حتى وفاة لينين يمكن الحديث عن المرحلة اللينينية في ثورة أكتوبر، وهي مرحلة مختلفة تمامًا عن المرحلة الستالينية التي لحقتها، اختلاف المرحلة الناصرية عن الساداتية في سياق الثورة المصرية.
ينقضي هذا الشهر قرن كامل على اندلاع ثورة أكتوبر الاشتراكية في 1917، التي تعد من حيث التأثير العالمي أكبر ثورة في القرن العشرين، لا يعادلها تأثيرًا في العصر الحديث سوى الثورة الفرنسية في 1791. وإذا كانت الثورة الفرنسية قد أدت إلي صعود الجمهوريات والديمقراطيات في العالم فإن ثورة أكتوبر أدت إلي نشر النظام الاشتراكي في ثلث الكرة الأرضية. ومع اختلاف الظروف التاريخية فإن هناك أسبابًا مشتركة لقيامهما: فقر أغلبية الشعب المدقع، الأزمة الاقتصادية، الاستبداد السياسي.
في روسيا تفجرت الثورة في ظل أغلبية سكانية من الفلاحين يتم استغلالهم بشكل وحشي، ودولة قيصرية مستبدة، وطبقة عاملة مضطهدة تشكلت أواخر القرن الـ 19، حين بدأت السلطة في تشجيع التصنيع وبلغ قوامها ثلاثة ملايين عامل. وجربت الطبقة العاملة الوليدة خطواتها الثورية الأولى في ثورة 1905 التي شارك فيها طيف واسع من فئات وطبقات شعبية تزعمتها مجموعات ليبرالية وأخرى اشتراكية ثورية استهدفتا إصلاحات تفاوتت ما بين الاعتدال والجذرية. وانتزعت الطبقة العاملة السلطة لاحقًا في 1917- بعد نصف قرن من كومونة باريس العمالية- وتم ذلك في ظل أزمة اقتصادية عنيفة أججها دخول روسيا طرفًا في الحرب العالمية الأولى.
ومع ظهور حزب "البلاشفة" التفت الجماهير حول شعاراته المتمثلة في وقف الحرب، تمكين الفلاحين من الأرض، مجالس حكم محلي، تحويل المصانع إلي ملكية اجتماعية. وبدأت الثورة التي دفع فيها الآلاف حياتهم أولى خطواتها، وواجهت بعد ثلاثة أعوام من قيامها هجومًا ضخمًا من أكثر من عشرين جيشًا من جيوش الثورة المضادة وحلفائها الغربيين، وعندما كسرت ثورة أكتوبر شوكة جيوش الثورة المضادة، تبين قسوة الأوضاع التي تحياها روسيا اقتصاديًا وثقافيًا وصحيًا ومن كل النواحي.
وطرح " لينين " زعيم الثورة ما سمى بالسياسة الاقتصادية الجديدة ( نيب)، وتجلت في هذه الخطة عبقرية الثائر الروسي حين اجتهد في الجمع بين محفزات السوق الرأسمالية والتخطيط الاشتراكي، فاحتفظ للدولة بحق التخطيط والتوجيه والادارة، لكنه منح امتيازات كثيرة للفلاحين لتشجيعهم على المزيد من الإنتاج، كما منح حتى المستثمرين الأجانب تسهيلات في المجالات التي لم يكن للدولة قدرة عليها، مثل استخراج النفط، حتى أن لينين قال إنه مستعد لمنح شركات النفط الغربية 51 بالمئة مقابل 49 بالمئة للاتحاد السوفيتي إذا جاءت تلك الشركات وقامت باستخراج النفط.
على هذا النحو خلق لينين ضفيرة من ناحية تُخاطِب الانشغال بالربح المغروز في الانسان زمنًا طويلًا، ومن ناحية تضع في يدي الدولة التخطيط وتوزيع الدخل العام وتحديد السياسات العامة. وحتى وفاة لينين يمكن الحديث عن المرحلة اللينينية في ثورة أكتوبر، وهي مرحلة مختلفة تمامًا عن المرحلة الستالينية التي لحقتها، اختلاف المرحلة الناصرية عن الساداتية في سياق الثورة المصرية.
دولة ستالين
لقد توفي لينين في يناير 1924، وشكلت مجموعة من رفاقه مكتبًا سياسيًا مؤقتًا، ثم صعد ستالين، بعد أن صفى خصومه. وكان أول ماقام به ستالين هو استبعاد "السياسة الاقتصادية الجديدة"، فضرب بذلك فكرة الجمع بين محفزات السوق الرأسمالية وتخطيط النظام الاشتراكي وسيطرته على الاقتصاد، ووصل الأمر حد أن الدولة أمست تمتلك كل شيء، بما في ذلك أكشاك تلميع الأحذية في الشوارع. وكان لينين قد حذر في رسالة له من تصعيد ستالين إلي مناصب عليا، وقال في رسالته إن ستالين: "فظًا غليظ القلب مع الرفاق"، وأن تلك الصفات قد تصبح سمة تاريخية عامة في لحظة محددة.
وقد حدث حينما وضع ستالين يديه على كل مقاليد الحكم أن أصبحت صفاته الشخصية خطوطًا ترسم الوضع العام في كل ناحية، وأمست القسوة والفظاظة سمة تاريخية. ولتصور الفارق الفكري بين لينين وستالين، أذكر بأن لينين هو الذي حذر من إقامة دولة صهيونية في الشرق الأوسط، وقال إن دور تلك الدولة الوحيد سيكون تقديم المنطقة على طبق من ذهب للاستعمار البريطاني، بينما كان ستالين من اعترف بتلك الدولة رسميًا.
بدءًا من عام 1930 كان ستالين قد انفرد بقيادة الحزب وبالحكم، وبتصفية كل معارضيه، وشن حملة على الكتاب والأدباء وأعدم عددًا منهم في محاكمات صورية منهم نيقولاي جوميليوف زوج الشاعرة آنا أخماتوفا، كما نكل بأندريه بلاتونوف، وميخائيل زوشنكا وغيرهم، وأسكت كل الأصوات من حوله. وفي ظل غياب الحد الأدنى من الديمقراطية والحوار الحر، بدأت تتشكل طبقة حزبية بيروقراطية لا تملك وسائل إنتاج لتستغل بها الجماهير، لكنها تتحكم في توزيع الدخل، معتمدة على المخابرات والجيش والأمن الداخلي والنخبة الحزبية. وكان دخل الدولة يصب في جيوب النخبة ثم الفئات العليا من أجهزة الأمن والجيش والشرطة. وبدأت علامات الانهيار من ذلك المزج المرعب بين الاستبداد والفشل الاقتصادي الذي عجز عن سد احتياجات الناس.
وما زلت أذكر حينما كنت أدرس في موسكو أنني ركبت تاكسي ذات مرة مع سائق، ورأيته وقد كدس الخبز والجبن وما شابه تحت نافذة السيارة الخلفية. وعندما تحدث معي قال لي إنه من قرية خارج موسكو، ولكن لا يوجد بها أي طعام، لذلك يشترى كل شيء في موسكو قبل أن يرجع للقرية.
كانت موسكو قناعًا لامعًا يخفي وراءه في واقع الأمر الفقر المدقع في الأطراف، ثم يبطش بكل معارض بما في ذلك الاشتراكيين، أو الأدباء والفنانين. وبدأت تختمر شيئًا فشيئًا عناصر الانتكاسة والانهيار. وعندما يسألون الآن : لماذا انهار الاتحاد السوفيتي؟ ولماذا فشلت الثورة وانهارت دولتها؟ فإن الاجابة تكمن في تلك الضفيرة التي جمعت الاستبداد السياسي إلي العجز عن حل المشكلة الاقتصادية.
هل ينفي ذلك دور ثورة أكتوبر العالمي؟ بل ودورها داخل الاتحاد السوفيتي؟ كلا. لقد كان هناك دور دفعت ثمنه الجماهير الروسية وظهرت بعض ثماره، أقلها أن الخبز كان يوضع على كل الموائد في كل المطاعم مجانًا، وقد كنت أدرس هناك ورأيت ذلك، وكان السكن مجانيًا وإن كانت الشقق قليلة والمساحات ضيقة، وكان التعليم والعلاج بالمجان أيضا، واستطاعت الثورة أن تنقل المجتمع الروسي من مجتمع ريفي زراعي متخلف إلى مجتمع صناعي متطور، في فترة زمنية قصيرة حتى أمسى الاتحاد السوفيتي القوة العظمى الثانية في العالم، والأولى في بعض المجالات كالفضاء.
وأنجزت الثورة أيضا الكثير على المستوى العالمي قبل أن تنعطف نحو النهاية، ويكفي فقط أن نتذكر الإنذار السوفيتي الشهير بعد العدوان الثلاثي الذي غزا مصر في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1956، وكان الإنذار موجهًا إلى لندن وباريس وتل أبيب، وجاء فيه بالنص: "تجد الحكومة السوفيتية نفسها مضطرة إلى لفت نظركم إلى الحرب العدوانية التي تشنها بريطانيا وفرنسا ضد مصر والتي لها أوخم العواقب على قضية السلام. تُرى كيف كانت بريطانيا تجد نفسها إذا ما هاجمتها دولة أكثر قوة تملك كل أنواع أسلحة التدمير الحديثة؟ إننا مصممون على سحق المعتدين، وإعادة السلام إلى نصابه عن طريق استخدام القوة".
وفي الإنذار اشارة واضحة إلي السلاح النووي الذي كان حكرًا في ذلك الوقت على السوفيت والأمريكان. ولذلك توقفت العمليات العسكرية وانسحب المعتدون في السابع من نوفمبر، بعد يومين بالضبط من تسلمهم الانذار.
لقد مضت البشرية وتمضي بأحلامها إلي العدل والمساواة وتوزيع الثروة والعلم والهواء والنور، هذا حلمها، وقد قامت التجربة الاشتراكية بأخطاء كثيرة ، لكنها كانت أخطاء على الطريق الصحيح، أي الطريق الذي يسترشد بالعدل، بينما أنجزت الرأسمالية الكثير على طريق خاطئ، أي طريق تعيش فيه الأقلية على حساب الأغلبية. أخطاء على الطريق الصحيح، وانجازات على الطريق الخاطئ. هذا هو الحصاد. تحية لثورة أكتوبر الاشتراكية وإن ضلت الطريق، وتحية للتمرد، وللأماني بعالم عادل حقًا.