تصميم احمد سيف، المنصة، 2025.
شهد تاريخ المذهب البروتستانتي تحولات درامية، من الإصلاح الدعوي، إلى دعم اليمين.

الصهيونية نعرفها.. فمن هم الإنجيليون؟

منشور الخميس 25 كانون الأول/ديسمبر 2025

قبل عدة أيام أقامت تصريحات المحللة السياسية هند الضاوي الدنيا ولم تقعدها بحديثها عن تدريب إسرائيل لمائة ألف قس إنجيلي لتبييض صورتها التي شُوِّهت وفُضِحَت جراء حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

تناولت الضاوي بالتشكيك نصوصًا من سفر إشعياء في العهد القديم من الكتاب المقدس خاصة ما يتعلق بنبوءات يعتمد عليها بعض الإنجيليين في الولايات المتحدة لتوفير دعم قطاعات كبيرة من المسيحيين للدولة العبرية، ما استدعى ردًا من أحد أعضاء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بجانب مجموعة من البلاغات للنيابة العامة تتهمها بالازدراء والتحريض وإثارة الفتنة الطائفية.

لم تكن هند الضاوي تتكلم من فراغ، على الأقل فيما يتعلق بنوايا تدريب الآلاف من القساوسة الإنجيليين في إطار تعبئة القواعد الإنجيلية الصهيونية في الولايات المتحدة، التي شهدت هذا الشهر زيارة أكبر وفد من الكنائس الإنجيلية في تاريخها إلى إسرائيل ضم ألف قس.

أقيم المؤتمر على هامش الزيارة كلمة افتتاحية من السفير الأمريكي في القدس وهو نفسه حاكم ولاية أركنساو السابق وأحد رؤساء الكنائس المعمدانية الإنجيلية في الولايات المتحدة، وأحد أشد داعمي إسرائيل بحكم انتمائه لما يمكن وصفه بالمسيحية الصهيونية، وهي تيار داخل الحركة الإنجيلية البروتستانتية يعتبر أن نشأة إسرائيل تحقيق لنبوءات الكتاب المقدس (ومن ثم إشارة الضاوي لسفر إشعياء)، وأن عودة اليهود إلى أرض الميعاد علامة من علامات قرب عودة المسيح إلى الأرض.

كان حضور هذا التيار، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي، مؤثرًا في صياغة بعض ملامح السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل، بإضافة أبعاد دينية مستمدة من التراث المسيحي-اليهودي المشترك، لعل أبرزها كان قرار ترامب في ولايته الأولى بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس جزءًا من وعوده الانتخابية لقواعد مسيحية محافظة.

كما ظهر في دفع بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي من الحزب الجمهوري نحو تغيير اسم الضفة الغربية المحتلة إلى المسمى التوراتي يهودا والسامرة، وذلك محاولةً لدفع إدارة ترامب لتأييد ضم إسرائيل للضفة الغربية وفرض السيادة عليها.

مع العلمانية

لا يوجد تعريف واحد ولا حتى دقيق لما يمكن اعتباره حركة إنجيلية، إذ كثيرًا ما استُخدم لفظ "إنجيلي" للإشارة إلى التبشير بالمسيحية في مراحل مختلفة، ومن مذاهب مسيحية متنوعة.

أما اعتبار البعض إنجيليين في عالمنا المعاصر فيرتبط بتطورات اجتماعية وثقافية في العالم الأنجلو-أمريكي منذ القرن الثامن عشر، تلك التطورات التي تعقبها مؤرخون من خلال أنشطة قساوسة ينتمون لمذاهب بروتستانتية مختلفة، أغلبها في التراث الإصلاحي لجون كالفن، وإن كان بعضها من تراثات أخرى داخل الكنيسة الإنجليزية.

أنشطة القساوسة تلك سعوا من خلالها إلى التبشير لا لتحويل غير المسيحيين إلى المسيحية، رغم أن هذا النشاط كان حاضرًا خارج المجتمعات المسيحية بطبيعة الحال، ولكن هؤلاء ركزوا على المسيحيين أنفسهم لتجديد تمسكهم بالإيمان المسيحي، خاصة فيما يتعلق بسلوكياتهم وأخلاقياتهم الخاصة والعامة.

ترتبط الحركة الإنجيلية المعاصرة بظهور ما يشبه، في السياقات الإسلامية المعاصرة، "الدعاة" بين أوساط المسلمين لتنقية عقيدتهم وضبط سلوكهم وتذكيرهم بصحيح الدين، مع الفارق أن الظاهرة الإنجيلية ترجع إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، خاصة في الأوساط الأنجلو-أمريكية أي بين بريطانيا والولايات المتحدة فلماذا ذلك التوقيت؟ ولماذا ذلك الحيز الجغرافي، اللغوي، الثقافي؟

أما الزمان فقد اتصل بتحولات يمكن وصفها بالعلمانية التدريجية للحياة السياسية في بريطانيا، ثم في الولايات المتحدة، بما أتاح اعتبار الاعتقاد والعبادة الدينيين ضمن المجال الخاص للأفراد تبعًا للتصور الليبرالي الكلاسيكي، الذي أخذ في الهيمنة أعقابَ ما كان يعرف بالثورة المجيدة في بريطانيا عام 1688، التي أرست الدعائم الباقية إلى اليوم لنظام ملكي دستوري تتمثل فيه السلطة الفعلية في البرلمان.

ورغم أن الثورة المجيدة هذه حظرت أن يتولى حكم بريطانيا ملك كاثوليكي، إذ يرأس الملك الكنيسة الإنجليزية بحكم التعريف فلا يصح أن يكون خاضعًا للبابا في روما، وبالتالي فإنها لم تكن ثورة علمانية بالكامل، إنما كانت خطوة حاسمة في مسار طويل للغاية بدأ قبل قرنين تقريبًا لفصل الانتماء السياسي عن الانتماء الديني باعتبار الأول شأنًا عامًا، والآخر خاصًا مع العلم أن الفارق بينهما لم يكن كما هو اليوم إذ ظلت هناك قيود حول مد الحقوق السياسية إلى الكاثوليك واليهود إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر للمجموعة الأولى والنصف الثاني للأخيرة.

تواضع ما يمكن وصفه بالعلمنة في السياق البريطاني آنذاك، لم يمنع خلق مساحات من السياسة متحررة نسبيًا، بدءًا من القرن الثامن، كما شمل تسامح السلطة السياسية مع نطاق واسع للغاية من الممارسات والاعتقادات البروتستانتية حتى بما في ذلك داخل الكنيسة الإنجليزية نفسها.

الوعظ الجماهيري الحديث

هكذا كان سياق ظهور العديد من الحركات والطوائف والمذاهب في السياق البروتستانتي، ارتكز بعضها على أسئلة العقيدة، أسئلة اللاهوت والناسوت، وبعضها على التنظيم الكنسي، بينما ركز بعضها الآخر على الأخلاق والسلوك المسيحي القويم، وقد كُتب لهذا الاتجاه الأخير الاستمرار لينتج لنا الجسم الرئيسي للحركة الإنجيلية الأمريكية في القرن العشرين، خاصة مع تراجع التدين والممارسة الدينية في بريطانيا في العقود الماضية.

ظهر وُعَّاظ ودعاة يتحدثون لجمهور أوسع بلغة بسيطة بما يعكس الحرية الدينية النسبية من ناحية، وميل البروتستانتية إلى التنوع بل والتفتت من ناحية أخرى خاصة خارج الكنيسة الإنجليزية، التي لم تحسم أمرها عقائديًا قط لكي تصبح بروتستانتية بالكامل، وفي ظل غياب كنائس جامعة هرمية التنظيم كالكنيسة الكاثوليكية أو كنائس قومية ذات محتوى مذهبي واضح كالكنائس اللوثرية في إسكندنافيا وألمانيا.

وما زال الوضع كذلك في الولايات المتحدة، التي تسجل إحصائيًا أكثر شعوب العالم الحر تدينًا، إذ لا يزال عشرات الملايين من الأمريكيين يعتقدون ويمارسون نوعًا ما من المسيحية.

من هنا كانت الإنجيلية كحركة وعظ بمثابة شبكات فضفاضة لوعاظ ومبشرين ينتمون لكنائس وطوائف بروتستانتية متنوعة.

لقد أخذت الإنجيلية شكلها الجماهيري هذا منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من خلال حشود ومؤتمرات للمؤمنين داخل كنائس أو في الهواء الطلق لأناس مثل دوايت موودي، والنموذج الذي كان يحتذيه في بريطانيا وقتها تشارلز سييرجين.

توسع ذلك النموذج مع التحول الرأسمالي والتقدم التكنولوجي في القرن العشرين خاصة مع ظهور مكبرات الصوت ثم الراديو والتليفزيون بالطبع والسينما قبل الإنترنت، وفي هذا السياق شغل الحيز الديني في الولايات المتحدة وعاظ كبار مثل بيلي صانداي (وكان أصلًا لاعب بيسبول شهير قبل أن يتحول لواعظ)، ومن بعده بيلي جراهام وغيره ممن باتوا يعرفون منذ الخمسينيات الإنجيليين التليفزيونيين Televangelists.

ركز الوعاظ على رسائل عامة طالما دارت حول الإيمان بالمسيح والروح القدس، والإقلاع عن الخمر والمخدرات، والعمل على تنمية الذات من خلال التعليم أو ترشيد الإنفاق، وكان هذا إيذانًا بتراجع الموقع التقليدي الذي احتلته السجالات اللاهوتية من قبل، بل إن المذاهب داخل الجسم البروتستانتي أخذت تفقد أهميتها لصالح هوية واسعة للمسيحيين المتدينين باعتبارهم جميعًا إنجيليين، سواء كانوا آتين من كنائس مشيخية أو معمدانية أو اتحادية أو ميثودية وغيرها كثير.

صعود أصولي

يرشدنا هذا إلى خيط آخر شكَّل الحركة الإنجيلية المعاصرة في السياق الأمريكي، وهو التوتر الذي ساد داخل المعسكر البروتستانتي منذ منتصف القرن التاسع عشر، ولكن خاصة في بداية العشرين بين تفسيرات ليبرالية للمسيحية تدفع باتجاه تماهي المسيحية مع الأخلاق القويمة والقيم الإنسانية بما يتجاوز لا وحسب المذاهب والطوائف بل المسيحية نفسها كدين.

كانت قراءة هؤلاء اللاهوتيين ورجال الدين، ممن انتموا لكنائس ومذاهب بروتستانتية مختلفة في العالم الأنجلو-أمريكي، أن الحداثة ذاتها بما فيها العلم والديمقراطية وحقوق الإنسان إنما هي ثمار الإصلاح الديني المسيحي الذي بدأ قبلها بقرون في وسط أوروبا.

لكن كان في مواجهة هؤلاء تيار آخر، مكون هو نفسه من تيارات بالمناسبة مع الميل الغريزي للبروتستانتية نحو التجزؤ والتعدد، تمسك بما اعتبره "أصولًا" للمسيحية، ومن ثم بات يُسمى عند مطلع القرن العشرين بالأصولية المسيحية Fundamentalism.

وهو تيار تركز في البداية بين علماء لاهوت رأوا أن المسيحية الليبرالية لا تُعد مسيحية أصلًا أو بما فيه الكفاية، وأنها إنما تشكلت تحت وقع ضغوط العلمانية السياسية والثقافية التي ضربت العالم المسيحي في أوروبا وأمريكا الشمالية بعد الثورة الفرنسية الكبرى، وفي أعقابها.

لم تقتصر الأصولية في القرن التاسع عشر على بريطانيا والولايات المتحدة لكنها امتدت إلى هولندا وألمانيا والسويد، إلا أن العلمنة المجتمعية في أوروبا أدت خلال القرن العشرين إلى انخفاضات كبرى في نسب المتدينين وربما المؤمنين أصلًا بالأديان، بما جعل أسئلة الليبرالية والأصولية حكرًا على السياق الأمريكي.

وجدت الأصولية طريقها إلى الجمهور الإنجيلي من خلال مواقف ذات طابع اجتماعي وسياسي لا في صورة الجدالات اللاهوتية المعقدة التي شغلت معاهد وجامعات الساحل الشرقي من الولايات المتحدة في القرن العشرين.

لعل أبرز تعبيرات الأصولية المسيحية في العقود الأخيرة هي المواقف المحافظة اجتماعيًا ضد الإجهاض والتحول الجنسي وتقنين زواج المثليين، وربما ضد المثلية نفسها، والحفاظ على قيم الأسرة، وغيرها من التوجهات التي ترسخت في قواعد الحزب الجمهوري الأمريكي مع انتقال مركز ثقل الحزب من الشمال الأمريكي إلى الجنوب، ومن المدن إلى الريف، ومن التعبير عن عرقيات مختلفة إلى الاعتماد على العنصر الأبيض بعد الحرب العالمية الثانية.

في النصف الثاني من القرن العشرين أصبحت الهوية المسيحية ذات النزوع الأصولي/الإنجيلي مكونًا أساسيًا في الحركات المحافظة اجتماعيًا واقتصاديًا وبالتبعية سياسيًا، التي عبرت عن نفسها بشكل متزايد داخل الحزب الجمهوري، بعدما كانت بدايةً في الحزب الديمقراطي عندما كان يضم قواعد بيضاء ريفية في الجنوب الأمريكي ربما حتى الخمسينات من القرن الماضي.

وجد هؤلاء سبيلهم إلى السلطة منذ السبعينيات، وربما كان وصول رونالد ريجان إلى الرئاسة في 1980 لحظة حاسمة أثبتت فيها القواعد المسيحية أنها قوام الكتلة المحافظة، التي جمعت بين أركان المحافظة الثلاثة في السياق الأمريكي آنذاك، محافظة اقتصادية تدعم تحرير الأسواق والخصخصة، ومحافظة سياسية تريد تقليص دور الحكومة الفيدرالية، ومحافظة اجتماعية تدفع بتبني القيم المسيحية كإطار لتنظيم علاقات الأفراد ببعضهم البعض.

السياسة تقود

منذ ذلك الحين وحتى اليوم ظل للإنجيليين المسيحيين هؤلاء صوت مسموع داخل الحزب الجمهوري، ظهر بجلاء في عهد بوش الأب (1988-1992) وفترتي رئاسة بوش الابن (2000-2008) ثم مع ترامب.

لقد توسعت تلك الهوية السياسية في المقام الأول التي تدور حول ما ينبغي للدولة أن تفعله، أو لا تفعله عن طريق العزوف عن التدخل في الاقتصاد أو التعليم أو الرعاية الصحية، وكيف ينبغي إعادة تنظيم المجتمع، لتشمل جماهير كبيرة محافظة ومتدينة لكنها مختلفة في أوجه عديدة، رغم أوجه الشبه التي تعبر عن أجندة أصولية توحدهم في مواجهة آخر "ليبرالي"، أمسى مؤخرًا يساريًا وربما شيوعيًا بالنسبة لخطابات بعضهم مثل ترامب.

لعل من أبرز هذا القبول المتزايد للكنائس الخمسينية  Pentecostal منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في صفوف الإنجيليين، مع أنهم ينتمون لتيارات بعيدة في أصولها عن اللاهوت الكالفيني الذي دارت تاريخيًا في أروقته صراعات الليبرالية والأصولية في القرن التاسع عشر وبداية العشرين.

في ذلك السياق تمامًا كان التوسع الظاهر لما بات يسمى بالصهيونية المسيحية، وهو الذي يعبر عن امتدادات لتيارات مشيحانية، تنتظر القيامة وعودة المسيح ومُلكِه الألفي، كانت هامشية في القرن التاسع عشر على نحو أنها أفرزت طوائف مثل السبتيين/الادفنتست وشهود يهوه ممن لا يحظون بالقبول إلى يومنا هذا في الجسم المسيحي البروتستانتي الأكبر باعتبار أن مسيحيتهم مشوبة بالكثير من الهرطقات.

رغم هذا كله فإن الإيمان بالنبوءات وخاصة نهاية العالم وعودة المسيح قد وجدت طريقها إلى العديد من أعضاء الحركة الإنجيلية/الأصولية في النصف الثاني من القرن العشرين، خاصة على وقع هزيمة 1967، ولكن لهذا حديث آخر.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.