
المنتجات البترولية.. من أحلام الاكتفاء الذاتي إلى فاتورة استيراد قياسية
فجوةٌ كبيرةٌ لا تزال تسجلها سوق المنتجات البترولية في مصر بين ما ننتجه من البنزين والسولار والمازوت، وبين ما نستهكله، هذا رغم الوعود الحكومية بالاكتفاء الذاتي عبر التوسع في الإنتاج وفي قطاع التكرير، ما يقلل من فاتورة الاستيراد الصعبة.
وفق بيانات رسمية، تنتج مصر نحو 25 مليون طن سنويًا، ونضطر لاستيراد كميات كبيرة من هذه المنتجات البترولية بسبب سوء استغلال الموارد وضعف القدرة الإنتاجية لقطاع التكرير.
وخلال العام الماضي قفزت الواردات البترولية لمصر لأعلى مستوياتها التاريخية، وبينما ركزت التحليلات في تفسير هذا التدهور على ربطه بارتفاع فاتورة استيراد الغاز المسال، فإن بيانًا للبنك المركزي أشار إلى عنصر آخر يمكن أن يفسِّر هذه الطفرة السلبية، وهو ارتفاع فاتورة استيراد المنتجات البترولية مثل البنزين والسولار والمازوت.
ورغم أن "المركزي" لم يفصح عن كامل قيمة هذه الفاتورة فإنه ذكر أنها ارتفعت خلال العام المالي 2024 - 2025 بنحو 1.7ـ مليار دولار.
ربما تكون زيادة واردات الغاز مسألة قدرية ترتبط بعدم وجود اكتشافات بترولية جديدة تعوض تراجع إنتاجنا منه، لكن في حالة منتجات مثل البنزين والسولار والمازوت فإن زيادتها تعكس عجزًا في القدرات التصنيعية على القيام بالجهد الكافي في نشاط تكرير البترول.
على مدار العقد الأخير تكررت التصريحات الحكومية حول استهداف تعزيز إنتاجنا المحلي من المنتجات البترولية عبر ضخ استثمارات ضخمة في القطاع، لكنْ على أرض الواقع، وكما يؤكد خبراء، فإن المشكلات التمويلية وسوء التخطيط يحجمان أثر هذه المبادرات.
هل ننتج ما يكفينا؟
حسب بيانات وزارة البترول فإن ما تنتجه معامل التكرير سنويًا يتجاوز 25 مليون طن سنويًا من المنتجات البترولية، لكن البيانات الرسمية لا تخبرنا كم يمثل هذا الإنتاج من احتياجات الاستهلاك المحلي.
إلا أن بعض المؤشرات الخاصة بالمنتجات البترولية تكشف ضخامة حجم ما نستورده، حيث يذكر بيان لـوزارة البترول في أبريل/نيسان الماضي أننا نستورد نصف استهلاكنا من غاز البوتاجاز تقريبًا، و40% من السولار، و25% من البنزين.
ويشير مدحت يوسف، النائب الأسبق لهيئة البترول، إلى أنه حال أنتجت مصر نحو 25 مليون طن من المنتجات البترولية فهذا يعني أننا نستغل نحو 72% فقط من الطاقة الإنتاجية لمعامل التكرير المصرية التي تصل لنحو 35 مليون طن سنويًا.
وحسب تقديرات يوسف لـ المنصة فإن معدلات الإنتاج المحلية تعني أن مصر مضطرة لاستيراد نحو 13 مليون طن سنويًا من المنتجات البترولية لتغطية احتياجاتها المحلية، وهي فاتورة استيرادية ضخمة.
وتتفق البيانات الحكومية على حجم ما ننتجه مع تقديرات مؤسسة بي إم آي، التابعة لمؤسسة فيتش، في تقريرها عن قطاع الطاقة المصري خلال 2025، لكن ما لا يظهر في البيانات الرسمية هو حجم الاستهلاك الذي يقدر التقرير أنه يفوق الإنتاج بنسبة كبيرة.
ويشير تقرير مؤسسة بي إم آي، الذي اطلعت المنصة على نسخة منه، إلى أن حجم إنتاجنا خلال السنوات الأخيرة كان 500 - 530 ألف برميل في اليوم، وبافتراض أن طن المنتجات البترولية يساوي نحو 7 براميل من خام البترول، فإن القيمة الإجمالية للإنتاج تكون في حدود 25 مليون طن.
أما عن استهلاكنا من المنتجات البترولية فهو يتراوح بين 800-842 ألف برميل يوميًا، ما يعني أننا نستهلك في حدود 41 مليون طن، أي أننا وفق هذه التقديرات ننتج تقريبًا 60% من استهلاكنا، ونستورد الباقي.
https://public.flourish.studio/visualisation/25596620/كما يظهر من تقديرات التقرير، فإن إنتاجنا من المنتجات البترولية على الأرجح تراجع بحدة خلال 2024 وتعافى بشكل محدود هذا العام، وهو ما يُرجع لانخفاض حجم إنتاج خام البترول في مصر، الذي تأثر سلبًا بأزمة المتأخرات المتراكمة على هيئة البترول لصالح الشركات المستخرجة للخام.
وينعكس ضعف إنتاج المنتجات البترولية مباشرةً على الواردات التي يزداد الاعتماد عليها بديلًا، وحسب آخر البيانات المتاحة على منصة أو إي سي البحثية فإن واردات مصر من المنتجات البترولية قبل عامين بلغت 8.5 مليار دولار ما يجعلها في الترتيب 28 عالميًا من إجمالي 226 دولة.
أحلام الاكتفاء الذاتي تصطدم بالدولار
في مواجهة هذه الفاتورة الاستيرادية الضخمة سعت الهيئة العامة للبترول، باعتبارها مالكًا أو مشاركًا في كل معامل البترول المصرية، لإطلاق حزمة من التوسعات الإنتاجية في عدد من مواقع التكرير بهدف تحسين الاستفادة من خام البترول المصري أو تقليل تكلفة استيراد المنتجات البترولية عبر تصنيعها محليًا.
من أبرز هذه المشروعات افتتاح مصفاة "المصرية لتكرير البترول" بمسطرد في 2020 وتوسعات مصفاة تكرير ميدور لرفع طاقتها الإنتاجية خلال العام الماضي ومشروع مجمع التفحيم وإنتاج السولار بشركة السويس لتصنيع البترول ومشروع مجمع التكسير الهيدروجيني لشركة أنوبك بأسيوط وتوسعات العامرية لتكرير البترول الجاري تنفيذها، وتساهم المشروعات السابقة في إنتاج أنواع مختلفة من الوقود والمنتجات البترولية.
وتهيمن الهيئة العامة للبترول على غالبية قطاع تكرير المواد البترولية، فيما تتبع شركة المصرية لتكرير البترول لمجموعة القلعة من القطاع الخاص.
لكنَّ يوسف يرى أن هذه الاستثمارات المعلنة غير كافية لتحقيق أهداف خفض الفاتورة الاستيرادية الضخمة، متسائلًا "أين نحن الآن من الإعلان عن تحقيق الاكتفاء الذاتى من المنتجات البترولية".
وفي مايو/أيار 2022 تعهد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بتحقيق الاكتفاء الذاتي في السنة التالية بالاعتماد على التوسعات الإنتاجية في مجال تكرير البترول، لكن في سبتمبر/أيلول من العام قال وزير البترول آنذاك إن هذه الطموحات قد تتأجل بسبب الضغوط الاقتصادية.
وواجهت مصر خلال العامين الماضيين أزمة ضعف تدفقات النقد الأجنبي وتدهور قيمة الجنيه أمام الدولار. وبينما تُظهر بيانات وزارة التخطيط قفزة كبيرة في حجم الاستثمارات بقطاع التكرير منذ 2020، فإن قيمة هذه الاستثمارات المسجلة بالجنيه تعكس الضغوط التضخمية في تلك الفترة أكثر مما تعكس تسارع وتيرة تطوير القطاع.
https://public.flourish.studio/visualisation/25596898/ماذا يحد من نمو الإنتاج؟
يضع مصدر بهيئة البترول نقصَ التمويل الدولاري خلال الفترة الأخيرة على رأس الأسباب التي ساهمت في إبطاء وتيرة تطوير الشركات وضعف الإنتاج، ويضرب مثالًا على ذلك بمشروع شركة أنوبك بأسيوط الذي تأخر إتمامه من عام 2024 إلى 2026 بسبب صعوبة توفير التمويل الدولاري.
هذا بجانب تأثير الوحدات التي تعاني من التقادم وضعف الإنتاجية بسبب عدم ضخ الاستثمارات الكافية مثل النصر للبترول في السويس وطنطا ومسطرد وأسيوط، حسب المصدر.
ويشير مصدر حكومي سابق، طلب عدم نشر اسمه، إلى أن ضغوط التمويل أعاقت أيضًا استيراد الخامات التي يمكن تكريرها ما حد من فرص زيادة الإنتاج؛ "السبب (في ضعف الإنتاج) عدم وجود خام مصري بنستورد خام من بره بنفس المواصفة (..) مشاكل الاستيراد فلوس".
بجانب المشكلات المالية، ينوه المصدر بهيئة البترول بأن تصميم بعض التوسعات في قطاع التكرير قد يكون عائقًا أمام تشغيل بعض الوحدات بطاقاتها القصوى. ويضرب مثالًا على ذلك بشركة ميدور، التي نُفّذت توسعات لرفع طاقاتها الإنتاجية إلى نحو 8 ملايين طن، لكنَّ عوائق قد تعرقلها عن بلوغ طاقاتها القصوى من الإنتاج "أما نيجي نصمم مصانع المفروض تكون بتعتمد على خامات رخيصة ومتاحة".
ويشرح المصدر أن الشركة صممت بطريقة تجعلها تحقق أقصى إنتاج إذا استخدمت مدخلات مثل الخامات السعودية (الخام العربي الثقيل والخفيف) التي لا تتيحها شركة أرامكو السعودية بتسهيلات تيسر على الحكومة المصرية استيرادها "أرامكو شركة سعودية يديرها الأجانب، لما بنتعاقد معاهم مبيدوش تسهيلات خالص (..) والتعاقد معاهم بيكون من خلال مكتب لندن".
لتقتصر البدائل المتاحة أمام ميدور، وفقًا للمصدر، على خام البصرة العراقي الذي يُقدم بتسهيلات محدودة؛ ثلاثة أشهر فترة سماح، أو الخام الكويتي الذي يقدم بتسهيلات كبيرة؛ تسعة أشهر فترة سماح، لكنه لا يتاح بالكميات الكافية للاعتماد عليه بشكل كامل.
كيف نروض فاتورة الاستيراد
يرى المصدر الحكومي السابق أن إصلاح قطاع التكرير يجب أن يرتكز على ركيزتين؛ الأولى تعزيز إنتاج خام البترول المحلي، مُدخل الإنتاج لقطاع التكرير، للحد من فاتورة استيراده، والثانية رفع كفاءة قطاع التكرير حتى لا نضطر لاستيراد منتج بترولي كامل الصنع بتكلفة مرتفعة.
ويحذر المصدر الحالي بهيئة البترول من أن أعمال التطوير الراهنة تنقصها الرؤية الشاملة ما يعني محدودية القطاع في تحقيق النمو بالمعدلات المأمولة. ويطرح مثالًا على ذلك بمجمع التفحيم في السويس، الذي كان من المخطط الانتهاء من إنشائه منتصف هذا العام، موضحًا أن "إقامة وحدة تفحيم بمفردها لا تحقق العائد المطلوب. يجب أن تكون جزءًا من مجمع متكامل يضم وحدة تكسير هيدروجيني (هيدروكراكر) ومجمع زيوت، لرفع جودة المنتجات النهائية وزيادة القيمة الاقتصادية لها".
يشدد المصدر على ضرورة أن تصاحب مشروعات التوسع وحداتٌ تكميليةٌ حتى تتحقق الفائدة القصوى من ورائها.
أمام الحكومة تحديات كبيرة بشأن إصلاح قطاع التكرير، ليس فقط الارتفاع القياسي في فاتورة الواردات، لكن أيضًا في ظل مطالبات صندوق النقد الدولي للحكومة بإصلاح الوضع المالي لهيئة البترول مع تراكم المتأخرات المستحقة عليها.