بعد نحو سبعة أشهر من جلاء القوات المعتدية على مصر في حرب السويس عام 1956، أنتجت السينما المصرية أول فيلم يتناول هذه الحرب وهو "بورسعيد الباسلة"، ليكون أحد فيلمين تناولا هذه الحرب بصورة مباشرة إلى جانب فيلم "عمالقة البحار" الذي ظهر إلى النور عام 1960.
إلى جانب هذين الفيلمين فإن أفلامًا أخرى تطرقت إلى موضوع هذه الحرب، التي استمرت من 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1956 وانتهت في 23 ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه، ليس بصورة مباشرة ولكنها كانت خلفية أو خطًا جانبيًا في أحداث الفيلم، مثل "لا تطفئ الشمس" (1961) و"الباب المفتوح" (1963) و"من أحب" (1966) و"ليلة القبض على فاطمة" (1984)، و"ناصر 56" (1996) وغيرها.
ولم يخرج الفيلمان اللذان تطرقا بشكل مباشر إلى حرب السويس عن الإطار العام لأفلام الحرب العربية، إذا جازت هذه التسمية، حيث سنجد الكثير من الدعاية والقليل من السينما، جرعات وطنية مكثفة وتنميط واضح للشخصيات وإغراق في الرمزية، وهي في كل الأحوال تعطينا تصورًا عن النموذج المثالي للمجتمع ولـ"الشعب" بنظر الدولة.
وطنية مُفرطة
في فيلم "بورسعيد الباسلة" تبدو كل الأمور كما ينبغي لها أن تكون، الشعب في الحارة الشعبية يستمعون إلى خطاب التأميم متحلقين حول أجهزة الراديو، الرجال على المقهى والنساء في المنازل، المحال إما مغلقة أو أصحابها بداخلها إلى جوار الراديو، صمت كامل، فالزعيم يتحدث والشعب خلفه بالصمت.
بينما يروي فيلم "عمالقة البحار" قصة معركة البرلس التي خاضتها زوارق البحرية المصرية ضد بوارج ومدمرات فرنسية وبريطانية أسفرت عن تدمير البوارج المعتدية ومن بينها البارجة الفرنسية جان بارت.
يشارك في بطولة "بورسعيد الباسلة" كوكبة من النجوم، فريد شوقي وشكري سرحان وهدى سلطان وزينب صدقي وتوفيق الدقن وحسين رياض وأحمد مظهر وشكري أباظة وليلى فوزي وأمينة رزق وعز الدين ذو الفقار نفسه، مخرج الفيلم.
تدور الأحداث وتندلع الحرب وينخرط الكل في المقاومة الشعبية وتوزع الأسلحة، على سكان حي العرب الشعبي، الذين يشعرون نحو الأجانب بشيء من الريبة والاحتقار، وهو ما يعززه الفيلم الذي يقدم الأجانب باعتبارهم جواسيس، أما اليهود المصريين، فهم خونة بالطبع، من سيجرؤ على مخالفة الرواية الرسمية التي أكدت أنهم خونة وطردتهم خارج مصر؟
يخبرنا فيلم "بورسعيد الباسلة" على مدار ساعتين أن قوات الإنجليز والفرنسيين التي احتلت بورسعيد كانت على اتصال بحلاق يهودي مصري اسمه "شيكو" يعمل لحساب البريطانيين وأنه كان مسؤولًا عن توجيه المقاومة الشعبية نحو أماكن خاطئة ليقبض عليهم أو يقصفون بالطائرات أو يُبعدون عن الأهداف الحقيقية للهجمات البريطانية، ويخبرنا الفيلم أيضًا أن شيكو فشل في مهمته.
تستمر المقاومة ويرفض المحافظ تسليم المدينة في أحد أكثر مشاهد السينما عبثًا. فيطلب قادة الجيشين البريطاني والفرنسي من المحافظ تسليم المدينة، فيرفض، فيهددوه باحتلال المدينة وقطع المياه عنها، فيرفض ويطلق بعض الشعارات الوطنية التي يُرينا الفيلم أنها تُربك قادة الجيوش المنتصرة عسكريًا.
يخبر قائد الجيش البريطاني محافظ بورسعيد أنه أصبح قيد الاعتقال فيسأله المحافظ "تفتكر إن دا انتصار لكم؟" فينزعج قادة الجيوش، وينظرون إلى صورة جمال عبد الناصر ويطلبون منه إزالتها، فيرفض، فيمضون إلى خارج مبنى المحافظة، هكذا!
العبث لا يغادرنا على أي حال، ففي "عمالقة البحار" يرسل الضابط السوري جول جمّال رسالة إلى خطيبته في اللاذقية رسالة، لا يخبرها فيها عن حبه لها ولا عن تمنيه بأن يعود إلى وطنه من أجل أن يتزوجها، ولكنها يخبرها عن أن "الشعب العربي في مصر يؤمن بالقومية العربية كما نؤمن نحن بها في سوريا"، وعندما تقرأ خطيبته الرسالة، تبدو على وجهها علامات الارتياح، وكأنها كانت تشعر بالقلق على مصير القومية العربية في مصر.
والقليل من السينما
بينما كان عز الدين ذو الفقار يخرج إلى النور فيلمه "بورسعيد الباسلة"، وعلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلنطي، كان ستانلي كوبريك يضع اللمسات الأخيرة على فيلمه الروائي الطويل الثالث "دروب النصر" (Paths of Glory).
"دروب النصر" فيلم حربي هو الآخر يتناول فساد قادة الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى وكيف أنهم دفعوا بالجنود إلى معارك ضحوا بحياتهم ثمنًا لها من أجل تحقيق نصر كان بعيدًا وصعب المنال، وكيف أن هذا الفساد استمر حتى أنهم حملوا جنودًا أبرياء مسؤولية الفشل وحاكموا ثلاثة منهم عسكريًا، وعاقبوهم بالإعدام رميًا بالرصاص.
يضعك "دروب النصر" من المشهد الأول في أجواء الحرب، جنود على الجبهة داخل خندق يعلو البؤس وجوههم، يعلوهم البؤس لأن الجنود لا يتحمسون للحرب، مضطرون لخوضها لكنهم بالتأكيد لا يحبونها، لم يكن الفيلم معنيًا بأن يروّج لانتصار طرف من أطراف الحرب ولكنه كان معنيًا بأن يكشف وجه العسكرية القبيح، فليس دور السينما أن تسرد التاريخ.
تعتمد سينما الحرب إما على التقنيات المُبهرة في تصوير المعارك، مع قصة مثيرة تحبس أنفاس المشاهدين، تتخللها قصة حب أو ما شابه، مثل ما قدمه المخرج الأمريكي ستيفن سبيبلبرج في فيلمه "إنقاذ الجندي رايان" (Saving Privte Rayan)، وهنا يمكن أن نغذي المشاعر الوطنية ببعض المشاهد، أو تعتمد على تقديم رؤية مغايرة للحرب، من الجانب الآخر، الجانب الذي لا يهتم برصد النتائج وتقسيم الغنائم وتحديد من المنتصر ومن الذي هُزم، كما في "دروب النصر" أو في فيلم كوبريك الآخر "طلقة بغلاف معدني" (Full Metal Jacket)، أو في فيلم "الخط الأحمر الرفيع" (The Thin Red line) للمخرج تيرانس ماليك.
ولكن هذا لا ينطبق بأي حال على أفلام حرب السويس أو غيرها من أفلام الحرب التي أنتجتها مصر، فليس مهمًا أن تكون الأحداث منطقية أو محكمة ولكن المهم هو أن نستمع إلى الشعارات الوطنية، المهم هو أن تنتصر خطبة محافظ بورسعيد العصماء على سلاح قادة جيوش بريطانيا وفرنسا فيتراجعون، لسبب غير معلوم حتى اللحظة، عن قرار اعتقاله الذي أبلغوه به، ليس مهمًا المنطق، ولكن المهم أن الوطن انتصر.
كانت الدولة المصرية بعد حرب السويس معنية بأن تثبّت روايتها للنصر بأنه كان نصرًا عسكريًا وسياسيًا في آن، وهو ما يخالف الواقع بكل تأكيد، فالقوات البريطانية والفرنسية نجحت بالفعل في احتلال مدن القناة، رغم المقاومة الشعبية التي واجهتها فقد استطاعت بالفعل أن تحتل المجرى الملاحي لقناة السويس، ولولا المعركة الدبلوماسية التي خاضتها مصر بكفاءة واقتدار لاحقًا، ثم الإنذار السوفييتي والضغوط الأمريكية لكان للأمور أن تسير في اتجاه آخر.
كان ينبغي لهذه الرواية أن تترسخ في الأذهان، ليس فقط عبر البيانات العسكرية، والخطابات الحماسية، والمقالات في الصحف، ولكن أيضًا عبر الأناشيد والأعمال الفنية، الأفلام التي تعرض في الصالات والتي ستدخل لاحقًا إلى المنازل كلها مع بداية عهد التلفزيون.
كانت حرب السويس، على قلة الأفلام التي أنتجت عنها، البروفة الأولى التي استخدمت من خلالها الدولة في مصر أدوات كالسينما من أجل الترويج لروايتها للأحداث، وهو ما ستتوسع فيه في حربيها اللاحقتين مع إسرائيل، في 1967 و1973، وفي غيرها من المناسبات.