ لماذا تنكر الولايات المتحدة على غيرها من البلدان حق تقرير المصير، ليس فقط من خلال التدخل العسكري؛ ولكن أيضا من خلال أشكال جديدة من الهيمنة، وذلك باستخدام التكنوقراطية الدولية لممارسة دور القراصنة في العصر السيبراني. قراصنة لا يسيرون ببغاوات على أكتافهم، لا يضعون خطاطيف موضع أياديهم، لكنهم قراصنة جدد، يستخدمون الكمبيوتر. هم القراصنة الجدد في بحار هذا العالم.
يقول السياسيون شيئًا ويفعلون شيئًا آخر، بحسب ما يمليه هيكل السلطة العالمي المهيمن عليهم. هناك قصة تُقال كنكتة رغم أنها قد تصير حقيقية: رئيس من أمريكا اللاتينية جاء إلى واشنطن للتفاوض على ديون هائلة مستحقة على دولته. عند عودته، يعلن لشعبه "لدي أخبار جيدة وأخرى سيئة. الخبر السار هو أننا لم نعد مدينين، والخبر السيِّئ هو أن لدينا 24 ساعة لمغادرة البلاد".
أعتقد لو أن الولايات المتحدة تعتزم إعطاء العالم دروسًا في الديمقراطية؛ فإن لنا أن نطرح أسئلة مثل: لم يشارك عدد قليل من الناس في الانتخابات التي تجري هنا (في أمريكا)؟ في دولة صغيرة مثل الأوروجواي نسبة المشاركين في التصويت عادة ما تكون ضعف مثيلتها في الولايات المتحدة. ولماذا يعتمد المرشحون هنا على الثروات الممنوحة لهم من الشركات الكبرى؟ فقط 2% من السكان في أمريكا الشمالية يسهمون في تمويل الحملات الانتخابية، وبالتالي هؤلاء هم من يتخذون القرار. ما يثير ذعري حقًا هو رؤيتي للولايات المتحدة تقرر أي البلاد تًعدُّ ديمقراطية وأيها ليست كذلك. الحقيقة هي أن شعب الولايات المتحدة، بشكل عام، مُضَلًل جدًا بخصوص ما يحدث في العالم.
مانريك: إنهم غير مهتمين.
جاليانو: الأخبار التلفزيونية عن البلدان الأجنبية هنا في الولايات لا تشغل أي وقت، بالكاد يتم ذكر أي شيء عن بقية العالم. إن استخدام مصطلح "الدوري العالمي" للبيسبول، الذي يجري في أمريكا الشمالية بمشاركة فريقين كنديين اثنين؛ مماثل لقول: "نحن العالم". هذا يحط من قدر بقية العالم. فباقي العالم خارج هذا البلد مثل الثقب الأسود.. منطقة تهديد.
كم من الناس يعرفون أين تقع جواتيمالا على الخريطة؟ في جواتيمالا قُتل 200 ألف شخص على يد ديكتاتوريات عسكرية مُوِّلِت ونُظمِت وتلقت الدعم من واشنطن. كيف يمكن أن يقرر هذا البلد (الولايات المتحدة) مصير ما تبقى منا، بينما مواطنيه لا يعرفون حتى من نحن؟
ينبغى أن نكون حذرين بخصوص ما يُسمى العولمة. إنها ليست نزعة دولية، بل بالأحرى فرض لثقافة الاستهلاك والعنف على العالم.
مانريك: يبدو أن القيم الأقوى داخل الولايات المتحدة، وفي الطبقات المهيمنة في العالم هي القيم النفعية المادية.
جاليانو: ربما هم عمليون أكثر، من يدري؟ ولكن العالم يحتوي على مصادر أخرى للطاقة: هذا هو الثراء الحقيقي. هناك العديد من العوالم محتواة في هذا العالم! مصادر للطاقة والأمل. لسنا ملعونون بطريقة واحدة للحياة تجبرنا على الاختيار بين الموت من الجوع أو الموت من الملل. ولكن ليس من السهل في هذه الأيام إعادة اكتشاف هذه الينابيع البديلة. إنها تعاني، دعنا نقول أزمة من قلة الاحترام. ونظام السلطة يسيره محركين فعَّالين جدًا: الخوف والجشع.
شُوف! عندما كتبت "الشرايين المفتوحة" في السبعينات، كان هناك إجماع عالمي على أن الفقر نتيجة لانعدام العدالة الاجتماعية. كان ذلك حسًا منطقيًا بشَّر به اليسار. قبِل به المركز، واليمين لم ينازع. نعم هناك ظلم اجتماعي وهو سبب الفقر. ولكن؛ بعد ثلاثين عامًا تغيرت الأفكار بشكل جذري، فالفقر الآن يعتبر ثمرة عدم الكفاءة. إذا كنت فقيرًا، فذلك لأنك تستحق أن تكون فقيرًا، لأنك بلا جدوى.
مانريك: هذا التناقض يثير اهتمامي: مفهوم التنوع نشأ وتطور في الولايات المتحدة. وفي كولومبيا، بلدي، يتكلمون الآن قليلًا عن التنوع، ولكنه(المجتمع الكولومبي) كان دائمًا، قبل كل شيء، مجتمع رجعي. حتى الأذكياء يجاهرون بعنصريتهم، معادون للسامية، طبقيون، ويعتقدون أن الفقر هو نوع من الأمراض المعدية. وأنا لن أذكر حتى شعورهم تجاه المثلية! في الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، هناك تغيير واضح. ولكن كلما زرت أمريكا اللاتينية، فإن الطبقة القوية والمثقفة لا تزال عنصرية، وطبقية، وتنظر بدونية للنساء، مصابة برهاب المثلية، ومعادية للسامية.
جاليانو: العالم أعمى وأصم. لا يمكننا سماع الأصوات التي تستحق أن ننصت إليها. نحن عميان عن قوس قزح الذي يمثله التنوع البشري. العنصرية والشعور بالتفوق والانحياز الجنسي وكراهية المثليين ليست - للأسف- حكرًا على أمريكا الجنوبية. يمكنك أن تجد هذه العلامات البائسة في أماكن عديدة. إنها منظمة، وغالبًا ما تكون ذات نزعة إجرامية تحمل في قلبها إنكارًا للحق في الاختلاف والتعددية.
وبالإضافة إلى مناقشة التنوع، يمكننا وضع هذه القيمة موضع التنفيذ، بدءًا من استعادة التضامن الإنساني. بالنسبة لي؛ التضامن أفقي في حين أن العمل الخيري رأسي. يُمَارَس التضامن بين المتساوين، ويولد من الاحترام المتبادل. بينما العمل الخيري يمارسه اؤلئك المتمتعين بمركز فوقي تجاه من هم دونهم من متلقي الإحسان. من المهم أن نبرز هذه الفكرة؛ لأن الإحسان -بمنظوره الفوقي- تجري ممارسته يوميًا على نطاق واسع، أما التضامن فيُبخَس قدره. نحن بحاجة إلى أن نصحح لبعضنا البعض هذا المنظور، فهذا هو المفتاح الحقيقي لقبول تنوعنا واختلافنا باعتباره حقيقتنا الإنسانية.
مانريك: لم يعد المفكرون مهتمين بتخيل العالم كما يمكن أن يكون. في الولايات المتحدة، حيث ترتفع نسبة الرفاهية، يعتقد الناس أن كل شيء على ما يرام وأنه سيبقى على هذا النحو. إلى أين سيأخذنا هذا التراجع في منسوب التفكير الطوباوي (المثالي) في اعتقادك؟
جاليانو: يأخذنا مباشرة إلى العجز التام. هناك حكاية عن اليوتوبيا أراها كاشفة جدًا. حدثت في بلدك، كولومبيا، التي ظلت تعاني من العنف سنوات عديدة. بعدما انتهيت من محاضرة في جامعة كارتاهينا دي إندياس مع المخرج السينمائي فرناندو بيري؛ سأل أحد الطلاب فرناندو عن مسألة اليوتوبيا فرد فرناندو "اليوتوبيا تلوح في الأفق، وأنا لن أصل إليها لأنه إذا كنت أمشي عشر خطوات نحو الأفق، فالأفق يتحرك عشر خطوات أخرى، وإذا مشيت 20 خطوة صوب الأفق، سأظل على بعد 20 خطوة منها. السبب في أننا نؤمن باليوتوبيا هو أنها تجعلنا نواصل السعي". هذه هي الطريقة الأجمل لتعريف اليوتوبيا.
في عالم اليوم، اليوتوبيا سمعتها سيئة لأنها ليست مربحة. أتذكر أنطونيو ماشادو، الشاعر الإسباني العظيم، قبل حوالي 80 عاما كتب: "الآن أي أحمق يخلط ما بين القيمة value والسعر price". اليوتوبيا لا ثمن لها، لا يمكنك أن تجني عبرها الأموال. بهذا المعنى هي غير فعالة، ولا تستحق الوجود.
في الأيام الأخيرة كنت أفكر في تعبير" ضريبة القيمة المضافة". هو موجود عندكم في كولومبيا، وعندنا في أورجواي أيضًا. هناك كذلك ضريبة غير مرئية ندفعها جميعًا وإن لم نلحظ ذلك. شيء يمكن تسميته "ضريبة الألم المضافة". هناك آلام لا يمكنك تفاديها، آلام حتمية في الحياة لا يسلم منها أحد: آلام المشاعر الإنسانية، الوقت، والموت. ولكن هناك آلام إضافية تأتي من نظام القوة العالمي الذي ينشر الجوع والعنف والخوف والعزلة.
عند قراءة التقارير الرسمية للبنك الدولي والأمم المتحدة، تدرك أن الأموال المهدرة في شراء الأسلحة خلال 12 يومًا؛ تكفي لتوفير الغذاء والمدارس والرعاية الطبية لجميع الأطفال الفقراء في العالم. فقط 12 يومًا. ربما قد تكون اليوتوبيا طريق نسعى فيه نحو عالم لا توجد فيه "ضريبة إضافية الألم"، عالم يُستخدم فيه المال لإنقاذ الحياة بدلًا من مضاعفة حصاد الموت.
مانريك: أشار إليك أحد رفاقك بوصفك صوت لمسار جديد تشهده أمريكا اللاتينية في القرن الحادي والعشرين. حركة الهنود، السود، المثليين، النساء، جميع الأقليات.
جاليانو: النساء لسن أقلية بالضبط؛ إنهن أكثر من نصف البشرية. ولكن المرأة محرومة من حقوقها بالفعل في جميع أنحاء العالم. وهذا، بطبيعة الحال، يسري أيضًا في أمريكا اللاتينية، حتى لو تحسنت الحالة بسبب التنظيم والكفاح.
مانريك: والسكان الأصليون؟
جاليانو: لحسن الحظ، هناك صحوة في حركة السكان الأصليين في الأمريكيتين، من ألاسكا إلى تييرا ديل فويجو. الحملات تتخذ تحت أسماءً أخرى، والمقاومة تستمر في السعي. السكان الأصليون يعيدون إحياء التقاليد التي -بمعجزة ما- لم تندثر، وأنا لا أعرف كيف، بعد خمسة قرون من الاضطهاد والمذابح والازدراء. لقد عانوا من اللعنات السبعة التي أصابت مصر (إشارة للعنات العشرة التي أنزلها الله بالمصريين وفقًا للعهد القديم) بل وأكثر من هذا؛ لكنهم خلًدوا الكثير من التقاليد الموروثة عن أجدادهم القدامى.
هذه الأصوات من الماضي تتحدث عن مستقبل البشرية جمعاء. على سبيل المثال، تقاليد الكوميونة القديمة، التي تنطوي على التكافل في الحياة والعمل والبعيدة تمامًا عن قيم الجشع. على سبيل المثال أيضًا؛ تقليد الشراكة مع الطبيعة: كل واحد منا يجب أن يشترك في هذا الإيمان قبل فوات الأوان.
المنظمات المهتمة بمنظومة التوازن البيئي؛ أوضحت بالدلائل أن العالم فقد ثلث موارده الطبيعية في السنوات الثلاثين الماضية (1970-2000) هل نستطيع أن نستمر في قبول نظام يسمم الهواء والأرض والروح؟ معظم الناس لا تزال تنظر للطبيعة كما لو أنها بطاقة بريدية أو حديقة.
مانريك: هم لا يرون البشر كجزء من الطبيعة.
جاليانو: ولكن أقدم التقاليد في الأمريكيتين، التراث الثقافي العظيم، يعلمنا أننا إخوة وأخوات لكل ما لديه سيقان أو مخالب أو أجنحة، أو جذور. الشيء الذي يدعى "الحضارة" يحارب هذا الإيمان منذ ما يسمى اكتشاف أمريكا. أولا كانت الحرب باسم الله، ثم صارت باسم التقدم. من يدري عدد الهنود الذين تعرضوا للتعذيب أو القتل بسبب "خطيئة الطوطمية"؟ في الوقت الحاضر، الجميع يتحدث عن حماية الطبيعة. ولكن الطبيعة لا تزال شيئًا غريبًا بالنسبة لنا، شيء ينظر إليه على أنه أفق جميل للنظر. نحن لا ننتمي إلى الطبيعة، ولا نزال غير قادرين على إدراك أن أي جريمة ضدها تصبح انتحارًا. ما زلنا نعاني من هذا الانفصال الثقافي التام.
مانريك: بعد قراءة الصفحات الأخيرة من "رأسًا على عقب" حول الفكر الطوباوي، قلت لنفسي: لا أعتقد أن جاليانو متفائلٌ جدًا.
جاليانو: ما أراه يقينًا إنما يتناول الشك كوجبة إفطار. أنا لا أثق بالتفاؤل الدائم. لكن هناك حركات متنوعة في العالم تتحرك لمواجهة القوى العالمية المهيمنة. حركات قائمة على التضامن والاحترام المتبادل: الحركات البيئية، الحركات من أجل حقوق المثلية، وحقوق الإنسان، واحترام التنوع والاختلافات، والحركات النسوية التي ترتكب أحيانًا بربرية مثل التحيز الجنسي العكسي. ولكن بشكل عام، أود أن أقول أن هذا كله أخبار سارة للعالم.
حركات القوى المحلية، أحيانا تكون في قرى أو أحياء صغيرة، لكنها لا تزال كبيرة جدًا في تأكيد الديمقراطية والمشاركة. يبدو لي أن هناك أسبابًا عديدة للتفاؤل، لذلك نحن لا يجب أن نحدق في الأرض ونشعر وكأن الأمر قد انتهى. هناك طاقات جميلة تغيِّر العالم. لست بالطبع مترجمًا لكل هذه الحركات، لكن من المفرح بالنسبة لي أن أشعر بأنني أسهم في هذا التغيير.
مانريك: يتحدث الجميع عن الاشتراكية كما لو كانت ميتة. هل تعتقد أنه ستكون هناك اشتراكية مختلفة في المستقبل؟ ما يقلقني من فشل الشيوعية وحتى الاشتراكية هو أنها تعتمد دائما على النظام الأبوي، البطريرك يملي على الناس الأفكار والأفعال.
جاليانو: هذا انفصال آخر؛ العدل والحرية منفصلان، تمامًا كانفصال الناس عن الطبيعة، والروح عن الجسم، والماضي عن الحاضر، والعاطفة عن العقل. النظام الرأسمالي، هذا الذي يسمى بـ"اقتصاد السوق"، ضحّى بالعدالة باسم الحرية، وقد ضحى ما يسمى "الاشتراكية الحقيقية" بالحرية؛ باسم العدالة. في بداية الألفية الجديدة، هذا هو التحدي: نريد العدالة والحرية، توأمين ملتصقين، الحياة والتقدم، نريدهما معًا.
-----------
(*) تعرضت الولايات المتحدة للقصف في ديسمبر 1941، عندما شن الطيران الياباني هجومًا على قاعدة وميناء بيرل هاربور. ونتيجة لهذا صارت الولايات المتحدة طرفًا في المعسكرات المتصارعة خلال الحرب العالمية الثانية.