"غالبًا ما تكون تكاليف الانتقال من المدن والمناطق الريفية مرتفعة لجهة المال والوقت. لذا ينبغي أن يكون المسكن الملائم في موقع يتيح إمكانية الاستفادة من خيارات العمل والمرافق الصحية والتعليمية، وغير ذلك من الخدمات الاجتماعية. ولا ينبغي أن تُشيّد المنازل في مواقع ملوثة أو غير آمنة".
توضح تلك الفقرة، "سمة الموقع"، إحدى سبع سمات وضعتها مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الانسان، والشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، عن الحق في السكن. ونبحث هنا في مدى تحقق هذه السمة، وكيف كانت في الماضي، وهل نسير في الاتجاه الصحيح لتحقيقها في مجتمعاتنا العمرانية المستقبلية؟ وما هو الاتجاه العمراني الغربي للتطوير والحفاظ على هذه السمة؟
القاهرة، على الرغم مما بها من زحام وضوضاء، وكثافة سكانية عالية، إلا أنها تمتلك السمة المذكورة في موقع السكن، حيث إنها العاصمة المركزية التي تحتوي على كل الخدمات والمرافق، فأي فرد يسكن القاهرة يستطيع السير لشراء متطلباته، التي سيجدها بالقرب منه. كذلك سيجد من حوله مدارس قريبة لتعليم أبنائه، ومستشفيات للرعاية الصحية. كذلك يمكنه التنقل فيها من أي مكان لآخر بأي وسيلة مواصلات، حيث يتوافر بها العديد من الوسائل (حافلات، ميكروباصات، مترو الانفاق، التاكسيات، وأوبر، وغيرها).
يساعدك موقع "ووكسكور Walk score" في البحث عن المكان الملائم لك لتعيش فيه، فهو يتيح لك التعرف على مدى وجود الخدمات من حولك وقربها، فيساعدك على تأجير أو شراء منزلك، أو التعرف على المكان الذي أنت فيه بالفعل، لترى قدر الخدمات التي حولك، وأقصر المسافات للوصول لها. وعلى الرغم من أنه مدعّم حاليًا لأمريكا وكندا وأستراليا فقط، إلا أن خريطة الموقع تشمل العالم ككل، ويمكن البحث عن موقعك من خلالها، حيث يدلك الموقع على مدى إمكانية التعايش والمشي لإيجاد كل متطلباتك في موقع سكنك. لذلك عند اختيار القاهرة، ستجد أن النسبة تصل، ﻷي مكان داخلها، إلى حوالي 96% (كما بالصورة)، حيث تجد كل الخدمات التي تطلبها، من مدارس ومستشفيات ومطاعم وغيرها، على بعد أمتار منك، لا تصل لأكثر من كيلو متر أو اثنين.
تصل القاهرة لنسبة أعلى من المذكورة للمدينة الأولى في أمريكا وهي نيويورك، حيث نسبة السير بها 89%، ونسبة المواصلات 84%، مما يجعل القاهرة أنجح، ولديها قدرة أكبر على أن تكون مجتمع المدينة المتكامل. كذلك تحقق محافظة الإسكندرية نسبة عالية هي 88%. وبعض المحافظات القليلة تقترب من هذه النسب.
القاهرة، كنموذج داخل مصر، لم تصمم للسيارات، بينما صممت للمشاة، لذلك أغلب شوارع وسط البلد، كمثال، تمتلك أرصفة عريضة للسير، ويصعب إيجاد أماكن لانتظار السيارات بها، فهي أعدت لكي يسير بها المواطن، ويتحرك من خلال المشي، أو المواصلات، أو مترو الأنفاق، أكثر من التعامل مع السيارة. وسبب التزاحم الحالي بوسط البلد، هو كثرة وجود السيارات في مكان لم يكن مؤهلًا لذلك.
هذه الحياة هي السبب الرئيسي لعدم مغادرة الكثير من السكان وأبنائهم للقاهرة إلى المدن الجديدة، والتي أنشئت لحل مشاكل الازدحام والتكدس السكاني الحادث داخل القاهرة الكبرى، ولتوفير مستوى أعلى معيشيًا. ولكن كيف صممت المدن الجديدة؟
المدن الجديدة نجحت في إتاحة طرق أوسع وأكبر للسيارات. كما روعي في تصميمها توافر أماكن انتظار للسيارات. لذلك أصبح لمالكي السيارات راحة أكبر في معيشتهم داخل المدن الجديدة. لكن ساكن هذه المدينة الجديدة لا يستطيع الذهاب سيرًا لشراء متطلبات منزله أو للصيدلية أو أي مكان خدمي، حيث يبعد عنه بمسافات كبيرة، تستلزم سيارة. كما أن المدينة لا يتوافر بها وسائل انتقال لتسهل حركته. وبالتالي فعند النظر للقاهرة الجديدة، كمثال تصل النسبة لقرب الـ 55 %، في أكثر الأماكن اجتماعية، بينما في موقع، كالمحدد بالصورة، تصل النسبة إلى 11%، مما يؤكده "ووك سكور" بالحاجة إلى وجود سيارة في هذه المناطق، والاعتماد عليها. كذلك مدينة كالشيخ زايد وأكتوبر، ربما تزداد النسب قليلًا، لكن يظل الاعتماد على السيارة هو السائد.
المجمعات السكنية داخل المدن الجديدة لا تتيح أماكن للخدمات أو المحلات، وكذلك لا توفر وسيلة انتقال من المدينة إلى خارجها والعكس، مما يسبب هذا العجز في التحرك دون السيارة. وربما لا يرى سكان هذه المناطق مشكلة في ذلك، لأنهم يريدون الحفاظ على خصائص الهدوء والعزلة، بالنظر إلى أن وجود بعض الخدمات قد يقلل من مستوى المنطقة المرتفع اجتماعيًا. وأنه لا بأس لديهم من الذهاب بالسيارة إلى المولات الكبيرة لشراء مستلزماتهم.
السيارة في حال امتلاكها هي وسيلة مريحة تنقلك وقت ما تريد، وبها من الخصوصية ما يميزها عن المواصلات العامة. وبعيدًا عن أنها تستلزم مصروفات أكثر، إلا أنها تجعلك تبذل كثيرًا من الجهد والطاقة حتى تصل لمكان عملك، فتؤثر عليك، خاصة مع الزحام والتوقف الكثير، مما يستنزف الوقت، دون استطاعتك ترك السيارة.
توفير استخدام السيارة على مستوى المجتمع يعني توفير استهلاك الوقود وتقليل التلوث وتقليل التعرض للحوادث؛ حيث تنتج أكبر نسب للوفيات فى معظم الدول عن حوادث السيارات. كذلك توفير وقت وجهد السائق الذهني والعصبي، والحد من الازدحام. ولهذا كان البحث عن بديل ليس بهدف الاستغناء عن السيارة ولكن لتقليل معدل استخدامها.
بعض التقارير بدأت تبحث وتضع أهمية كبيرة للأماكن الأكثر قابلية للسير، ومدى تأثيرها الإيجابي على الفرد، من حيث الحفاظ على الصحة، وتقليل المخاطر، والمشاركة الاجتماعية بشكل أكبر، وأنها تجعل الناس أكثر شعورًا بالسعادة، وتزيد من قدرتهم على الإبداع والإنتاج، كما تقلل من الشعور بالضغط النفسي، وتجعل المقيمين يحافظون على أماكن سكنهم ويطورونها لشعورهم بامتلاك الشارع.
كلما مررت بالمدن الجديدة لا أرى أفرادًا في الشوارع، لا يوجد مارة ولا أرصفة أو خدمات تجعل السير في شوارعها مرغوبًا أو سهلًا. فقط هناك من يمارس نشاط السير كرياضة بلا هدف آخر. بينما بدأت تظهر في هذه المدن حارات مخصصة للدراجات. لكن أين يمكن أن يتجه شخص بدراجته فيها؟
يوجد العديد من الحلول والأبحاث لجعل المدن الحديثة أكثر اجتماعية، أبرزها للمصمم المعمارى Jeff Speck، حيث يهدف لتحويل المدن إلى Walkable city، مدينة قابلة للتجول أو المشي، ويؤكد على ضرورة توافر سمات معينة لإنجاح هذه المدن في أن تكون ذات بيئة مستدامة، ومجتمعًا يتواصل أفراده، حيث يستلزم ذلك أن يكون أساس تصميم المدينة أن تكون قيادة السيارة اختيارًا حرًا لا ضرورة. بل تعتمد المدينة على حركة المشاة والدراجات والمواصلات العامة. ومن هنا يمكن البحث عن حلول أيضًا لتقليل حركة ووجود السيارات داخل المدن التى تتمتع بهذه الخصائص كوسط البلد بمدينة القاهرة.