ما الذي يدعو مشجع كرة مصريًّا للانحياز في كأس العالَم إلى منتخب البرازيل أو ألمانيا أو إيطاليا أو غيرها؟ ولماذا يضيف الأهلاوي أو الزمالكاوي إلى ولائه لفريقه المحلّي ولاءً لريال مدريد أو برشلونة أو غيرهما؟!
في مقالِه "لماذا لا يوجد شيء اسمه كأس عالَم سيئ؟" يقترح الفيلسوف الإنجليزي المعاصر سايمون كريتشلي أن مشجع الكرة حين يتابع مباراة كرة لفريقه المفضَّل، ويصبر على أكثر لحظات المباراة إملالاً في سبيل الوصول إلى لحظة تغيُّر الإيقاع وازدياد حِدّة اللعِب، فإنه بذلك يحاول أن يمارس "درجةً أشَدَّ وأكثف من الوجود" كما قال سپينوزا فيلسوف القرن السابع عشر .
فهل يعني هذا أنّ مزيدًا من الولاءات الكروية يعني درجاتٍ أشدَّ فأشدّ من ممارسة الوجود؟! ربّما! لكن يبدو لي أنّ للأمر ظلالاً نفسيةً واجتماعيةً أكثر تشابكًا مما يبدو على السطح، ربما لو حاولنا اكتشافَها فسنصل إلى إجابة عن السؤال الذي صدَّرنا به هذا المقال.
ولأنني مشجّع كرةٍ شِبه معتزِل، وبالتالي فقد انفصلتُ بدرجةٍ ما أو بأخرى عن خبرة التشجيع، فإنني أزعم مقدرةً على رؤية هذه الخبرة من الخارج. هل يوحي هذا بأنني في السطور القادمة سأتعامل مع سيرتي الذاتية كمشجِّع لكرة القدم؟ بالتأكيد هذا ما أنوي أن أفعلَه!
في الصف الأول الإعدادي - الموافق للموسم الكروي 1993/1994 قررتُ أن أتمرّد على أهلاوية أبي وزمالكاوية عمّي الأقرب إليّ والذي يسكن نفس العقار معنا، فانحزتُ إلى فريق بلدية المحلة! كان هذا يبدو للجميع اختيارًا غريبًا، لكن كان له ما يبرره مؤقتًا عندي، فالفريق الصاعد إلى الدوري الممتاز في موسم 1992/1993 والذي أنهى موسم صعوده باحتلال المركز الثامن، أبلى بالفعل بلاءً حسنًا في الموسم الحالي وأنهاه في المركز الخامس بين 14 فريقا.
باختصارٍ مُخِلّ، تجيب هذه الواقعة عن سؤالٍ آخر أكثر شيوعًا، هو: كيف يختار الناس فريق كرة قدم معينًا لتشجيعه؟ ولأنه أكثر شيوعًا، فإجاباته هي الأخرى شائعة، وتتراوح بين تقليد الأسرة، والتمرد على تفضيلات الأسرة لتأسيس شخصية مستقلة على الطرف الآخر، والإعجاب بلاعب معيّن أو بطريقة لعب الفريق ككل في وقتٍ بعينِه هو وقت الاختيار، والذي غالبًا يأتي مبكرًا في حياة المشجع، تحديدًا بين الطفولة والمراهقة.
الولاءات المُضافة
عودة إلى سؤال الولاءات المضافة. هل نُجيب عنه بنفس الطريقة أم أنّ هناك عوامل أخرى تحكم الإجابة؟
في نظريته عن التحليل النفسي قدّم فرويد للعالَم مفهوم التوحُّد Identification. وما يعنينا من هذا المفهوم الآن نوعٌ منه هو التوحُّد الجزئي الثانوي Partial Secondary Identification الذي يعني تعرُّفَ الشخص على صفاتٍ معينةٍ في شخصٍ أو كيانٍ آخَر، ينظر لها بعين الإعجاب فيتوحد مع الكيان صاحب هذه الصفات، وتدريجيًّا يتوحد هذا الشخص مع مجموعة الأشخاص الذين يشاركونه الإعجاب بنفس الكيان.
وهذا النوع من التوحُّد هو الذي قال عنه چاك لاكان عالِم النفس الفرنسي إنه هو المسؤول عن تكوُّن صورة الذات Ego داخل نواتِها المغلقة، بسلسلة من التوحدات المتتالية مع أشخاص أو كيانات مختلفة. ما علاقة هذا بتشجيع كرة القدم؟!
في نهائي كأس العالَم 1994 وصل منتخبا البرازيل وإيطاليا إلى ركلات الترجيح بعد ماراثون صائم عن التهديف استمرّ طيلة الوقت الأصلي والوقت الإضافي. في هذا اليوم وُلِد ولائي الإضافي لمنتخب إيطاليا! كانت قدرة الآزوري على تحجيم الفاعلية التهديفية للبرازيل - المنتخب الذي يشجعه أبي وعمّي معًا، واللذان يشاركاني متابعة المباراة - تعني بالنسبة لي أنني أشاهدُ نفسي تلعب مع البرازيل!
كمراهق يميَل إلى الانطواء والقراءة، مثّلَت البرازيل بالنسبة لي (الآخَرين) الذين يخوضون غمار العالَم بقَدرٍ أكبر من الجرأة ويستعرضون مهاراتهم الفردية - لا سيّما في معاكسة البنات في الشارع - بكثير من الأريَحية! وبهذا فإن إيطاليا كانت نقيض ذلك، وكان روبرتو باجيو بطل الآزوري هو المارد الذي يسكن روحي، القادر على قَلب كل النتائج لصالحي في النهاية. ولأنني آمنتُ بإيطاليا بعمقٍ في تلك الليلة، كانت إضاعة باجيو لركلة الجزاء، والتي ترتبت عليها خسارة إيطاليا كأس العالَم، لا تمثّل بالنسبة لي إلا خسارةَ موقعةٍ واحدةٍ في الحرب الطويلة!
https://www.youtube.com/embed/fpbkRApq9qY?rel=0&controls=0&showinfo=0أمّا في 26 مايو 1999 أي قرب نهاية الصف الثالث الثانوي بالنسبة لي، فقد نقلت القناة الثانية للتليفزيون المصري المباراةَ النهائية في دوري أبطال أوربا بين مانشستر يونايتد وبايرن ميونيخ. كنتُ ممزَّقًا يومها بين مجموعة من التوحُّدات! للأمانة، عليَّ أن أحذِّر من أنّ الفقرة القادمة تعبّر عن شخصٍ مهووسٍ تمامًا بالمذاكرة والإنجاز الأكاديمي a real geek، فعلى من لا يطيقون هذا النموذجَ التغاضي عن وجود هذه الفقرة بالكامل!
بايرن هو بطل ألمانيا التي كنتُ أَعِدُ نفسي بالسفر إليها ضمن عرض وزارة التربية والتعليم للحاصلين على الدرجة النهائية في اللغة الألمانية في الصفَّين الأول والثاني الثانوي، وتجاهلَتني مدرّسَة الفصل تمامًا رغم وفائي بهذا الشرط، لأنني ببساطة كنتُ أتعالى على التفاعل معها في حصصها لرؤيتي بوضوح مدى تدنّي قدرتها على نطق الألمانية كأهلها!
أمّا مان يونايتد بطل إنجلترا بلد أدبائي المفضَّلين وقتذاك (ديكنز والأختَين برونتي وچيروم ك. چيروم وروث پرُووِر چابفالا وغيرهم) وفِرَقي الغنائية المفضلة أيضًا على تراوُح منجزِها بين الثقل والخفّة (سپايس جيرلز وباكستريت بويز من ناحية، وكوين من ناحيةٍ أخرى). وربّما لِمَيلٍ فطريٍّ ناحية المهزومين من ناحيتي، تعاطفتُ مع شياطين إنجلترا الحُمر.
كان هدفا تيدي شيرنَم وأوليه جونار سولسار في الوقت القاتل من المباراة ليقلبا نتيجتَها إلى 2/1 لصالح مان يونايتد كفيلَين بتكوين ولاءٍ جديدٍ لديَّ لمان يونايتد. كان معنى هذا الولاء أن أنحاز لإنجلترا بشكلٍ أوسع وأتبنّى موقفًا شِبه شوفيني في كل ما له علاقةٌ بإنجلترا فيما بعد، فانحزتُ بالفعل إلى المدرسة الإنجليزية على حساب الأمريكية مثلاً في المساجلات التي لا معنى لها بين طلَبة الطب المصريين حول أولوية أيٍّ من المدرستين بالإكبار، وانحزتُ إلى الإنجليز حين أقدمتُ على المشاركة في الحياة الثقافية بشكلٍ إيجابيٍّ فأصبحتُ أردّد "الإنجليز هم بحّارة الثقافة، ليس في أوربا وحدَها بل في العالم كلِّه"! وأظن أنني لو كنتُ شهدت معارك اللاتين والسكسون في الثقافة المصرية في النصف الأول من القرن العشرين، كنت سأنضمّ بالتأكيد إلى السكسون! كل هذا من جرّاء نهائي بايرن ومان يونايتد؟!
.. وتعدد الولاءات المُضافة
لم يمنعني هذا من تكوين ولاءاتٍ كرويةٍ جديدةٍ فيما بعد. فشجّعت بايرن ميونيخ نفسَه حين انتبهتُ إلى أنّ تشكيلتَه من اللاعبين المحترفين الأجانب تقدِّم حالة من التعايش المحترَم بين الأعراق المختلفة - كما بدا لي في هذا الوقت - حيث چوفانّي إلبر البرازيلي وحسن صالح حميدتش البوسنِيّ ومحمد شول الألماني ذو الأصل التركي بجانب إيفنبرج ذي الملامح الألمانية الصارمة وغيرهم! رغم أنَّ هذا التكوين الإثنِيَّ كان موجودًا في معظم الأندية الكبرى، إلاّ أنه مسَّ وترًا خاصًّا عندي، ربما كشكلٍ من أشكال التكفير عن تشجيع مان يونايتد أمام بايرن في نهائي 1999، ووصل هذا التكفير إلى درجة أن فانلة بايرن كانت هي الفانلة الرياضية الوحيدة التي ارتديتها في حياتي!
كتَجَلٍّ جديدٍ للتعاطف الفطري مع الخاسرين، وفي إعادة تجسُّد لاختياري القديم لبلدية المحلة، انحزتُ من بين فِرَق الدوري الإسباني عام 2000 إلى فالنسيا بقيادة مِندِييتا. كان الفريق بالنسبة لي أشبه بالطريق الثالث في كرة القدم الإسبانية، بين تكتُّل أصدقائي من مشجعي الكرة في كتلتَي برشلونة وريال مدريد!
في نظرية القبَلية الجديدة (Neo-Tribalism) لعالِم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيزولي، تحوَّلت المجتمعات المعاصِرة - بسبب فقدانِها الثقة في مؤسسات الحداثة السياسية والاجتماعية ككِيان الدولة القومية وكيانات الهيئات الأُمَمِيّة - إلى مجتمعاتٍ "قبَلِيّة جديدة" تحاول أن تستعيد العلاقات التراحُمِيّة - في مقابل العلاقات التعاقُديّة التي كرَّسَتها مؤسسات الحداثة، وصياغةالمصطلحَين لعبد الوهاب المسيري رحمَه الله متأثرًا بماكس فيبر - من خلال إحياء نموذج القبيلة للاجتماع الإنساني. ويرى تيم كراب الباحث بجامعة شيفيلد هالَم أنّ هذه النظرية تفسّر بشكلٍ ما السلوك القَبَلِيّ لمشجعي منتخب إنجلترا في كأس العالَم في ألمانيا 2006.
المهم أن نظرية القبَلية الجديدة تفسّر كذلك اختيار فرق كرة القدم، لكن ليس بمعزِلٍ عن العوامل النفسية الخالصة لاسيّما التوحُّد. هكذا كان اختياري لبلدية المحلة وسيلتي لخلق شخصية مستقلة عن الأسرة ومستقِلّة في مواجهة المجتمع بتكتلاته المحددة سلفًا بين الأهلى والزمالك، لكنه لم يكن اختيارًا مسئولاً بما يكفي للتمسُّك به، فعدتُ إلى (حظيرة) أو (قبيلة) الأهلاوية بعد ذلك بقليل، لافتقادي مع بلدية المحلة مشاعرَ الانتماء القبَلِي المتوفِّرة بغزارة في قبيلة الأهلي الضخمة!
نمدُّ هذا الخطَّ على استقامتِه، فتكون الولاءات الكروية المُضافة شكلاً من أشكال التمرُّد على القبيلة، أو تكوين انتماءات قَبَلِيّة جديدة في أربعة أصقاع الأرض، وهكذا أصبح - كأهلاوي - متعدِّيًا لحدودي المحلّيّة حين أشجع بايرن في ألمانيا ومان يونايتد في إنجلترا، وفالنسيا في إسبانيا، فضلاً عن ولائي للمنتخبات الأوربية عمومًا في مقابل الأمريكية الجنوبية، وتفضيلي من بينِها لإيطاليا وألمانيا وهولندا!
في مرحلةٍ ما، أذكر كلمات أحد الأصدقاء الأهلاوية بشأن صديقِنا الآخَر الأهلاوي لأب زمالكاوي "مش أهلاوي أصيل. أهلاوي لمجرد إن أبوه زمالكاوي. لو كان اتولد لأب أهلاوي كان حيتمرد عليه ويبقى زمالكاوي"!
فتح هذا عينيَّ على مدى هشاشة الاختيار! وحين أعود إلى چاك لاكان، أجد في تراث التحليل النفسي الخاص به مفهومَ "المُتَخَيَّل" (The Imaginary) بمعنى صورة الذات التي تتكوّن مبكرًا بالنظر في المرآة، حيث يقفز الطِّفل من إحساسه بجسَدٍ مُجَزَّأٍ لا يُعطيه هُوِيّةً محددةً fragmented body إلى إحساسٍ بذاتٍ واحدةٍ متعينةٍ حين ينظرُ إلى نفسه في المرآة فيتوحد مع صورتِه.
وفي الحقيقة فإنّ هذه الذات الواحدة التي يظنّ الطفلُ أنها ذاتُه ما هي إلاّ تغريبٌ Alienation عن حقيقة الذات المتفلّتة التي لا يمكن الوصول إليها!
حقيقة الانحيازات
هذا المقاربة "اللاكانية" المبنية على مفهوم التوحُّد كما قرره فرويد جعلَتني أرى حقيقة تحيزاتي الكروية منذ بلدية المحلة إلى مانشتر يونايتد وما بعدَه. كانت سلسلةً من التنميطات القائمة على الاختزال في المقام الأول. فأنا بالتأكيد لستُ فقط ذلك المنطوي الذي يواجه رفاقَه الأكثر اجتماعيةً منه ليكون اختياري لإيطاليا اختيارًا مقدسًا في مباراتها مع البرازيل، ولا إيطاليا نفسُها تعبِّر عن هذه الحالة من الأساس، وقِس على ذلك في كل حلقات هذه السيرة الذاتية لمشجِّع كرةٍ، شِبه معتزِل!
لعددٍ من الأسباب، أهمُّها انتقال اهتمامي إلى أمورٍ أخرى، وتسليع إذاعة مباريات كرة القدَم بأيدي رجال الأعمال مع وصول عصر (الكابل) إلى هذه البقعة من العالَم، لم أعُد أتابع مباريات كرة القدَم كما كنتُ أفعَل. لكن ما حدث خلال تشجيعي منتخب ألمانيا في نهائي كأس العالَم 2014 أمام الأرجنتين - وهي آخر مباراة دولية تابعتُها إلى الآن - أنني كنتُ واعيًا تمامًا ببواعث توحُّدي المؤقَّت مع الـMannschaft، ولهذا لم يكن حماسي صافيًا نقيًّا كما كان في مراحل مبكرةٍ من حياتي وأنا أشاهد صورتي المنعكسة من شاشة التليفزيون.
يوشك هذا أن يكون تحجيمًا لممارسة الوجود كما يقترحُها سايمون كريتشلي في مقالِه، ولهذا لا أنصَحُ مشجِّعي كرة القدم بقراءة هذا المقال!