برز الصراع القبلي محركًا رئيسيًا للحرب المشتعلة في السودان منذ أبريل/نيسان من العام الماضي بعدما كان مستترًا في خلفية النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع.
التكوينات القبلية انعكست في العناصر المنضوية داخل قوات الدعم السريع التي يرأسها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والتحالفات التي دشنها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان مع الحركات المسلحة في دارفور، حتى وصولنا للتطورات الأخيرة في مشهد الحرب، إذ بات جليًا مدى استخدام القبلية سلاحًا في يدي طرفي الصراع.
انشقاقات ومجازر
شهدت الحرب حملات انتقامية ومجازر ارتكبتها قوات الدعم السريع في قرى ولاية الجزيرة منذ 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى عادت مرة أخرى تحت سيطرتها بالكامل بعد انشقاق قائد قوات درع السودان والزعيم المناطقي أبو عاقلة كيكل عن جناح حميدتي وانضمامه للجيش.
كما أقدم الجيش على تدريب قبائل شرق السودان وتسليحها لتحقيق أهداف متناثرة بين مواجهة الدعم السريع، واستخدام العصا في وجه الحركات المسلحة في دارفور التي يتحالف معها، والتي ربما قد تنقلب عليه أو تطلب منه مكتسبات بعد انتصاره.
يرى المحلل السياسي سليمان سري أن الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة مؤخرًا أضفت على الحرب الطابع القبلي بشكل واضح، موضحًا أن المناطق التي ينحدر منها القائد المنشق كيكل في شرق ولاية الجزيرة تنفذ فيها قوات الدعم السريع عمليات قتل وتعذيب على الهوية القبلية، وأضحى الأهالي يحاسبون بجريمة أنهم محسوبون على القائد المنشق.
ويضيف أن الأصوات تتعالى حاليًا داخل قوات الدعم السريع مناديةً بطرد واستبعاد من هم من خارج قبيلة الرزيقات التي ينتمي إليها القادة والقوام الأساسي للدعم السريع، مشيرًا إلى أن انشقاق كيكل جعل قادة الدعم السريع يتحسسون مسدساتهم خوفًا من تكرار الانشقاقات من باقي القبائل التي تحالفت معهم، وأبرزها قبيلة المسيرية التي تتركز في وسط السودان.
السلاح للجميع
قبل اشتعال الحرب الحالية كانت أعداد الحركات والمجموعات المسلحة في السودان تُقدر بنحو 92 حركة، 87 منها في دارفور، بينما تنشط 5 حركات في كردفان والنيل الأزرق ووسط وشرق البلاد، غير أن العدد تزايد، حسب رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور، الصادق علي حسن، الذي يوضح لـ المنصة أن الحرب أفرزت عشرات المجموعات المسلحة على أساس قبلي وأيديولوجي، في غالبية ولايات السودان وليس دارفور فقط.
التعدد القبلي جزء من مشكلات السودان التاريخية
نجح الجيش السوداني في دفع الحركات المسلحة التي لديها ثقل عسكري مهم إلى التخلي عن حيادها، لتنضم إليه قبل عام تقريبًا، لتشكل قوات مشتركة تقف حاليًا حائط صد في مواجهة قوات الدعم السريع التي تحاصر منذ شهر مايو/أيار الماضي مدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور، لتبقى المواجهة متجددة بين القبائل العربية التي تشكل عصب قوات الدعم السريع، والإفريقية التي يتحالف معها الجيش حاليًا بعدما كان يقاتلها في ظل حكم عمر البشير.
يرى حسن أن التعدد القبلي واحدة من أبرز مشكلات السودان المتراكمة، وأن النظام السابق ومن خلفه السلطة العسكرية التي تولت الحكم بعد ثورة ديسمبر تعمدا استدعاء القبيلة في معادلة الحكم كسياسة ممنهجة لإضعاف القوى المدنية التي كانت تشكل خطرًا على وجودها في السُلطة، ويَظهر ذلك من خلال أداء القَسَم والبيعة للأنظمة الحاكمة، كما أن اختيار الوزراء والمسؤولين كان يجري على أساس قبلي، وحرص زعماء القبائل على تمثيل قبائلهم في هياكل الحكم.
وينتقل مرة أخرى إلى أثر الصراع القبائلي التاريخي بين ذوي الأصول الإفريقية والعربية، مشيرًا إلى أن الجيش وحلفاءه يصفون المجموعات التي تقاتل إلى جانب الدعم السريع بأنها قبائل وافدة، ومنها قبائل ترجع جذورها إلى تشاد مثل الرزيقات. في المقابل تتبنى قوات الدعم السريع خطابًا يطالب بإنهاء دولة 1965 التي أقيمت بعد خروج المستعمر البريطاني باعتبارها سبب الهلاك والتخلف.
سلاح الأعراق
تطور آخر يشي بأن الحرب تأخذ طابعًا قبليًا عرقيًا متزايدًا؛ يتمثل في إعلان الدعم السريع، في 20 أكتوبر الماضي، توطين مجموعة عربية قادمة من إفريقيا الوسطى في ولاية وسط دارفور. إذ ردَّ مجلس أعيان وشورى عموم الفور، ممثل قبيلة الفور أكبر قبائل إقليم دارفور، على الخطوة بإدانتها ووصفها بـ"إنشاء إمارة جديدة من الدعم السريع لمجموعة عربية وافدة"، وتحذيره من أن الخطوة تعد محاولة لإحداث تغيير ديموجرافي على حساب السكان الأصليين.
بعد هذه الواقعة بأسبوع واحد، ومع استعار الهجمات الممنهجة ضد المدنيين في محلية شرق الجزيرة، أعلنت ميليشيات الأورطة الشرقية التي تتبع الجبهة الشعبية، نشر قواتها في شرق السودان بالتنسيق مع الجيش، وهي قوات قوامها الرئيسي قبيلة بني عامر وكان قائدها ضمن الموقعين على اتفاق جوبا للسلام ممثلًا عن منبر الشرق.
أخذت الحرب طابعًا دوليًا بتلقي الميليشيات تدريبات خارج السودان
يشير المحلل السياسي سليمان سري إلى أن تلك الخطوة رد فعل على استخدام سلاح القبائل من جانب قوات الدعم السريع، وأن إقليم شرق السودان الذي توجد فيه الحكومة السودانية أضحى مرتعًا للمجموعات المسلحة التي نشأت على أساس قبلي.
حركات الشرق المسلحة
تنشط في شرق السودان ثماني حركاتٍ مسلحة، من بينها الحركة الوطنية للعدالة والتنمية، وقوات الأورطة الشرقية، وحركة تحرير شرق السودان، ومؤتمر البجا بقيادة موسى محمد أحمد، بالإضافة إلى مجموعاتٍ مسلحةٍ صغيرةٍ أخرى تنشط في الإقليم منها قوات تجمع أحزاب وقوات شرق السودان بقيادة شيبة ضرار وقوات الأسود الحرة بقيادة مبروك مبارك سليم، بجانب جيوش حركات دافور التي لها أفرع في شرق السودان حاليًا.
ويرى المحلل السياسي المتخصص في شؤون شرق السودان أحمد خليل أن الميليشيات التي نشرت عناصرها مؤخرًا في ولاية كسلا كانت موجودة منذ اندلاع الحرب لكنها كانت تتلقى تدريباتها في إريتريا، وهو ما يعتبره دليلًا على أن الحرب أخذت طابعًا دوليًا بشكل واضح.
ويضيف لـ المنصة أن تغذية القبلية في شرق السودان تخدم الجيش السوداني الذي يجيد حشد وتسليح القبائل وتقسيمها إلى مجموعات مسلحة عديدة تقاتل عناصر الدعم السريع بدلًا منه، مع ضَعف سلاح المشاة واعتماده في غالبية المعارك السابقة على المجموعات المسلحة ذات الصبغة الإسلامية وكذلك حركات دارفور.
غير أن خليل يعتبر "خطة الجيش بمثابة لعب بالنار لأن القبائل قد تنقلب ضده حال حدثت خلافات بينها"، بينما يرى المحلل السياسي سليمان سري أن نشر مجموعات مسلحة في شرق السودان رغم عدم وصول الحرب إليها حاليًا هدفه رغبة الجيش في إرسال رسالة إلى حركات وقبائل دارفور في الغرب، التي تقاتل معه بأن لديه ظهيرًا آخر في الشرق يستند إليه.
ويوضح لـ المنصة أن تجهيز القبائل للعب دور الظهير المسلح للجيش في الشرق بدأ منذ اندلاع الحرب، إذ دشَّن الجيش معسكرات تدريب لأبناء القبائل على الحدود مع دولة إريتريا.
ويضيف "الآن، وبعد أن نشبت الخلافات بين الحركة الإسلامية النافذة داخل الجيش والحركات المسلحة، فإن دور مجموعات الشرق سيأخذ في التصاعد للتأكيد على أن الجيش السوداني ليست لديه مشكلة في صناعة البديل الداعم له، لكن في الوقت ذاته يغرق في مستنقع تعدد الجيوش والحركات ولن يكون بإمكانه إعادة الترتيبات الأمنية بما يحافظ على قومية الجيش التي غابت بصورة كبيرة".
ونشرت منصات صحفية موالية للجيش تقريرًا زعمت فيه أن رئيس حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، الذي يشغل منصب وزير المالية الحالي، ورئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي الذي يشغل منصب حاكم إقليم دارفور، طالب بحصة في السلطة تساوي 50% من كراسي الحكم، بما فيها وزارات الخارجية والداخلية والمالية والمعادن، وأن يؤول منصبا رئيس الوزراء ووزير المالية لجبريل إبراهيم، وابتداع منصب نائب أول لرئيس مجلس السيادة لكي يتولاه حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي.
ورغم تجاوز الحرب عامًا ونصف العام فإن نارها لم تخمد، فقد قُتل أكثر من 40 ألف سوداني خلال 19 شهرًا من القتال الدامي، وفقًا لمنظمة أطباء بلا حدود، فيما اضطر نحو 10.7 مليون سوداني لمغادرة منازلهم قسرًا، وبينما يرى الجيش أنه اضطر لاستخدام سلاح القبيلة لإنهاء الحرب واستعادة الاستقرار فإن الوضع على الأرض يشير إلى أن وقودًا جديدًا أضيف لفرن الحرب، وإن نارها باتت أكثر استعارًا وألسنة اللهب تتطاير في كل الاتجاهات.