تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
فوارق كبيرة في الرواتب والأعباء الوظيفية بين المصريين والأجانب في سوق العمل

في بيزنس المدارس الدولية.. الأولوية للمستر الخواجة

منشور الثلاثاء 20 مايو 2025

تعرفت على مستر مالون/Mr.Malone في السنة الأولى التي عملت فيها مدرسًا عقب تخرجي عام 2014، كان مالون أمريكيًا أفريقي الأصل وكان يُدَرِّس اللغة الإنجليزية لصفوف الثانوية في إحدى مدارس القاهرة الدولية الأمريكية.

أتذكره باعتباره مدرس "cool" يقود موتوسيكل ماركة هارلي أسود اللون، يزمجر كل صباح قبل الطابور. الأهم من كل ذلك هو حب تلامذته الشديد له، فبالرغم من عدم تجاوزه الخامسة والثلاثين حينها، لم يكن معروفًا عنه التهاون بأي شكل، وكان الحب نابعًا من كونه حيويًا متفاعلًا بخفة ظل مع تلاميذه.

أما أنا فكنت حديث العهد بالحياة العملية بشكل عام. كل مؤهلاتي تقتصر على كوني خريج علوم سياسية بالجامعة الأمريكية، ولدي معرفة جيدة بالإنجليزية. غير ذلك، فإن خبرتي التربوية فعليًا كانت منعدمة. قبل دخولي "الإنترفيو" لتدريس الحصة التجريبية، كانت آخر مرة دخلت فيها فصلًا مدرسيًا حين كنتُ طالبًا في المرحلة الثانوية.

مُنبهِرًا بمالون، بدأت علاقتي تتوطد به على مدار العام الدراسي. عرفت منه أنه يتقاضى ألفي دولار، وهو ما جرت عليه العادة مع الأمريكيين وغيرهم من حَمَلة جوازات السفر الأجنبية الملونة، وحقيقة لم أشعر بالغيرة حينها، خاصة أنني كنت أتقاضى 5000 جنيه مصري، تعادل وقتها 714 دولارًا، وهو راتب جيد لشاب حديث التخرج.

في إحدى المرات جرت بيننا محادثة في واحد من أروقة المدرسة الطويلة بعد نهاية يوم شاق. كنت أشاركه الصعوبة التي تواجهني مع أحد الفصول وإحساسي بالتقصير بسبب قلة درايتي بالأسس التربوية المطلوبة لتنظيم حصصي. وفي محاولة منه لدعمي وتهوين الأمر، أفصح لي أنه هو الآخر لم يدرس أبدًا قبل مجيئه لمصر أي مناهج تربوية، وأن الكثير من الأشياء يجب تعلمها بالممارسة العملية.

متفاجئًا من إجابته، أعدت سؤاله عن عمله في بلده قبل القدوم إلى مصر، فقال "من يوم ما اتخرجت من ثانوي وأنا سواق ترلات، بنقل كل حاجة وأي حاجة".

لون جواز السفر يحكم 

بعد سنوات من العمل مع المدارس الدولية في مصر، اكتشفت أن مستر مالون ليس حالة خاصة، وهو بالمناسبة ما لا يخفى عمن احتكوا بتلك الأنظمة من تربويين وإداريين أو حتى أولياء أمور. فنحن معشر "المدرسين المصريين" نقع في قاع هرم تمتزج فيه عناصر الهوية واللغة وجواز السفر لتحدد مكانتنا وموقعنا.

فالمصري صاحب الجواز الأمريكي يتقاضى بالتأكيد أكثر من نظيره صاحب الجواز الأخضر، والمصري الذي يُدَرِّس المنهج الأجنبي لا يتساوى مع نظيره مدرس منهج الحكومة، وبالطبع لا يتساوى أي منهما مع مايكل وكريستينا مواليد الولايات المتحدة وإنجلترا، وهو بالطبع منطق قد يوافق عليه قطاع ليس بقليل من أولياء الأمور المصريين من دون أي نقد حقيقي.

الهوس باللهجة في حقيقة الأمر يرتبط في أصله بإعادة الإنتاج الطبقي

فلماذا يا تُرى لا نجد أيَّ غضاضة في ممارسة التمييز ضد معلمة متمرسة، قضت حياتها بين جدران الفصول، تعمل جاهدة على تطوير نفسها وصقل خبراتها، دارسةً وقارئةً، بوضعها في مرتبة أقل من نظرائها المعلمين والمعلمات من مختلف الجنسيات، فقط لكونها مصرية؟

حصول الأجنبي والمصري المجنس على راتب أعلى من المصري "الخالص" يعكس في لُبِّه أزمة ازدواجية معايير تقييم المعلمين، وتغلغل عقدة الخواجة، التي يطول تحليل إرهاصاتها الاجتماعية والطبقية.

البحث عن أكسنت

لعل السبب الرئيسي لقبول أولياء الأمور تلك المعادلة هو بحثهم عن مدارس دولية تضمن إكساب أبنائهم لهجة أمريكية أو بريطانية خالصة. هذا الهوس في كثير من الأحيان يؤدي إلى قبولهم مدرسًا أقل من العادي، بما أنه سيضمن "الرطن زي الأجانب".

من المهم هنا التفرقة بين إتقان اللهجة وإتقان النطق، والفارق كبير. إلا أن الهوس باللهجة في حقيقة الأمر يرتبط في أصله بإعادة الإنتاج الطبقي، فإتقان اللهجة في مصر هو علامة لـ"النضافة" أو "الشياكة" والثراء، حتى أصبح أداة لفرض القوة، مثل "كرباج" خفيّ، لأن الكلمات واللهجات لها سلطة رمزية وتأثير، في كثير من الأحيان، أقوى من تأثير سلطة رأس المال، لتحمل معاني قوية يترجمها الآخرون لا شعوريًّا، وهو ما لا يصح فصله عن هيمنة أمريكا الثقافية، وتأثرنا الحتمي باللحظة التاريخية التي نعيشها.

السبب الثاني هو حصول المدرسين الأجانب في كثير من الأحيان على تعليم جامعي يؤهلهم للتدريس، وإعداد الدروس، والتعامل مع المراحل العمرية المختلفة. ولعل قصة تعييني خير دليل على ذلك، فغالبيةٌ مدرسي المدارس الدولية المصريين يدخلون الفصول بلا أي مؤهلات تربوية، ويتعلمون مهارات التدريس بالممارسة.

في تجربتي العملية التي بدأت في عام 2014 لاحظت وجود نوعين من المدارس الدولية في السوق المصرية، الأول يمكن أن نسميها مدارس دولية اقتصادية في متناول الطبقة المتوسطة العليا، وهي التي تعتمد على نماذج مثلي (حديث التخرج بلا مؤهلات تربوية) ومثل مالون (بلا مؤهلات جامعية لكنه أمريكي الجنسية والنشأة)، والثانية دولية بمصروفات باهظة جدًا، تمكنها من تعيين أجانب ومصريين بمؤهلات تربوية وأكاديمية عالية جدًا.

والمشكلة الرئيسية هنا هي عدم وجود أي معايير حقيقية أو رخص مهنية مطلوبة لتعيين المدرسات والمدرسين في المدارس الدولية عامة، والأهم هو الغياب التام للكليات التربوية أو الحكومية التي تلبي احتياج المدارس الدولية من مدرسين متمكنين من اللغات الأجنبية ومتخصصين في مختلف مجالات المعرفة.

وللحق، فالشهادة الجامعية في نهاية المطاف ليست العامل الأساسي للتميز، في مهنة صعبة تحتاج إلى مزيج من الذكاء العاطفي، والتنظيم، والقدرة على الإدارة، وتصميم المناهج، وغيرها من المهارات، كما في حالة مالون مثلًا، لكن الفهم النظري في نهاية المطاف يؤجج المهارة ويصقلها، لذلك، فإن غالبية الكليات التربوية في العالم تمزج بين التأسيس الأكاديمي والممارسة العملية في الفصول.

خطر تسليع التعليم

وفق بيانات رسمية ارتفع عدد المدارس الدولية من 168 مدرسة عام 2011 إلى 785 مدرسة في عام 2020، كما شهد عام 2021 افتتاح 20 مدرسة أخرى، بإجمالي 2.5 مليون طالب بالمدارس الخاصة بمختلف أنواعها. 

تبيع المدارس الدولية وهم الاهتمام بالتلاميذ بينما يحصل أطفالنا على ساعات رعاية أقل

قد يبدو غريبًا اهتمامي بشريحة مدارس تخاطب نخبة ضئيلة من إجمالي مجتمعنا المصري، فإن التوجه العام لتسليع التعليم ورسملته لملء الفراغ ومعالجة القصور القائم في المدارس الحكومية، يُحتِّم علينا الاهتمام بالجودة المزعومة التي توعدنا بها إدارات مدارس هدفها الأساسي الربح. وهي تمنحنا في نهاية المطاف خدمةً من المفترض لها أن تكون حقًّا مكتسبًا لكل مواطن.

هناك العديد من الأبحاث حول أسباب هجرة المدرسين من الشمال إلى بلادنا. فبجانب الأسباب المعروفة كالاستمتاع بالمناخ الجيد والاحتكاك بثقافة جديدة، يستطيع أغلبهم العيش هنا ملوكًا برواتب تتراوح بين ألفي وثلاثة آلاف دولار شهريًا، وهو مبلغ متوسط بالمعايير الأمريكية والأوروبية.

يأتون إلينا هروبًا من الغلاء وينجحون عادةً في توفير المال، بينما يتقاضى نظراؤهم المصريون رواتب تتراوح بين 20 و50 ألف جنيه مصري (من 400 إلى 1000 دولار)، ومع ارتفاع سعر الدولار في السنين الأخيرة وتغير سعر الصرف، أصبح من المستحيل استمرار الاستثمار في المدرسين الأجانب ومتطلباتهم دون رفع المصاريف الدراسية بشكل خرافي والحفاظ على الربحية المعتادة.

سوق المدارس الدولية سوق تنافسية وفي نمو كبير في بلاد الخليج والصين وجنوب شرق آسيا، مما يجعل الرواتب أكثر جاذبية في تلك الدول، بطريقة تؤثر بشكل مباشر على جودة المدرسين الأجانب الذين يقررون القدوم إلى مصر، ويبدو أن إدارات المدارس الدولية تتعمد تمكين الأجانب من المناصب العليا والإدارية ليصبحوا واجهة تخاطب وترضي متطلبات أولياء الأمور "لتحليل الفلوس".

بينما تتوسع الإدارات في تعيين المدرسين المصريين المتحدثين باللغات الثانية، لتعويض خسائرها المادية، لا ترتفع رواتب المدرسين المصريين بالقيمة نفسها التي ارتفعت بها مصاريف تلك المدارس، وهو ما أثَّر بالتبعية على أدائهم وهجرة الكفء منهم للمهنة أو للبلد، في محاولة للبحث عن فرص أفضل في مدارس بلاد أخرى.

يمكن الادعاء بأن حال المدرسين في المدارس الدولية أفضل بكثير من مدرسي المدارس الحكومية لأنهم يتقاضون رواتب أعلى ويعملون في بيئة عمل أفضل، لكن المدرسين في المدارس الدولية ينطبق عليهم ما أسماه المحاضر في التعليم الدولي تريستان بونيل بطبقة البريكاريا/precariat، وهو مصطلح طوره الخبير الاقتصادي في مجال العمل جاي ستاندينج، ليصف حالة الوظائف المهنية التي كان يُفترض تاريخيًا أنها تضمن الاستقرار المادي والاجتماعي، إلا أن التوجه النيوليبرالي العالمي ساهم في خلق هياكل ومؤسسات تتعامل معها كبيادق قابلة للاستبدال في أي لحظة، بلا أي رعاية لظروف العمل أو الاستحقاقات المادية.

الأمر ينطبق على مدرسي المدارس الدولية الذين يعانون غياب الحماية القانونية التي توفرها النقابات أو الجهات الرقابية. ففي هذه المنظومة مثلًا، يجري للأسف استغلال حاجة النساء إلى توفير تعليم جيد لذويهن بعرض خصومات عند إلحاق أبنائهن وبناتهن بتلك المدارس، ويصبح الإبقاء على أبنائهن في المدارس ثمنًا للإفراط في تشغيلهن، مع التلويح بحرمانهن من العمل لدى أي مدرسة دولية أخرى حال اعترضن على أي من سياسات العمل المجحفة، وهذا ما كنتُ شاهدًا عليه بنفسي أو سمعته من زملاء في مدارس أخرى. 

المدارس الدولية هي أماكن نلحق بها أبناءنا وبناتنا لنحقق لهم/لهن مستقبلًا أفضل، وبالرغم من كونها أماكن تُفرض فيها سرديات أوروبية وأمريكية عن تاريخنا وأفكارنا، فإنها أيضًا أماكن تضمن مهارات مهمة لسوق العمل مثل التفكير النقدي والتواصل وغيرها. ولكن في حقيقة الأمر، تلك الهيمنة الغربية مادية وملموسة في واقع المدرسين المعاش، قبل أن تكون هيمنة فكرية، وتفرض علينا العديد من الأسئلة حول سلاسل الاستغلال القائمة في بيزنس المدارس الدولية اليوم.

فبينما تبيع الإدارات حلم الاهتمام بأبنائنا، يحصل أطفالنا على ساعات رعاية أقل بالرغم من الأموال والمصاريف الكبيرة التي تطلبها تلك المدارس. وإدراكنا لتلك المعضلات ليس سوى الخطوة الأولى للتفكير في الحلول الممكنة.

بعد سنين، قابلت مالون في طائرة عائدة من نيويورك وسألته عن أحواله وإن كان ما يزال يعمل في المدرسة نفسها، فرد قائلًا "رجعت أسوق عربيات نقل بقى لي كذا سنة، بس جاي مصر علشان أعمل كشفي الطبي السنوي بما أنه أرخص هنا!".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.