عندما كانت المصارعة فاطمة عطا في التاسعة من عمرها أدركت أنها موهوبة في الألعاب القتالية، وقوبل ذلك وقتها برفض إخوتها لأن تمارس ألعابًا "عنيفة ما ينفعش البنات تلعبها"، كما أن صديقاتها في المدرسة حذرنها من أن تتحول إلى صورة ذكورية غير مرغوبة.
تقول فاطمة التي أصبح عمرها الآن 18 سنة إن صديقاتها في ذلك الوقت "بدأوا يعلّقوا على لبسي، وطريقة كلامي، يقولولي بقيتي زي الولد، يقولولي الألقاب اللي أي بنت بتحاول تخرج عن النمط بتتلقّب بيها".
تلعب فاطمة الآن الكيك بوسينج والماي تاي والمصارعة الحرة والرومانية والكونج فو، وهي عضوة في أغلب اتحادات هذه الألعاب، وفازت بعدة بطولات محليّة وإقليمية.
بدأت حكايتها مع الرياضة عندما لاحظت أمها قوتها البدنية أثناء شجارها مع أي شخص يتنمّر على جرح أصيبت به في وجهها وهي صغيرة "شافت إني المفروض أفرّغ الطاقة دي في الرياضة".
بعد محاولات وتجارب مع رياضات "بناتي"، كما وصفتها، كالسباحة والكرة الطائرة، انصب حبها على الألعاب القتالية وكان عمرها حينئذٍ 13 سنة.
وفي ظل التنميط الذي واجهته بسبب حبها للألعاب القتاليّة، كانت والدتها الفرد الوحيد الداعم لها لتستكمل ممارسات الرياضة.
يصعب الوصول في مصر إلى مساحات لممارسة الرياضة للأطفال والكبار، خاصة إذا كانت الرياضة فردية، لكن الأمر يزيد صعوبة على النساء، خاصة في ظل عادات وتقاليد وموروثات دينية لا تفضل خروج النساء للمجال العام، حتى اللاتي أحرزن بطولات وأثبتن كفاءتهن الرّياضيّة وأصبحن عضوات في اتحادات لعبتهن، كفاطمة، التي ظلت لسنوات، ولا تزال، تواجه عقبات الموروثات المجتمعية عن "البنت المسترجلة"، والعقبات الاقتصادية لتحقق حلمها في أن تصل إلى الأولمبياد ممثلة لمصر في الألعاب القتاليّة.
الخروج عن النمط
ما قادنا إلى الحديث مع فاطمة عن المساحات المتاحة للنساء لممارسة الرياضة، قصّة بنات شارع 200 التي تحكي عن أربع فتيات يسكنّ حي المعادي ولا تسمح لهن ظروفهن الاقتصادية بممارسة رياضة التايكوندو، لكن وجود أهلٍ داعمين ومدربٍ مهتم حولهنّ لبطلات يحصدن الجوائز.
من ضمن ما قال لنا رجب، والد جمانة، أصغر اللاعبات الأربع الذين قابلناهم "كان ممكن ما تروحش الجيم، وأنا كان ممكن ما شجّعهاش، أو مثلاً الفلوس تبقى غالية عليّ، ساعتها هتطلع واحدة عادية".
ما يقوله والد جمانة، يفسره والد ياسمين صديقتها، محمد أمين، حيث يحاول تغطية تكاليف تمرين ابنته وطموحها، لكنه بالتأكيد لا يستطيع إرسال فتياته الخمس لممارسة الرياضة "ظروف البلد بقت .. (يضحك). هي واحدة أو اثنين أكثر من كده مافيش".
أخبرتنا ياسمين خلال التصوير معها أنها تمنّت لعب كرة القدم بجانب التايكوندو، لكن أقرب مكان يقبل تدريب الفتيات يوجد في التجمّع الخامس، بعيدًا عن مسكنها بحوالي نصف ساعة على الأقل، في حالة امتلاكها سيارة خاصة.
تبع هذه القصّة سؤال بين فريق إنتاج المحتوى في الموقع عن الأماكن التي تستطيع فتاة الذهاب إليها لتركل كرة دون تكلفة، فالأولاد دائمًا بإمكانهم استغلال أي مساحة مفتوحة كالشوارع أو الجراجات للتجمّع ولعب الكرة، ولكن ماذا عن الفتيات؟ قصّة جمانة وياسمين، ومن بعدهن فاطمة أعطتنا مؤشرًا بأن إصرار الأهالي في مواجهة العقبات الاقتصادية هي ما منح هؤلاء الفتيات فرصة لممارسة الرياضات اللاتي يحببنها.
أصرّت والدة فاطمة، التي كانت تعمل حكيمة، أن تمارس ابنتها ما تحب من رياضات دون تقييد في مواجهة إخوتها، وبعد أن أصبحت في سن المعاش، فتحت محلاً لألعاب الأطفال، من أجل توفير الدعم المادي اللازم لفاطمة، لتستكمل دراستها وتغطي مصاريف التدريبات والمعسكرات والمعدّات الرياضية، تقول الفتاة إن دافع أمها لذلك كان سببه "إنها شافت نفسها فيها، أمي من أرياف وماكانوش عايزين يخلوها تكمّل تعليمها، جات القاهرة هنا وكملت تعليمها".
تلعب فاطمة لصالح نادي الشرطة، أماكن التدريب المتاحة بالنسبة لها هي نادٍ على طريق مصر- إسماعيلية الصحراوي، وجيم تتدرب فيه مع مدربها في حدائق الأهرام، قلّة توافر الأماكن القريبة منها في التدريب كانت مشكلة حاضرة منذ صغرها "الأماكن المجانية اللي بتدرب البنات شبه معدومة، واشتراكات المدربين غالية، استغلال على أعلى مستوى، كل ده بيخلّي بنات كثيرة جدًا ما تكملش"، تقول فاطمة إن المساحات النادرة للنساء تقابلها وفرة في المساحات المفتوحة للرجال من أجل ممارسة كرة القدم في الشارع، في وقت يصعب فيه على البنات اللعب في ساحة مفتوحة في ظل مجتمع يرى أن مهتمّتها الأساسية هي أن "تطبخ وتكنس"، على حد قولها.
https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Falmanassanews%2Fvideos%2F297781894166074%2F&show_text=0&width=560تتوافق رؤية فاطمة للأمر مع دراسة قام عليها تسعة باحثين مصريين وألمان، قارنوا خلالها اللياقة البدنية لمجموعة من الأطفال المصريين والألمان من 6 إلى 10 سنوات، ونشرت في مارس 2015.
خلصت النتائج إلى وجود فروق جوهرية في مؤشر كتلة الجسم بين الأطفال الألمان والمصريين، في الطول لصالح الألمان، والوزن لصالح المصريين.
تتفوق العينة المدروسة من الأطفال الألمان، بحسب نتائج الدراسة، على عينة المصريين في مجمل الاختبارات البدنية التي خاضوها، إلا أنه في حالة المصريين، فإن الذكور يتفوقون على الإناث في الأداء والقوة البدنية، في المقابل، فإن الإناث في العينة الألمانية تفوقن في كل الاختبارات البدنية على الأطفال الذكور، كما أن الألمانيّات كنّ أفضل أداءً من المصريّات في اختبارات كالتوازن، والقفز على الجانبين.
أثبتت الدراسة أيضًا في محاولتها لدراسة علاقة اللياقة البدنية بالعمر، أن الأطفال الألمان يشهدون تحسنًا في لياقتهم مع زيادة العمر، بعكس المصريين، خاصة مجموعة الإناث.
فسر الباحثون تفوق الأطفال الألمان على نظائرهم المصريين لتوفر المساحات المجانية للعب في ألمانيا مقارنة بمصر، إضافة إلى فرص المشاركة في فعاليّات بدنية ورياضية منظّمة لصالحهم، فهناك عوامل مثل مساحات المعيشة الواسعة، واهتمام الوالدين بالرياضة، ووجود مدارس وحضانات صديقة للحركة، يؤثر على الأداء البدني للأطفال الألمان، في المقابل فإن عدم توفر هذه العوامل في مصر إضافة إلى عوامل مرتبطة بعدم المساواة بين الجنسين في المجتمعات الشرقيّة، يجعل فرض الفتيات المصريّات أقل ما يكون في ممارسة الرياضة، وهو ما أكدت عليه دراسات سابقة ذكرتها الدراسة في تفسير نتائجها.
حتى وقت قريب، كانت فاطمة تمر على جيرانها وسكّان شارعها في منطقة الزهراء، بينما يظهر من حقيبتها "الجلافز" الخاص بتمرين الكيك بوكسينج، وهو ما كان يجعلهم ينظرون إليها باستغراب واستهجان حتى صارت تعود بميداليات وشهادات تقدير تملأ حوائط غرفتها.
"بنبسط لما ولد يجي يسألني وأكلم له المدرب بتاعي عشان يتدرب، ستات جيراننا عايزين يدربوا بناتهم الصغيرين، عايزين يحسوا بتألق بناتهم زي أمي"، حتى تصل فاطمة إلى هذه النقطة، كان عليها أن تعمل طويلاً حتى تحقق نجاحات تجبر الآخرين في منطقتها على الاعتراف بها.
يتشابه هذا الجزء من قصّة فاطمة مع قصّة ياسمين السيّد، لاعبة كرة القدم وصاحبة أكاديمية مصرية لتعليم النساء اللعبة، تقول ياسمين لـ المنصة إنها احترفت لعب الكرة منذ صغرها، لكن كثيرين لم يعترفوا بها وبمجهودها إلا بعد أن أسست أكاديميتها وصارت وجهًا معروفًا تألفه القنوات الفضائيّة "مجرد ما بتنجحي كله بيصقّفلك".
لعبة شعبية للرجال فقط
قبل وأثناء تأسيس ياسمين السيد لأكاديميتها التي تعلّم النساء كرة القدم، كانت تعاني كثيرًا، كغيرها من الفتيات، لإيجاد نوادٍ تسمح بفرق كرة قدم نسائيّة "مرة رحت لنادي كبير، قلتلهم ما ينفعش تبقى أنت نادي كبير في الدوري، ونوادي تانية أصغر عندهم فريق نسائي وأنت لأ، قالولي لأ إحنا مكتفين بالولاد"، كانت ياسمين محظوظة بأهلها الذين لم يعترضوا على لعبها كرة القدم طالما لم تؤثر على دراستها الجامعيّة بكلية الهندسة، لكن تعليقات الناس واستهجانهم للعبها كان ملازمًا لرحلتها الرياضيّة.
قلّة المساحات المتوفرة للنساء لتعلم كرة القدم هو ما دفعها لتأسيس أكاديميتها، تأتيها في الملعب الذي تؤجره أسبوعيًا في حي مدينة نصر فتيات من كل أنحاء القاهرة"أكتوبر والهرم وأماكن بعيدة جدًا، وده عشان هم حبوا المكان عندي بس كمان عشان هم مش لاقيين مكان قريب"، تقول ياسمين إن فتيات كثيرات يأتينها مرة واحدة بعد محاولات مع أهاليهن لكنهن لا يكررنها "بيجيبوها عشان بس تبطل زن بس مرة وخلاص، تبقى خلاص حبت الموضوع فتحصل مشكلة، ليه؟ لأن اللعبة ديه لعبة ولاد بس".
دائمًا ما يشار إلى كرة القدم بكونها اللعبة الأكثر شعبية في العالم، لأنها الأكثر سهولة في ممارسة، كل ما تحتاج إليه كرة وساحة خالية، وراغبين في اللعب، لكن في مصر، وكما تحكي ياسمين، فإن الأمر مقصور على الأولاد فقط "في المحافظات البنات لو عملت كده يبقى عيب وحرام".
"اللي هو إحنا دخلنا الحرام والحلال في حاجات مالهاش أي علاقة"، حتى العام الماضي، يمكنك أن تشاهد على صفحات الجرائد فتاوى صادرة من دار الإفتاء ومؤسسة الأزهر وشيوخ ودعاه خارج هاتين المؤسستين، منها ما يبيح ممارسة الرياضة للنساء، في مقابل فتاوى أخرى تحرمها وأخرى تضع لها ضوابط مثل ألا تكون في قاعات مختلطة بين النساء والرجال.
هذه التقاطعات الدينية والاجتماعية والاقتصادية، لا تساهم فقط في إهدار مواهب رياضيّة نسائيّة كثيرة يمكنها تحقيق إنجازات في بطولات محليّة وإقليمية ودوليّة مختلفة، لكنها تنتج نساءً أقل اهتمامًا بصحتهن، ما يعني بالضرورة إنتاجًا أقل في العمل والحياة، فبحسب دراسة أخرى للباحث تامر جمال، أعدّها للحصول على درجة الدكتوراه في جامعة Technische Universität Chemnitz في ألمانيا فإن مصر تخسر طاقة إنتاجية تعادل 21 سنة كاملة من كل 1000 شخص، بسبب أمراض القلب التي تتضاعف نسبة الإصابة بها عند النساء مقارنة بالرجال في مصر.
قامت دراسة جمال على مقارنة مستوى اللياقة لمجموعة من الطلبة الألمان من الرجال والنساء، بمجموعة أخرى في مصر، ومثل الدراسة التي كان الأطفال الصغار عينة لها، وجدت هذه الدراسة فروقًا جوهرية بين المصريين والألمان، لصالح الألمان، في الصحة العامة واللياقة البدنية، وتفوقًا للنساء الألمانيات مقابل المصريات في نفس المضمار وفي اهتمامهن بصحتهن.
في الاستقلال قوّة
تضيف الدراسة أن الاستقلاليّة تعطي النساء القدرة على المشاركة في الأعباء اليومية، وهو ما يؤدي إلى مشاركتهن الرجال اهتمامهم بالرياضة، على عكس النساء المصريات اللاتي تعتمد أغلبهن على عائل، بفضل العادات والتقاليد السائدة في المجتمع.
بالنسبة إلى منى عزّت، مديرة برنامج العمل في مؤسسة المرأة الجديدة، والتي ترى، بحسب ما قالته في مكالمة هاتفية مع المنصّة أن العقبات التي تواجهها النساء في ممارسة الرياضة هي جزء من رفض تواجد النساء في المجال العام، سواء بالشغل أو الرياضة أو السياسة أو من خلال لعبها أدوار اجتماعية "سبب المشكلة هو الصورة المأخوذة عن النساء في المجتمع بأن أدوارهن دائمًا داخل المنزل".
حتى مع توفّر مراكز للشباب قد تكون مساحة متوفرة لمن لا يستطيع تسديد اشتراكات الأندية، فإن هذه الأماكن غير مجهزة لاستقبال النساء "حمامات السباحة مش متاحة دائمًا للبنات، كرة القدم كذلك، ألعاب القوى غير متاحة في كل المراكز، خاصة وأن الألعاب الفردية يتحمّل فيها اللاعب كل التكلفة الخاصة بالتدريب والتجهيز، وبالتالي البنت محتاجة تكون ممكنة اقتصاديًا عشان تصرف على اللعبة دي".
تضيف عزّت "نتيجة للصورة النمطية لتقسيم الأدوار فإن المجتمع لا يتقبل ذلك، لارتباط البناء الجسدي القوي بالرجال، والبنت المفروض تبقى هي الناعمة الضعيفة المستكينة، وبيطلعولها بتفسيرات زي إن ده ممكن يأثر على دورها الإنجابي وخارج تكوينها الجسماني".
عانت كل من ياسمين وفاطمة من تلك الافتراضات التي تخص أنوثتهن، بحسب ما ذكراه لـ المنصّة، لكن الرياضات اللاتي مارسنها صنعت منهن أيضًا، بحسب قولهن، فتيات أكثر استقلالاً وقوّة، تقول فاطمة "الرياضة ما شالتش غريزة فيّ، هي صنعت غريزة الحرية والشخصية المستقلة، أنا بنت بس محدش يقولي أعمل إيه، لازم أعرف هدفي إيه وعايزة أعمل إيه؟".
على الرغم من كونها قضيّة، بحسب منى عزّت، لا تحظى بالاهتمام في النقاشات العامة والحقوقيّة إلى حد ندرة وجود دراسات أو أوراق بحثيّة أو باحثين حقوقين مهتمين بالملف " لأنها جزء من قضايا كثيرة في المجال العام خاصة بالنساء ولا تتم مناقشتها، في وقت نحن نناضل فيه في قضايا، إذا جاز تسميتها بالأساسية، كتعليم النساء، أو التعامل معها باعتبارها مواطن لها مثل ما للرجل".
ترى عزّت أن الزيادة في مساحة ممارسة الرياضة للنساء يكون من حظ الفتيات الممكّنات اقتصاديًا "البنات في الأرياف والقرى محرومات حتى من نزول حمام السباحة في مراكز الشباب، حتى وإن بدأت بعض المراكز تخصص يوم أو يومين للنساء في حمامات السباحة، فهي أمور تتوفر في المناطق التي يسكنها أبناء الطبقة المتوسطة، وليس في المناطق الأحوج للخدمات الرياضية الرخيصة وشبه المجانية".
لكن فاطمة تعتقد أنها تعطي مثالاً لغيرها من الفتيات في منطقتها بما تفعله، معززة بدعم والدتها لها، رغم المكافآت القليلة التي تتلقاها من وزارة الشباب والرياضة، والتي لا تتوفّر أو تتأخر في كثير من الأحيان "أوقات مش بروح المعسكر عشان الفلوس، خاصة وإن النادي الوحيد اللي عندي اشتراك فيه هو النادي اللي بلعبله، هو اتحاد الشرطة وده بعيد عليّ أوي، فبقعد ألعب ضغط في البيت" لكنها في كل الأحوال تشعر بالسعادة بعد تغيّر نظرة كثيرين من أهل منطقتها للعبها "بقيت أمشي يقولولي عاش يا كابتن، وشدي حيلك، ولو شافوا صورتي على السوشيال ميديا يكتبوا كومنتات إن ديه بنت منطقتنا".