رحلت شادية، وقد تركت أثرًا كبيرًا. تاريخ من الأفلام والأغنيات التي لا تُنسى، وتظل في ذاكرة الأجيال واحدًا تلو الآخر، نستدعيها عندما يفوز المنتخب بالمباريات، ونستدعيها في حفلات الخطبة، نتذكر أفلامها، ونتندر بعبارات وردت في أفلام مثل "مراتي مدير عام"، و"الزوجة الـ13"، أو نستلهم ما تردد في أفلامها الأكثر جديّة مثل "شيء من الخوف".
رحلت شادية، بعد أكثر من ثلاثين سنة على اعتزالها التمثيل والغناء. في عام 1986 أعلنت شادية ترك المجال العام، لنستدعي السؤال الذي يبدو مهمًا في هذه اللحظة، ما هي اللحظة المناسبة لاعتزال الفنان، فيبقى في الذاكرة ولا يُنسى، وأيضًا يحافظ على تاريخه من انحدار المستوى؟
ما يذكر فى الأغنيات هو المنتج النهائي. ما نسمعه من المطربة شادية كأغنياتها الخفيفة، "سكر" و"إيرما لادوس"، والدويتو الشهير لها مع فريد الاطرش "يا سلام على حبي وحبك"، فتتعلق الذاكرة بأدائها للكلمات واللحن، بينما في أغانٍ أخرى طربية كخلاص مسافر، قد تثير حب معرفة المستمع ليبحث عن كاتبها، محمد حمزة وملحنها بليغ حمدي، ولكن في الغالب لن تأخذنا الذاكرة وحدها إلى حمزة أو إلى بليغ بمجرد الاستماع، لأن ما يرسم واجهة الفن هو التواجد الحي.
تحقيق الحلم
كان حلم شادية أن تكون مثل ليلى مراد، في أن تحظى بجمال أدوارها وغنائها. بمشوارها الفني نجحت، ولكن بشخصيتها وخفتها تفوقت.
ورغم أن السمة العامة، طوال رحلة شادية الفنية، ظهور صورتها العامة كـ"دلوعة الشاشة المصرية"، لكنها مرت بمراحل أخرى. فبعد البداية الشابة، التي كان "الدلع" هو عنوانها العريض، باعتبار أنها ناسبت، من وجهة نظر المخرجين، هذه الأدوار الخفيفة، وكذلك الأغنيات، فكثيرًا ما يكون المطرب، والوجه الجديد بالأخص، هو الأداة لنشر يريده المخرج أو الملحن، إلى أن تتكون شخصية الفنان، فتصبح له خياراته ومساحاته للرفض والقبول.
بعد تعامل شادية المرح مع الملحن منير مراد، توجه إليها بليغ حمدي، الأكثر تنوعًا، فغنت معه أنواعًا مختلفة من الأغاني، منها المرح والعاطفي والوطني. كلما تعاونت مع فنان أظهر فيها ما يراه.
لم تكن شادية تعي، في مراحلها الأولى، أكثر مما يسعى الآخرون إلى إظهاره فيها وإخراجه منها. كانت وكأنها بنصف وعي، بينما يجب أن ينظر الفنان بعد فترة لما قدمه، وكيف أصبح شكل تاريخه الفني، فتملك القدرة على اتخاذ قرارات فنية تتجه بها نحو الأعمال الخالدة.
تصف شادية أفلامها الأولى بأنها "هي أفلام مبتقولش حاجة وكلها تكرار".
أما عن أفلامها ما بعد الأخيرة فتقول "لأننى في عز مجدي أفكر في الأعتزال، لا أريد أن أنتظر حتى تهجرني الأضواء، بعد أن تنحسر عنى رويدًا رويدًا. لا أحب أن أقوم بدور الأمهات العجائز في الأفلام في المستقبل، بعد أن تعود الناس أن يروني في دور البطلة الشابة. لا أحب أن يرى الناس التجاعيد في وجهي ويقارنون بين صورة الشابة التي عرفوها والعجوز التي سوف يشاهدونها. أريد أن يظل الناس محتفظين بأجمل صورة لي عندهم، ولهذا فلن أنتظر حتى تعتزلني الأضواء، وإنما سوف أهجرها في الوقت المناسب، قبل أن تهتز صورتى في خيال الناس".
كانت شادية تعي جيدًا متى تعلن رحيلها، متى يرحل عنها الفن وتنطفئ الأضواء، وأن عليها إنهاء مسيرتها بيدها، وأن تعيش حياة بعيدة بإرادتها، قبل أن تكون مرغمة أو مهمشة، أو أن تدخل في مرحلة فنية تهبط أو تسيء إلى ما وصلت إليه. شادية تعلم أنه لم يعد هناك ما تقدمه أفضل مما كان، ولن تظهر بشكل يليق بها.
ربما تكون قد تعلمت من تجارب الآخرين من حولها، كيف كانوا وكيف أصبحوا حين استمروا. ولكن كم من فنانين مستمرين لم يعوا متى كان وقتهم المناسب لقرار التوقف، وأن استمرارهم لم يكن لمصلحتهم، فمنحنى الصعود الفني الذي قاموا به لم يستمر، وفوتوا الفرصة للاستقرار على القمة وأخذوا فى الهبوط.
قرارات الاعتزال الفني
الفنانون الذين تظهر أعمالهم الفنية دونهم، كالملحنين والمؤلفين، ربما هم أكثر من لا ترتبط أعمالهم بعمر محدد، لأن أعمالهم تظهر عن طريق وسيط هو المطرب في الأغاني أو الممثل في الأفلام. وهذه المهن هي أكثر من يجب أن يعي متى ينتهى دورها الفني.
غالبًا يصل الممثل إلى مرحلة سنية لا يعود قادرًا على أداء أدواره جيدًا، وأن يعي النص الذي يؤديه. وكذلك المطرب، يتغير صوته في مراحل عمره الأكبر، وكذلك يقل معدل أدائه للأغنيات، أو إحياء الحفلات.
أحيانا تختلف أسباب اعتزال الفنانين، لكنها قد تكون لحظات مناسبة رغم ذلك، كالفنانة هند رستم التي كانت فى قمتها الفنية، لكنها اعتزلت الفن نهائيًا، وسببت ذلك بأنها وجدت في وقتها عام 1979 أن السينما في طريق الانحدار فكان القرار مناسبًا، لتبقى في الذاكرة كعلامة سينمائية، لم تكن جزءًا من تدهور الصناعة.
الاتجاه للدين كان سببًا رئيسيًا في اعتزال معظم الفنانين، لكن تختلف التفاصيل في كل حالة، ما بين ندم على ما قاموا به من ادوار كسهير رمزي وسهير البابلي ومحسن محيي الدين وحسن يوسف. رغم أن الأخيرين عادا إلى الفن مجددًا من بوابة الأعمال الدينية. ولكن أخريات مثل مديحة كامل وشادية ارتدين الحجاب واعتزلن مع مسحة دينية لم تتضمن الندم.
إغفال اللحظة
يصل الفنان إلى مرحلة عمرية ما، تجعله مرفوضًا من الجمهور، كلاعب كرة القدم، الذي يصر على اللعب رغم كبر سنه وتراجع مستواه الفني، فالممثل إن لم يدرك أن مستواه يقل، ولم يعد يصلح لأدوار البطولة الرئيسية، أو أنه أصبح يمثل مراحل عمرية أصغر منه، فيظهر زائفاً منتحلًا بالمكياج، وما تصنعه الشاشة لتصغير عمره.
ليس المقصود هنا هو وضع سن معين للاعتزال، ولكنها رؤية الفنان لنفسه ولتاريخه، ليكون على دراية بقدراته، هل تأثرت وضعفت أم لا، كي لا يهين تاريخه.
فنان كعادل إمام ما زال مصرًا على التواجد، وعلى أن يكون البطل الرئيسي، ويخفي تراجعه الفني وتقدمه في السن، باستخفافه الساخر وتهويله للأحداث، كأدواره الأخيرة في "التجربة الدنماركية"، و"مرجان أحمد مرجان"، و"بوبوس"، والمسلسلات التي اتجه لها في الأعوام الأخيرة، رغم أنه يملك رصيدًا فنيًا من أعمال كوميدية ودرامية تظل خالدة في الذاكرة.
كذلك على مستوى الغناء، توجد أمثلة عديدة لفنانين أصروا على الاستمرار، رغم أن الزمن لن يساعدهم، كالفنانة فيروز التي تملك رصيدًا فنيًا عظيمًا، ورغم تقدمها في العمر، المؤثر بالتأكيد على صوتها وأدائها، فلم تعلن اعتزالها الفن، وأصدرت البومًا جديدًا مؤخرًا بدافع من ابنتها ريما.
أما الفنان محمد منير فما زال، خلال السنوات الأخيرة، يصر على الاستمرار، وإصدار البومات تقلل مما صنعه في تاريخه السابق الثري، حين كان يملك فريقًا من الشعراء والموسيقيين، الذين ساهموا بشكل كبير في نجاحه، ثم فقدهم. وحتى حين قيامه بالحفلات، لغناء أغنياته القديمة، فهو ينسى بها الكلمات، وتكثر أخطاؤه، لكنه يرى أن بإمكانه تقديم المزيد.
الفنانة صباح ظلت تظهر على الشاشة لأواخر عمرها، وعندما طلب منها الغناء غنت كدويتو "يانا يانا"، وكانت تقوم بعمليات تجميلية كثيرة، فتظهر بانتقادات مستمرة من الجمهور، لكنها كانت لا تهتم، وكانت ترى أن تعيش حياتها الفنية لآخر لحظة بعمرها، فتتزوج وتغنى إن أرادت في أي وقت. فلا شيء يوقفها عن الظهور.
أن تنهى حياتك الفنية كشادية
ختمت شادية في عامها الخمسين عملها، بمسرحية ريا وسكينة، وهي مسرحيتها الأولى والأخيرة، ثم فيلم "لا تسألني من أنا"، وفى كليهما كانت تقدم دور الأم، الذي كانت تتمناه في واقعها ولم يحدث، فتوقفت لأنها لا تريد أن ترى نفسها أمًا مرة أخرى على الشاشة كما قالت دائمًا. ورغم كل الإغراءات التي قدمت لها خلال سنوات ما بعد اعتزالها للعودة، إلا إنها لم تعد أو تظهر ولم تضعف كما حدث مع الكثير من الفنانات الأخريات المترددات.
كان آخر ألبومات شادية هو ألبوم "مع بعضينا" للأطفال عام 1983. كان بأكمله من كلمات سيد حجاب، وألحان وتوزيع عمار الشريعي. بينما حفلة وأغنية الختام لمشوارها عام 1986 هي أغنية "خد بإيدي". وكأنها تدلي بهذا التصريح من على المسرح، قبل أن تغادره مودّعة جمهورها في الوقت المناسب لها.
ترى شادية أن "أكبر غلطة تقع فيها المطربة، أن تتصور أن عجلة الزمن لن تتغير، وأن أذواق الناس لن تتطور. وأنا أعرف أنه سيأتي يوم أترك فيه مكاني على المسرح، لأنتقل إلى مقاعد المتفرجين. ولذلك فالمطربة الذكية هي التي تعرف بالضبط اللحظة التي تنسحب فيها من المسرح، والوقت الذي تودع فيه الجمهور وهي مرفوعة الرأس، قبل أن يودعها الناس بالبيض و الطماطم".