في كلّ إجازة صيف، يرد إلينا في "الأهرام" حيث أعمل، طالبات وطلبة جامعيون للتدريب العملي قبل التخرج في كليات الإعلام المختلفة. تتراوح أعمارهم عادة بين 19 و20 سنة؛ أي أنهم جميعًا ولدوا في الألفية الثالثة.
ولأنني أعمل في قسم الشؤون العربية والدولية، تتضمن التدريبات التي أطلب منهم القيام بها الإشارة أحيانًا إلى أحداث وتواريخ مهمة في تاريخنا الحديث، لا تزال تؤثر على واقعنا الحالي، على الأقل بداية من 1948، تاريخ إعلان دولة الكيان الصهيوني، مرورًا بثورة يوليو 1952 في مصر، وحروبنا المتتالية بعد ذلك 1956 و1967 و1973.
تكون دهشتي بالغة عندما أجد كثيرًا منهم تختلط لديه التواريخ والأحداث التي أحفظها عن ظهر قلب، وأعتبر بعضها فاصلًا وحاسمًا فيما نعيشه حتى الآن. حتى أدركت أنها، بالنسبة لجيل الألفية، أحداث بعيدة، تاريخ لا يعني لهم الكثير. ليست محطات متصلة بما نحن فيه الآن، أو ذكريات عاشوها واختبروها شخصيًا، كما هو حال الشيوخ الذين لا تزال سطوتهم طاغية على المجال العام وفي طرح القضايا التي تثير النقاش والجدل. هو فارق الأجيال بكل تأكيد، بين من تتراوح أعمارهم الآن بين السبعين والتسعين، وشباب يصغرونهم بخمسة أو ستة عقود.
أتذكر هذه الفجوة الضخمة بين الأجيال كلَّ عام مع حلول ذكرى هزيمة الخامس من يونيو. تنشغل الصحف والسوشيال ميديا بالجدل المعتاد حول مسؤولية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن الهزيمة التي لا نزال ندفع ثمنها حتى الآن؛ فلم نتمكن من إنهاء احتلال الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في تلك الحرب، باستثناء سيناء.
عتاة الناصرية ممن أبدعوا مصطلح "النكسة" للتخفيف من وقع الهزيمة الماحقة التي ضاعفت مساحة إسرائيل عدة مرات باحتلالها شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان، يبرزون كيف أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قاد مسارًا تصحيحيًا للثأر، خاض فيه الجيش حرب استنزاف باسلة وأطلق الخطط التي انتهت بالانتصار المباغت على العدو في أكتوبر 1973.
على الجانب الآخر، يتحدث آخرون عن أنَّ الهزيمة كانت قمة جبل الجليد لنظام قمع حريات المصريين وبالغ في تقدير قوته، وبالتالي كانت الهزيمة نتيجة طبيعية.
نهاية لحظة مفصلية
تفصلني عن الستين نحو ثلاثة أعوام، ولذلك فإنني أقف في المنتصف تقريبًا، فلم أكن شاهدًا بالمعنى الحقيقي على أيٍّ من تلك الحروب والحقبة الناصرية برمتها، كما كنت طفلًا صغيرًا في السادسة عندما احتفلت مع أسرتي الصغيرة دون وعي أو إدراك بعبور القوات المصرية لقناة السويس في 1973. ولكن يبقى عبد الناصر وفترة حكمه أقرب إليَّ بكثير بكل تأكيد من أجيال الألفية الثانية الذين التقيهم في الجامعات وفي الدورات التدريبية في صحيفتي.
يمكنني الزعم بأنني عاصرت كل رؤساء مصر في الحقبة الحديثة؛ عبد الناصر والسادات ثم حقبة الركود الطويل مع مبارك.
شاء حظي العاثر أن يكون عام مولدي هو عام الهزيمة، وهذا لو تعلمون ثقيل ولاحقني على مدى سنوات طويلة. كنت طفلًا صغيرًا يداعبني أصدقاء أبي الراحل ويحضرون لي الحلوى والألعاب مثل كل الأطفال.
في إحدى المرات، ووسط وصلة من الضحك والمزاح مع أحدهم، جاء السؤال التقليدي؛ "عندك كام سنة يا حبيبي دلوقتي؟" وعندما رديت بعفوية أنني مواليد 67، فوجئت بوجه صديق والدي يتجهم وتختفي الضحكة، وأنزلني على الأرض طالبًا مني الابتعاد، وهو يقول "دا إنت مولود في سنة نحس. امشي ياض من هنا". ضحكت ببلاهة وظننت أنَّ هذه وصلة مزاح جديدة. ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة لوالدي أو أصدقائه.
ستكون لدى أجيال الألفية الثانية أسئلة التاريخ المعاصر والقريب ليس على رأسها هزيمة 1967
وعندما كنت في السنة الأخيرة من الدراسة الجامعية واقترب موعد التجنيد الإجباري، سرت بين أبناء جيلنا شائعة كنت أتمنى تصديقها، بأنَّ كل مواعيد 1967 سيعفون من الخدمة لأننا مواليد "سنة نحس". بالطبع كانت شائعة فقط، ولكنها بقيت تذكرة بلعنة القدوم للحياة في هذا العام.
عندما كان أبي يتحدث عن هزيمة 67، كان من الصعب عليه أن يداري دموعه. كنت أرى بوضوح أمامي غشاوة تملأ عينيه كلما تذكر تلك الفترة. نفس رد الفعل فاجأني من أستاذة جامعية كانت تُدرِّس لي الأنثروبولوجي في الجامعة. ولاحقًا تعرفت على أحد كتاب الرواية المشهورين وعرفت كيف أنَّ هزيمة 67 مثلت نقطة تحول شخصية مهمة في حياته دخل بعدها في مرحلة اكتئاب طويلة لم يخرج منها غالبًا حتى مماته، وأثرت في كتابته التي بدت في أغلبها تشاؤمية وعبثية، تمامًا كما حدث مع الشاعر الراحل صلاح جاهين.
قال لي والدي الذي توفي قبل ثلاثة أعوام إن الهزيمة كانت لحظة انهيار لحلم وطموح جيل بأكمله، ولذلك كان أثرها ثقيلًا وغائرًا في نفوس كل من عايشوها. وعلى قدر الثقة في النصر وفي النفس وفي الشعارات التي كانت تؤكد للمصريين أنَّ قواتهم على وشك دخول تل أبيب وإنهاء المشروع الصهيوني برمته، جاء زلزال الهزيمة باتساعها وسرعة وقوعها. على قدر التفاؤل بقرب الانتصار، ضربت الهزيمة بثقلها ثقة هذا الجيل في نفسه وقدراته.
أسئلة الأجيال القادمة
لا أعتقد أنَّ هذا الجدل الحاد في أوساطنا السياسية والثقافية سيستمر، بل سيتوارى تدريجيًا مع مرور الوقت، وربما يكون أبناء جيلي هم آخر من يدفع ثمن استمراره طوال العقود الماضية، بانعكاساته الواضحة على حياتنا السياسية والانقسامات الحزبية والأيديولوجية.
عمليًا، لم تكن 1967 آخر الهزائم التي تعرضَّ لها العرب على مدى العقود الماضية. فمنذ نصر أكتوبر، لم يشهد العرب سوى هزائم متتالية في كل الحروب التي شنها العدو الصهيوني، حتى حلت الطامة الكبرى بغزو الكويت عام 1990، الذي شكّل بآثاره نقطة تحول إقليمي بارزة تماثل زلزال 1967، إذ فتحت بعده الدول العربية أبوابها للقوات الأمريكية والأجنبية لحماية أراضيها وثرواتها، وتوارت شعارات الاستقلال الوطني، حتى جاء غزو العراق.
ومنذ ثورات الربيع العربي في العام 2011 انقلبت أحوال المنطقة برمتها رأسًا على عقب، واختفت أو خفت دور دول عربية بارزة كانت مؤثرة في صياغة سياسات المنطقة، مثل سوريا ومصر وليبيا. وبينما كان الحديث يدور في حقبات سابقة عن توحيد "الأمة العربية"، أصبح الواقع الآن هو انقسامات في الدولة الواحدة وحروب أهلية مرشحة للامتداد سنوات طويلة قادمة، وربما تتشكل دول جديدة بهويات جديدة.
ستكون لدى أجيال الألفية الثانية عندما يتولون زمام الأمور ويتصدرون المشهد العام، العديد من القضايا المطلوب منه دراسة آثارها ونتائجها من التاريخ المعاصر والقريب، لن تكون على رأسها غالبًا هزيمة 67.
حينها فقط، ربما تتوقف لعنة ميلادي في ذلك العام.