صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
كيف فشلت العملات المشفرة في كسر هيمنة السوق؟

العملات المشفرة.. سقوط الحلم الثوري

منشور الأحد 17 أغسطس 2025

اندفعت العملات المشفرة إلى صدارة المشهد الاقتصادي الرقمي، تتقدمها بتكوين التي رُوّج لها بوصفها ابتكارًا ماليًّا ثوريًّا يَعِد بفك الارتباط عن قبضة البنوك المركزية والدول، ويفتح الطريق أمام نظام مالي لا مركزي أكثر حريةً وعدالةً. 

غذّت قصص الثراء السريع الناتجة عن الارتفاعات الخيالية في أسعار العملات الرقمية هذه السردية، وبدا أن العالم على وشك إعادة تشكيل بنيته المالية على أسس جديدة، أكثر استقلالًا عن النظام النقدي التقليدي.

لكن سرعان ما تهاوى الحلم أمام واقع مختلف، وكشفت التجربة أن العملات المشفرة امتدادٌ محدّثٌ لأنماط مألوفة من المضاربة المالية وتركّز الثروة وواجهة رقمية جديدة لمنطق التراكم السريع الذي يحصد ثماره الرواد والمضاربون الكبار، فيما يتحمل جمهور المستثمرين المتأخرين خسائر الانهيارات والتقلبات العنيفة. 

سردية بتكوين الأولى 

لفهم الديناميكيات العميقة التي شكّلت ظاهرة العملات المشفرة ينبغي قراءة نشأتها في سياق الانهيار التاريخي الذي شهده النظام المالي العالمي عام 2008، إذ اتضحت الطبيعة الهشة للرأسمالية المعاصرة، والعلاقة العضوية بين الدولة ورأس المال المالي، وانكشفت آليات إنقاذ البنوك الكبرى بأموال عامة ما فضح التواطؤ بين الحكومات والمؤسسات المصرفية العابرة للقوميات، وأظهر أن المخاطر تُخصخص أرباحها وتعمَّم خسائرها.

في قلب هذه اللحظة، ظهر شخصٌ غامضٌ يحمل الاسم المستعار ساتوشي ناكاموتو ليطلق في يناير/كانون الثاني 2009 مشروعًا مفتوح المصدر يُنشئ عملة رقمية مُشفّرة تحتمل مسمى بتكوين. الفكرة بسيطة ومحمّلة بالرمزية في آن واحد؛ شبكة نقدية موزعة، بلا سلطة مركزية، تحرّر المعاملات من هيمنة الوسطاء الماليين.

أول عملية شراء موثقة لقطعتي بيتزا كلّفت المشتري 10 آلاف وحدة بتكوين

حصل العملاء الأوائل على مكافأة ترحيبية 50 بيتكوين مع رسالة نصها "التايمز - 3 يناير 2009: وزير المالية على وشك تقديم خطة إنقاذ ثانية للبنوك". هذه العبارة مأخوذة حرفيًا من عنوان خبر نشرته صحيفة تايمز اللندنية بالتاريخ نفسه بخصوص عزم الحكومة البريطانية تنفيذ خطة إنقاذ مالي ثانية للبنوك.

ورغم أن ناكاموتو لم يوضح صراحةً المقصود من هذه الرسالة، فإنها كانت بمثابة إشارة إلى سبب إنشاء البيتكوين، وهو تجاوز البنوك والوسطاء الماليين الذين يُنظر إليهم على أنهم فاسدون أو غير موثوقين، والاتجاه إلى إنشاء عملة أكثر اعتمادًا على الناس أنفسهم.

جذبت هذه الرمزية باعتبارها بيانًا سياسيًا يضع المشروع في مواجهة مباشرة مع النظام المالي القائم جمهورًا متنوعًا من مبرمجين متحمسين ونشطاء معادين للمؤسسات المالية، وحالمين بفكرة التحرر من قبضة الدولة والمصارف. لكنها أيضًا كانت مُشبعةً برؤية ليبرالية فردانية ترى المال سلعةً خاصةً ينبغي أن تنشأ وتُتداول خارج أي سلطة جماعية، وهو ما يتناقض مع أي فهم جماعي أو ديمقراطي للنقد.

وُعِدَ مؤيدو بتكوين بوسيط نقدي جديد يوفّر معاملات شبه فورية ورسومًا منخفضة ودرجة عالية من الخصوصية وإمدادًا نقديًا ثابتًا يقي من التضخم. لكن هذه الوعود بقيت لسنواتٍ أقرب إلى النظرية منها إلى الممارسة، إذ كانت بتكوين في بدايتها محصورةً في دوائر تقنية ضيقة إلى حد أن أول عملية شراء موثقة لقطعتَي بيتزا كلّفت المشتري 10 آلاف وحدة بتكوين، لم تتجاوز قيمتها بضع دولارات.

مع مرور الوقت وارتفاع السعر، انتقلت بتكوين من الهامش إلى واجهة الاهتمام الإعلامي والمالي، وقَبِلَت بها بعض المواقع والشركات وسيلة دفع، ومع تصاعد الزخم ظهرت العملات البديلة/Altcoins التي حاولت تقديم تحسينات أو تطبيقات جديدة.

برزت إيثريوم بتقديمها مفهوم العقود الذكية ما فتح الباب أمام تطبيقات التمويل اللامركزي/DeFi، كما ظهرت العملات المستقرة مثل تيثر/USDT، وهي نوع من العملات الرقمية التي تُصمَّم للحفاظ على قيمة ثابتة عبر ربطها بعملة تقليدية مثل الدولار الأمريكي بهدف تقليل تقلبات الأسعار.

اللامركزية النظرية

من بين الشعارات التي رافقت صعود العملات المشفرة، برز شعاران أساسيان؛ الأول هو اللامركزية التي تُشير إلى غياب السلطة المركزية عن إدارة النظام النقدي لصالح شبكة موزعة من المشاركين المتساوين نظريًا، أما الثاني فهو التحرر المالي بتمكين الأفراد من التحكم في مصيرهم المالي بعيدًا عن قبضة البنوك والدول. بالنسبة لكثيرين ممّن عانوا من إخفاقات النظام المصرفي أو التضخم المدمّر، بدت هذه الوعود أفقًا تحرريًّا جديدًا.

لكن التجربة العملية كشفت فجوة واسعة بين الشعارات والممارسة، فغياب السلطة المركزية لم يؤدِ بالضرورة إلى تفكيك التراتبية، بل أفسح المجال أمام إعادة تشكيلها في صورة أقل شفافية وأكثر تحكمًا. 

على المستوى التقني، تركزت عمليات التعدين التي كان يفترض أن تكون متاحة للجميع في أيدي تجمعات وشركات ضخمة تمتلك قدرات بنية تحتية هائلة. أما المنصات الوسيطة التي تسهّل تداول العملات المشفرة مثل باينانس وكوين بيس فقد تحولت إلى ما يشبه بنوكًا خاصة جديدة، تحتفظ بسلطة تجميد الحسابات والتحكم في التدفقات المالية.

اقتصاديًا، يتكرر المشهد نفسه تقريبًا؛ الجزء الأكبر من الثروة الرقمية انحصر في أيدي مجموعة صغيرة من أوائل المشاركين في هذا المجال. في الأنظمة التي تصوّت على تطوير القواعد أو التحديثات الخاصة بالشبكات، يكون الصوت الأقوى لمن يملك نصيبًا أكبر من هذه الأصول. هذا يعني أنه في الكثير من مشروعات التمويل اللامركزي يمكن لمن يملك مالًا أكثر أن يشتري تأثيرًا أكبر في القرارات. هكذا، تتحول فكرة "الديمقراطية الرقمية" المعلنة إلى استمرار لمنطق السوق التقليدية، بدل أن تكون بديلًا حقيقيًا له.

يثير شعار "تحرير المال من الدولة" إشكالات أعمق؛ لم يكن المال يومًا كيانًا محايدًا أو منفصلًا عن البنية الاجتماعية والسياسية، وكان دائمًا أداةً تخضع لتوازنات القوى، فإزالة الدولة من معادلة إصدار العملة لا تُخرج المال منها، بل تسلمه إلى قوى السوق، لتنشأ بذلك نماذج نقدية تتحكم فيها مصالح مضاربية ضيقة تعوق قدرة المجتمع على الاستجابة للأزمات.

الحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق عبر أدوات مصممة لخدمة مصالح الربح الفردي

النتائج على الأرض أكدت هذه التحفظات، إذ لم تحقق العملات المشفرة وعود الشمول المالي للفئات المهمشة، بل عرّضتها لمخاطر جديدة، ففي حالات متعددة دخل المستثمرون الصغار السوق في ذروة الأسعار وخرجوا بخسائر فادحة، بينما استفاد المستثمرون الكبار من التقلبات عبر أدوات مالية متقدمة. حتى القروض اللامركزية التي يُفترض أنها بديل للائتمان التقليدي تشترط ضمانات لا يملكها سوى من يمتلك ثروات مسبقة من أصول العملات الرقمية.

بموازاة ذلك، تسعى شركات التكنولوجيا الكبرى إلى اقتحام هذا المجال من خلال مشروعات عملات خاصة ما ينذر بتحوّل مركز السيطرة من البنوك إلى المنصات الرقمية العملاقة. وهذه الأخيرة تبني احتكارات جديدة على قاعدة جمع وتحليل كميات هائلة من البيانات المالية، ولا تكتفي بالتحكم في البنية التحتية للمعاملات.

إننا أمام خطاب يستخدم التحرر المالي واللامركزية غطاءً تجميليًّا لإعادة إنتاج منطق السوق ذاته، ربما بأشكال أكثر حدّة وأقل خضوعًا للمحاسبة. فالحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق عبر أدوات مصممة لخدمة مصالح الربح الفردي، وتتطلب مساءلة ديمقراطية جماعية وتوزيعًا عادلًا للموارد والسلطة، لا مجرد استبدال وسطاء بوسطاء جدد.

الندرة بوصفها مشروعًا رأسماليًا

من المناسب الانطلاق من التراكم البدائي الرقمي لفهم التحول الاقتصادي الذي تمثله العملات المشفرة، أي عملية خلق مجالات ربح جديدة في الفضاء الرقمي لم يكن لها وجود سابق عبر تحويل الوفرة الرقمية إلى ندرة مصطنعة. ففي التاريخ الاقتصادي، نشأت كثيرٌ من الثروات الكبرى بوسائل غير إنتاجية مثل نزع الملكية والاستيلاء على الموارد وتسييج المشاعات العامة. واليوم، يُعاد إنتاج هذه الآليات في العالم الرقمي، لكن بأدوات وخوارزميات معاصرة.

أحد أبرز الأمثلة على ذلك ما حدث مع الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، ففي بيئة رقمية تقوم على إمكانية النسخ اللامحدود، اخترعت أداة تقنية لخلق "ملكية رقمية فريدة" عبر توقيع تشفيري يجعل الملف الرقمي، سواء كان صورة أو مقطع موسيقي أو عملًا فنيًّا، سلعةً قابلةً للبيع والمضاربة. 

تغذي هذه الندرة المصطنعة موجات مضاربة تُثري النخب التي استثمرت في العملات الرقمية مبكرًا على حساب الداخلين المتأخرين. فارتفاع أسعار العملات المشفرة، في معظم الأحيان، كان نتاج تدفق رؤوس أموال جديدة في نمط أقرب إلى مخططات بونزي والتسويق الهرمي. وأصبحت العروض الأولية للعملات/ICOs وسيلةً لجمع أموال ضخمة من الجمهور، غالبًا دون تقديم منتج أو خدمة حقيقية، ما فتح الباب أمام عمليات احتيال مموهة بخطاب "الابتكار المالي".

يمتد هذا المنطق أيضًا إلى عمليات تعدين العملات الرقمية. فالتصميم التقني لشبكات التشفير، على رأسها شبكة بتكوين، أسهم في تكريس أنماط تركّز الثروة والنفوذ. ففي بدايات المشروع كان بإمكان الأفراد تعدين العملات من أجهزتهم الشخصية والمشاركة في العملية بشكل مباشر. لكن مع ارتفاع صعوبة التعدين وازدياد متطلباته التقنية، انتقلت السيطرة تدريجيًا إلى شركات ومجمعات تعدين عملاقة تمتلك تجهيزات متقدمة وبنى تحتية هائلة. 

ليس انفصالًا عن النظام

أثار الصعود العالمي للعملات المشفرة نقاشات حادة داخل أوساط المفكرين والنشطاء التقدميين، يمكن تمييز اتجاهين أساسيين منها؛ الأول نقدي يرى العملات المشفرة مجرد أداة لتضخيم تناقضات النظام الرأسمالي القائم، والثاني أكثر انفتاحًا على إمكانات توظيف بعض أدوات التقنية اللامركزية في مشاريع بديلة، وإن كان ذلك في حدود ضيقة وتجريبية.

وفق الاتجاه النقدي الغالب، فإن هذه العملات لا تمثل قطيعة مع البنية المالية الرأسمالية، بل تعمّق منطقها المضاربي، وتُشبَّه فورةُ التشفير بفقاعات تاريخية سابقة؛ من طفرة السكك الحديدية في القرن التاسع عشر إلى فقاعة الإنترنت مطلع الألفية. وفي كلتا الحالتين، تتحول التكنولوجيا من أداة واعدة إلى وسيلة لتكديس الثروة في أيدي قلة، بدل أن تكون وسيلة لتحقيق العدالة أو المساواة.

رفض العملات المشفرة لا يعني الانحياز للبنوك المركزية أو المؤسسات المالية الدولية

في المقابل، يطرح مفكرون رؤى أكثر مرونة، مشيرين إلى إمكانية تسخير تقنيات مثل البلوكتشين لبناء نماذج ديمقراطية للإدارة والتوزيع شريطة توافر سياق اجتماعي جديد تُعاد فيه صياغة علاقات الملكية والتخطيط. لكن حتى هذه الرؤى المشروطة تؤكد أن التكنولوجيا إذا استُخدمت داخل بنية السوق الرأسمالية كما هي لن تنتج واقعًا تحرريًا.

اللافت أن هذا النقد لا يستبطن حنينًا للنظام المالي التقليدي، ويضعه هو الآخر موضع إدانة، فرفض العملات المشفرة لا يعني الانحياز للبنوك المركزية أو المؤسسات المالية الدولية، ويأتي في إطار سعي أوسع نحو بلورة بدائل تستند إلى الملكية الجماعية، والمسؤولية الاجتماعية، والتحكم الديمقراطي في أدوات المال والإنتاج.

الحاجة إلى مسار بديل

أثبتت تجربة العملات المشفرة أن الرأسمالية لا تعيد إنتاج نفسها فقط في كل فضاء جديد، إنما تفعل ذلك بقدرة أكبر على التمويه، والمطلوب مسارٌ بديلٌ يعيد صياغة علاقات الإنتاج والتوزيع على أسس الملكية الجماعية والرقابة الديمقراطية، بحيث تتحول الأدوات الرقمية من منصات للمضاربة والاحتكار إلى بنية تحتية تخدم المصلحة العامة.

هذا المسار يبدأ من اعتبار النظام المالي خدمةً عامةً، يضمن لكل فرد الحق في حساب دفع رقمي آمن ومجاني بعيدًا عن تقلبات الأسواق أو تحكم المنصات الخاصة. وتتولى مؤسسات عامة أو تعاونية منتخبة إدارة هذه الخدمة، بما يجعل الوصول إلى المال وإدارته حقًا اجتماعيًا لا سلعةً في سوق مضاربة.

ويمكن تسخير البلوكتشين لبناء منصات دفع وخدمات مالية مفتوحة المصدر تديرها هيئات مجتمعية منتخبة، وتعمل بشفافية كاملة، بحيث يكون لكل مستخدم حق الاطلاع والمشاركة في اتخاذ القرار، مع إقصاء النماذج التي تمنح الأفضلية لرأس المال الكبير أو الامتيازات التقنية الضيقة.

التقنية ليست محايدةً، هي إما أداة سيطرة أو تحرُّر حسب من يمتلكها ولأي غاية تُسخَّر. لذلك، فإن الطريق إلى نظام مالي أكثر عدلًا لا يمر عبر تحسين خوارزميات السوق فقط، بل عبر مشروع مجتمعي شامل يضع البنية الرقمية تحت سلطة ديمقراطية حقيقية، ويجعل الثروة الناتجة عن الاقتصاد الرقمي ملكًا مشتركًا، لا مكسبًا حصريًا لقلة تملك أدوات السيطرة.