في بداية شهر يوليو/تموز الجاري، وفي منطقة غير سكنية بالقرب من طريق عام، تبعد بحوالي 3 كيلو مترات عن مدينة الحسنة وسط سيناء، كان أحد الباحثين العاملين في مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان يركن سيارته، فلاحظ طرف زي عسكري يظهر من الأرض. قاده الفضول إلى شد طرف الزي، فاكتشف رفاتًا كاملًا لجندي مصري معه متعلقاته وبطاقته الشخصية وصور أفراد من عائلته وأصدقائه في محفظته.
تحت عنوان "ساعدونا في الوصول لأسرته وأقاربه وتكريم جثمانه، وضمان دفنه بشكل لائق"، نشرت مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان على فيسبوك وإكس تفاصيل الكشف، الذي يشير إلى أن الجندي قد يكون أحد المشاركين في حرب 5 يونيو 1967، وقُتل ودفن في هذا المكان أثناء الحرب، وطلبت المؤسسة المساعدة في الوصول لأسرته وأقاربه لتكريم جثمانه، وضمان دفنه بشكل لائق.
"أول ما شفت الصور عرفت أنه عمي فوزي اللي كان أبويا بيحكيلي عنه" يقول محمد عبد المولى لـ المنصة، موضحًا أنه طالع الفيديو والبوست الذي نشرته المؤسسة بالصدفة.
حسب المدير التنفيذي لمؤسسة سيناء لحقوق الإنسان، أحمد سالم، في حديثه مع المنصة، كان الرفات "مش متبهدل"، وأضاف "عثرنا على المحفظة الشخصية للجندي بحالة جيدة"، على الرغم من مرور نحو 57 عامًا على الحرب.
يضيف سالم "الرفات كان مدفون على عمق لا يزيد عن 15 سم من سطح الأرض، أهالينا كانوا بيحكوا أن الصهاينة وقت الحرب كانوا بييجوا يعملوا تفتيش، وأول ما يلاقوا عسكري يضربوه طلقتين في رأسه ويمشوا ويسيبوه".
محفظة الذكريات
وفقًا لصور المتعلقات الشخصية للجندي التي شاركتها مؤسسة سيناء مع المنصة، دلت محتويات المحفظة التي كانت في أحد جيوب بدلته العسكرية على أن الجندي يحمل اسم فوزي محمد عبد المولى، من مواليد 18 يناير 1945، مهنته عامل، وكان يسكن في منطقة وادي القمر غرب الإسكندرية، حسب بطاقته الشخصية.
ومن بين أوراقه كانت بطاقة تحقيق الشخصية العسكرية الخاصة به، التي تشير إلى رتبته "جندي"، بالإضافة إلى وثيقة طبية مدون عليها رقم الوحدة العسكرية التي كان يخدم بها، ومدون بها حصوله في شهور أبريل/نيسان ويونيو/حزيران وأغسطس/آب 1966 على تطعيمات التيفود والكوليرا والجدري.
في لحظاته الأخيرة، حمل فوزي معه أيضًا صورًا شخصية لأشخاص يبدو أنهم أقارب له، بالإضافة إلى صور جنود آخرين مكتوب عليها إهداءات وجهوها له، بالإضافة إلى كارت مدون عليه اسم "محمد علي محمد لجميع أشغال النجارة، ومقره في شارع التحرير بالدقي".
من هو الجندي فوزي عبد المولى؟
بحثت المنصة عن أقارب الجندي فوزي عبد المولى، وتواصلت مع عدد منهم عن طريق فيسبوك، لكنها لم تتلق تجاوبًا إلا من محمد محمود عبد المولى، ابن شقيق فوزي.
يقول محمد، المولود في عام 1971، أي بعد وفاة فوزي، إنه سمع كثيرًا عن عمه الذي ذهب إلى الحرب ولم يعد، مضيفًا في حديثه مع المنصة أنه لا تتوافر معلومات كثيرة عن حياته قبل ذهابه للحرب "الناس الكبيرة في البلد وأبويا، كانوا بيحكوا عنه بطولات وإنه كان جدع وصاحب صاحبه، ووقت حرب 67 كان مجند في الجيش، واختفت أخباره وفشلت العائلة في التوصل لمعلومات بخصوصه".
يشير محمد إلى أن عمه، حسب رواية والده له، كان ضمن القوات المصرية التي سافرت للمشاركة في الحرب في اليمن قبل أن ينتقل إلى سيناء.
تكريمه واجب
حسب بيان مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان، فإنها أرسلت عن طريق الفاكس كل التفاصيل إلى وزارة الدفاع لاستلام الرفات وتسليمه إلى أهله، لكن "لم نتلق أي رد"، حسب المدير التنفيذي للمؤسسة.
من جانبه، قال محمد عبد المولى إنه فور نشر مؤسسة سيناء المعلومات المتعلقة بالرفات، تواصل مع الصفحة على فيسبوك، وأخبروه بضرورة تقديم طلب إلى الوزارة لاستلام الرفات.
توجه محمد إلى المنطقة الشمالية العسكرية لمعرفة الإجراءات التي تمكنه من استعادة رفات عمه "كتبت طلب وأرفقت به نسخ من الأوراق المنشورة، واستلموا منا الطلب على البوابة".
وأضاف محمد أن الضابط على البوابة أكد عليه ضرورة التوجه إلى الأمانة العامة للقوات المسلحة بالقاهرة "قال لي أنا هاستلم منك الطلب هنا، بس الصح تروح تسلم طلب تاني للأمانة العامة في القاهرة".
يشير محمد إلى أنه خلال الأيام الماضية توجه إلى النيابة العسكرية والشرطة العسكرية في محاولة لاستلام الرفات ودفنه بين أهله "مفروض واحد زي دا (الجندي) يتكرم، دا شاب استشهد عشان أرضه وأهله".
متى يفتح ملف قتل أسرى67؟
حسب بيان مؤسسة سيناء، فإن موقع رفات فوزي ليس بعيدًا عن موقع مذبحة قام بها الجيش الإسرائيلي ضد جنود مصريين أسرى عام 1967، وفقًا لروايات يتداولها أهالي منطقة الحسنة.
وتشير إلى أن السكان المحليين أطلقوا على هذا المكان اسم "تبة المذبح" أو "عجرة المذبح"، وتعني كلمة "عجرة" المكان المرتفع، بينما تستخدم كلمة المذبح للدلالة على العدد الكبير للجنود الأسرى الذين قتلوا.
ورغم فداحة ما جرى في حرب يونيو 1967، لم يعلن حتى الآن عن حقيقة ما حدث، وما تسبب فيه الانسحاب العشوائي من فقدان الكثير من الجنود، وجرائم قتل الأسرى ودفنهم في مقابر جماعية غير معروف أماكنها، وقدرت بعض الهيئات الدولية أن ما بين 9 آلاف و15 ألف جندي قتلوا أو فُقدوا في هذه الحرب.
وبحسب سالم "يبدو أن العثور على جثث مدفونة بزيها العسكري في هذه المنطقة أمر متعارف عليه".
في يوم 9 يناير 2008، عثر مجموعة من سكان مدينة الشيخ زويد بمحافظة شمال سيناء، أثناء قيامهم باستصلاح أرض زراعية على مقبرة جماعية تضم رفات العشرات من جنود المصريين بلباسهم العسكري، ونقلت صحيفة المصري اليوم وقتها عن شهود عيان أن "المقبرة تضم رفات نحو 120 جثة".
وقال مواطنون للصحيفة إن هذه ليست المرة الأولى التي يكتشفوا فيها رفات لشهداء "اعتاد آباؤنا مثل هذا الأمر، وفي كل مرة، وبحسن نوايا البسطاء منا، نقوم بدفنها بعد الصلاة عليها".
تحقيقات لا تنتهي
ملف قتل الأسرى المصريين في حرب 67 من الملفات التي دائمًا ما يعلن عن فتح تحقيقات فيها بعد إعادة إثارتها لكن لا يعلن عن نتائجها.
وآخر الوعود بالتحقيق كانت في 2022، بعد نشر صحيفتي يديعوت أحرونوت وهآرتس الإسرائيليتين تحقيقين مبنيين على مواد أرشيفية ومقابلات مع سكان، كشفا حرق عشرات الجنود المصريين وهم أحياء، وقتلهم ودفنهم في مقبرة جماعية بدون علامات، بالقرب من قرية اللطرون، بين القدس وتل أبيب أثناء حرب 1967.
بعد إثارة الواقعة طالبت مصر السلطات الإسرائيلية بإجراء تحقيق كامل وشفاف، وأعلنت وزارة الخارجية المصرية تكليف سفارتها في تل أبيب بمطالبة إسرائيل بفتح تحقيق لاستيضاح مدى مصداقية هذه المعلومات، وإفادة السلطات المصرية بشكل عاجل بالتفاصيل، لكن لم يُعلن عن أي نتائج حتى الآن.
لم تكن تلك هي المرة الأولى، إذ حدث الأمر ذاته تقريبًا في 2007 عندما عرض التليفزيون الإسرائيلي فيلم "روح شكيد"، وظهرت خلاله قوات من وحدة "شكيد" تقتل 250 أسيرًا مصريًا، خلال حرب 1967.
وقتها، طلبت مصر من إسرائيل إجراء تحقيق عاجل، ومعاقبة المجرمين "وإلا ستضطر لتصعيد الملف دوليًا وتعقب الجناة ومحاكمتهم كمجرمي حرب".
وحسب الفريق أول محمد فوزي رئيس أركان الجيش المصري الأسبق، في كتابه حرب الثلاث سنوات 1967- 1973: فإنه "عند إتمام الاتصال بطرف الصراع الآخر (إسرائيل) بواسطة الصليب الأحمر الدولي، استطعنا حصر الشهداء والمفقودين والأسرى المصريين (في حرب 1967)".
وكان الرقم الإجمالي هو 13600 فرد، عاد منهم 3799 فردًا أسرى تمت مبادلتهم مقابل 219 إسرائيليًا في عام 1968. أما بقية المفقودين، وعددهم 9800 مفقود، فقد ظل التعامل معهم قانونًا كأنهم أحياء، حتى سنة 1971 عندما أُعلن استشهادهم".
بين الحين والآخر تلفظ رمال سيناء رفات جنود مصريين، تُلقي بهم إلى البشر كل بضعة سنوات لتذكر بالجرائم الإسرائيلية التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق الأسرى المصريين، تتغير الأحوال ويتبدل المسؤولون، وتستمر الرمال في لفظ الجنود، لعلها تشهد يومًا محاسبة المجرمين، وإنصاف الضحايا وتكريمهم.