رغم أن دورة الألعاب الأولمبية شهدت هذا العام في باريس تمثيلًا متساويًا للرجال والنساء، في خطوة إيجابية نحو تعزيز مشاركة المرأة في المنافسات الرياضية، فقد حفلت الدورة بحالات مثيرة للجدل حدث فيها ترسيخ للصورة النمطية للمرأة، سلطت الضوء على العنف والتمييز والتنمر ضدها، خصوصًا مع استمرار سيطرة الرؤية الذكورية على الرياضة في المجمل.
تنعكس هذه الرؤية بشكل عام على التعاطي مع مسببات الانتصار والخسارة، والتركيز الإعلامي على أجساد النساء، وغياب أدوات الحماية المناسبة لهنَّ، بالإضافة إلى ما تعانيه المرأة في أغلب المجالات الرياضية من تفاوت في الأجور والمكافآت مقارنة بنظرائها الرجال.
أقف هنا أمام ثلاث حالات من الانتهاكات التي تعرضت لها لاعبات شاركن في أولمبياد باريس، كان لافتًا للنظر أن من قاموا بها لم يكونوا من المحافظين دينيًا واجتماعيًا حصرًا، بل تنوعت اتجاهاتهم وانتماءاتهم، بداية من المسؤولين عن التنظيم، مرورًا بالرياضيين المشاركين في المنافسات، انتهاءً بالجمهور الواسع من المتابعين والمتفاعلين مع هذا الحدث الرياضي العالمي.
الجميع يهاجم النساء
البداية مع ما تعرضت له الملاكمة الجزائرية إيمان خليف من حملة شرسة مهينة تشكك في أهليتها الجنسية، بدأت من منافستها الإيطالية، ثم تصاعدت مع الحديث عن الطبيعة الجسدية للبطلة الجزائرية وقدراتها والمطالبة بحرمانها من استكمال الدورة. وهو ما وصفته خليف نفسها بموجة من المراقبة البغيضة بسبب المفاهيم الخاطئة حول جنسها تمس كرامة الإنسان.
حسنًا، ساندت اللجنة الأولمبية الدولية خليف بالتأكيد على أنها ولدت أنثى، وعاشت حياتها أنثى، ومارست الملاكمة أنثى. لكن من المتوقع أن يستمر الجدل بخصوص خليف مع فوزها بالميدالية الذهبية، ووقوف الاتحاد الدولي للملاكمة في صف من هاجموها، بمنحه منافستها الإيطالية المنسحبة قيمة جائزة الميدالية الذهبية. لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل جرت محاولات استغلال القضية من جانب بعض الزعماء السياسيين المنتمين لليمين المحافظ، مثل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني.
هل من التنوير أن يُملي الرجل على المرأة الزي الذي يراه مناسبًا لها لتمثيل "النساء المصريات"؟
تلقي هذه الأزمة تساؤلات حول حقوق العابرات جنسيًا، ومدى ما تمثله القوانين التي تحرمهن من المشاركة في الفعاليات الرياضية الدولية من انتهاك لحقوقهن، وقصور اللجنة الأولمبية الدولية واتحادات الألعاب المختلفة من إيجاد صيغ مناسبة تضمن المنافسة العادلة وفي الوقت نفسه لا تنتهك حقوق الفئات الضعيفة.
أما القصة الثانية، فكانت اللجنة الأولمبية المصرية عنوانًا لها، بطريقة تعاملها المشينة مع استبعاد الملاكمة يمنى عياد من المنافسات بسبب زيادة وزنها 700 جرام، وذلك بإلقاء المسؤولية منفردة على اللاعبة في البداية، ثم باعتبار الدورة الشهرية وكأنها وصمة وعيب يدعو للخجل، ولا يجوز كتابتها في بيان أو التصريح بها، بحجة "الالتزام بالأعراف والتقاليد المصرية".
عملت اللجنة الأولمبية المصرية على تعزيز الصور النمطية حول الحيض، دون النظر لتأثير ذلك على جوانب حقوق الإنسان الخاصة بالنساء والفتيات، في مقدمتها المساواة والرعاية الصحية وظروف العمل الملائمة.
تخص الحالة الثالثة منتخب الكرة الطائرة الشاطئية للنساء، الذي تعرض لسخرية وتنمر وهجوم على عضوتيه، بسبب مشاركتهما وهما ترتديان الحجاب مع ملابس تغطي كامل جسديهما وهما تواجهان لاعبتين ترتديان البكيني.
قاد بعض ممن يعتبرون أنفسهم تنويريين هذه الحملة البغيضة بحجة أن هذا الظهور عنوان للتخلف الحضاري والثقافي لا يمثل مصر ولا نساءها، رغم أن اللاعبتين المصريتين ارتديتا زيًا يتوافق مع قواعد وشروط ممارسة اللعبة. تجاهلت هذه الحملات وجود حالات مماثلة للاعبات غربيات كسرن قواعد الزي التقليدي في بعض الرياضات، مثل لاعبات الجمباز الألمانيات اللاتي ارتدين بدلات تغطي أجسادهن في التصفيات المؤهلة في الألعاب الأولمبية، في إعلان لرفض إضفاء طابع جنسي على رياضتهن.
فهل من التنوير أن يُملي الرجل على المرأة في القرن الحادي والعشرين الزي الذي يراه مناسبًا لها أو يلزمها بالزي الذي يعتقد أنه يمثل النساء المصريات، دون احترام اختياراتها الشخصية؟ وهل من التنوير أن ينتهك حق النساء في اتباع أو عدم اتباع الأعراف الاجتماعية والدينية اللاتي يعتقدن بها؟ وهل سيوفر لهن الحماية من العواقب السلبية لهذا الاختيار إذا تعرضن للمضايقة أو العنف؟
بالنسبة لقطاعات واسعة من النساء، الحجاب ممارسة دينية يخترنها بأنفسهن، وهو جزء متأصل من حرية الدين والمعتقد، وتعرضها لضغوط لارتداء ما لا تريده هو انتهاك لحرية الدين، مثلما الأمر تمامًا في حالة التمييز ضد المرأة بسبب عدم ارتدائها الحجاب أو الضغط عليها لارتدائه.
هذه الحالات مجرد أمثلة لما شهدته فعاليات أولمبياد باريس منذ حفلها الافتتاحي، الذي أثار انتقادات بحجة إساءته للمسيحية، ودعوته لنشر المثلية والحرية الجنسية. كان عنوانها ممارسة العنف وترسيخ أشكال التمييز ضد النساء في المجال الرياضي.
صور نمطية عابرة للثقافات
يعرِّف إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة (1993) العنف ضد الفتيات والنساء بأنه "أي عمل من أعمال العنف الذي يترتب عليه، أو من المرجح أن يترتب عليه ، إيذاء جسدي أو جنسي أو نفسي، أو معاناة للنساء والفتيات. ويمكن أن يشمل ذلك التهديد بمثل هذه الأعمال، والإكراه، أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث في الحياة العامة أو الخاصة". ويرتكب هذا العنف ضد النساء والفتيات على وجه التحديد لأنهن نساء.
تتعرض المرأة لمثل هذه الانتهاكات بسبب التوقعات الاجتماعية المحددة التي تتعلق بجنسها، حيث تنطلق معظم الممارسات التمييزية من افتراض أن للرجل الحق المطلق في السيطرة على كل جوانب النساء في المجالين العام والخاص، لذلك يتوقع منها أدوارًا ثانوية، وهو ما يفسر حملة الهجوم الشرسة التي تعرضت لها لاعبة سيف المبارزة ندى حافظ بعد الإعلان عن خوضها منافسات البطولة وهي حامل.
لم يقف من شاركوا في هذه الحملة عند أدائها المتميز وعدم تأثر الجنين بخوضها المنافسات، ولا بكونها طبيبة تملك المعرفة لتقييم حالتها الصحية. وهو ما يظهر أيضًا في النظر إلى الفتيات والنساء اللاتي يمارسن الرياضات العنيفة من عدم تشجيعهن والتنمر عليهن وتشبيههن بالرجال.
كما تلعب التغطية الإعلامية للأحداث الرياضية دورًا مهمًا في تشكيل المعايير والصور النمطية الجنسانية، فلا تزال هناك بعض الاختلافات الجوهرية في كيفية تصوير الرياضيات والرياضة النسائية مقارنة بالرجال، سواء بالتجاهل وعدم التعرض لهن، أو بالتركيز على الخصائص غير المتعلقة بالرياضة، مثل المظهر الجسدي والملابس والحياة الشخصية.
أظهرت دراسة الاتحاد الدولي لألعاب القوى عن تحديد ومعالجة الرسائل المسيئة المرسلة إلى الرياضيين عبر السوشيال ميديا بعد أولمبياد طوكيو 2020 أن 87% من هذه الرسائل كانت للنساء، كما كشفت عن مستويات مقلقة من إساءة معاملة الرياضيين، بما في ذلك المنشورات الجنسية والعنصرية وكراهية العابرين والعابرات جنسيًا والمثليين، واتهامات لا أساس لها بتعاطي المنشطات.
كما أكدت بشكل لا لبس فيه على المستويات الأعلى من الإساءة التي تتلقاها الرياضيات مقارنة بنظرائهن من الذكور. هذا بالإضافة إلى المضايقات والإساءة التي يواجهنها أثناء التدريب والمنافسة. وحتى عندما يجرؤن على التحدث صراحة، فإنهن كثيرًا ما يواجهن انتقامًا شديدًا.
ما شهده أولمبياد باريس يجب أن يكون فرصةً لكسر حالة الصمت تجاه هذه الثقافة الذكورية المهيمنة وتعزيز قدرات النساء في مجال الرياضة من التعبير عن أنفسهن، كما أنها فرصة في الوقت نفسه للحديث عن الجهود الدؤوبة للرياضيات المصريات حتى لو احتللن مراكز متأخرة في المنافسات، فوراء كل مشاركة عمل متواصل وتضحية مقدمة وتجربة تحدٍ للظروف الاجتماعية الصعبة. أما المساءلة والمحاسبة فهما لمسؤولي الرياضة؛ مرة عن الفشل المريع وإهدار المال العام، ومرة ثانية لتهاونهم في الدفاع عن حقوق اللاعبات اللاتي يشرفن عليهن.