قضت الصحفية السودانية سارة تاج السر ليلةً هادئةً في منزلها بأم درمان، قبل أن تستيقظ ظهر يوم 15 أبريل/نيسان من العام الماضي على أخبار الحرب، ومن وقتها لم تعد أحوال سارة وأكثر من 2000 صحفي سوداني مقيدين بجداول نقابة الصحفيين السودانية، مستقرة وآمنة.
"استيقظت في الظهيرة، فتحت الجوال فاصطدمت بأنباء الاشتباكات التي اندلعت في مناطق متفرقة وحاولت استيعاب ما حدث، وطمأنت نفسي بأن ما يجري سيقف في غضون ساعات أو أيام قليلة"، ولكن أمنيات سارة بتوقف الاشتباكات لم تتحقق، ودخل السودان في حرب ممتدة، وخاض بعدها الصحفيون أزمات عدة، مهنية وإنسانية.
حياة مهددة وبطالة
توضح الصحفية التي تعمل في صحيفة التغيير الإلكترونية، وهي إحدى الصحف التي تعبر عن صوت الثورة السودانية، إنها لم تستطع ممارسة مهام عملها منذ اندلاع الحرب، ورغم أنها ظلت في مدينة أم درمان لثلاثة أشهر منذ بدء الاشتباكات، فإن انقطاع الإنترنت لساعات طويلة وعدم قدرتها على التحرك بارتياح، وتكريس جهدها على توفير الماء والغذاء لأسرتها وطفليها كان طاغيًا على قدرتها على الاستمرار في العمل.
أنقذت الصدفة سارة من مصير مئات العالقين في الخرطوم الذي لم يتمكنوا من العودة لمدنهم "كان مقررًا حضور اجتماع للصحيفة في مقرها الرئيسي بالخرطوم وقت اندلاع الحرب، ولولا أن إدارة الصحيفة اختارت أن يكون الاجتماع أونلاين لصعوبة التنقل في أجواء الحرارة المرتفعة أثناء الصيام (رمضان) لكنت بين عشرات الصحفيين الذين علقوا في الخرطوم".
أزمات الصحفيين العالقين لم تغادر عقل سارة؛ "ظلوا ثلاثة أيام قبل الوصول إلى أول هدنة لكي يستطيعوا التحرك أو الحصول على الطعام أو الشراب"، أصبح النزوح هاجسًا يطاردها وتتجدد مخاوفها من التعرض لأي اعتداءات أثناء أداء عملها.
ربما كان حظ سارة أفضل من زملائها، فالموقع الذي تراسله قرر استمرار دفع رواتب الصحفيين العاملين لديه حتى وإن لم يستطيعوا أداء عملهم، بعكس آخرين.
لم تستطع سارة طوال فترة بقائها في السودان سوى إنجاز تحقيق واحد عن جرائم الاغتصاب التي تعرضت لها النساء على يد قوات الدعم السريع، قبل أن تقرر هي وأسرتها النزوح مطلع أغسطس/آب الماضي شرقًا إلى مدينة بورتسودان ومنها إلى العاصمة الأوغندية كمبالا.
ساءت أوضاع الصحفيين وتوقفت غالبية وسائل الإعلام عن العمل
"واجهت تهديدًا أشد قسوة، فوجئت بعد ساعات من مغادرة بورتسودان بتدوين اسمي ضمن قوائم جرى نشرها من جانب وسائل إعلام محسوبة على الجيش لصحفيين ونشطاء متهمين بالتعاون مع قوات الدعم السريع، وسط تهديدات بالقبض عليهم"، تشير سارة إلى مواجهة الصحفيين لنوع جديد من الانتهاكات يهدد أمنهم وحياتهم.
وجدت الصحفية السودانية اسمها بين قوائم المطلوبين من الجيش "كان الأمر ضاغطًا بشكل كبير عليَّ وعلى أسرتي"، تشير إلى تصريحات أطلقها النائب العام في ذلك الحين بإلقاء القبض على من وردت أسماؤهم بتلك القوائم "أصبحت أكثر توترًا"، تؤكد أن صدور هذه القوائم كان كاشفًا عن وجود استهداف مسبق للمدرجين بها.
وحسب تقرير صادر عن نقابة الصحفيين السودانيين في أغسطس/آب الماضي، فإن "أوضاع الصحفيين السودانيين تسوء، والانتهاكات التي يتعرضون لها تتزايد، وأدى استمرار الحرب وتوسعها إلى اختفاء معالم الحياة في السودان بصورة شبه كاملة، وتوقفت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام، مما أدى إلى تشريد أعداد كبيرة من الصحفيين والصحفيات، بنزوحهم (...) إلى دول الجوار في ظروف بالغة السوء، بينما بقيت أعداد منهم عالقة في مناطق حدودية بسبب تعقيدات تأشيرة الدخول".
صمد الصحفي علي الدالي، الذي يعمل مراسلًا لقناة الحرة، ثلاثة أشهر في العاصمة بعد اندلاع الحرب، وأدى عمله في تغطية الاشتباكات التي حدثت على مقربة من منزله، قبل أن يضطر للنزوح خارج الخرطوم.
مع اشتداد المعارك وعدم قدرته على توفير الغذاء وشعوره بالخطر المستمر، نزح مصطحبًا أسرته إلى مدينة بورتسودان شرقًا، التي تعد العاصمة الإدارية للسودان حاليًا.
عبر الهاتف، أوضح لـ المنصة من بورتسودان أن الانتهاكات التي واجهها في بداية الحرب هي نفسها التي تعرض لها المواطنون العاديون جراء شح المواد الغذائية وانقطاعات المياه والكهرباء، وهو ما أجبره على النزوح، ليتمكن من أداء عمله ويجد لنفسه مكانًا قابلًا للعيش، مشيرًا إلى أنه أصيب بالذعر في مرات عديدة نتيجة عدم اعتياده انتشار الدبابات والمدفعيات العسكرية وسط المواطنين في الشارع.
قيود على المعلومات
الحياة في مناطق النزوح ليست سهلةً على الصحفيين؛ واجه الدالي صعوبات في بورتسودان، ورغم أنها تبعد قرابة 1000 كيلو متر عن العاصمة الخرطوم وتعد آمنة إلى حد ما. وبينما يتشارك الصحفيون والمواطنون الصعوبات الخاصة بارتفاع تكلفة الغذاء والسكن والتهديد بحدوث مجاعة، حسب الدالي، يواجه الصحفيون صعوبات من نوع خاص.
على المستوى المهني "الوصول إلى المعلومة من المستحيلات. تفصح الحكومة السودانية عن المعلومة التي تريد فقط تمريرها للصحفيين، وليست هناك معلومات موثقة عن المعارك وتطوراتها، ويحظر نشر أي معلومات في هذا الإطار مع التهديدات المستمرة باستخدام قانون الطوارئ باعتبارها أخبارًا تمس الأمن القومي"، يوضح الدالي.
"نعتمد في رصد تطورات الحرب على المعلومات المنشورة على السوشيال ميديا من الجانبين، لكنها في النهاية غير مؤكدة، وعلى الأغلب تكون مضللة، وكل طرف من المتصارعين يحاول أن يظهر منتصرًا"، يقول الدالي.
مقتل 6 صحفيين والاعتداء على 52 صحفيًا ونهب ممتلكات آخرين
وأشار نقيب الصحفيين السودانيين عبد المنعم أبو دريس، في اتصال هاتفي مع المنصة من السودان، إلى أن النقابة رصدت بعد عام من اندلاع الحرب مقتل 6 صحفيين بينهم 5 في العاصمة الخرطوم وصحفية في إقليم دارفور غربًا، كما وثقت تعرض 52 صحفيًا لاعتداء جسدي، إلى جانب نهب ممتلكات 150. بالإضافة إلى توقف 90% من أجهزة الإعلام والصحف والإذاعات ومحطات التليفزيون عن العمل، وتدمير معداتها أو نهبها لوجودها في العاصمة التي تشهد القدر الأكبر من الاشتباكات.
وأوضح أن ما يقرب من 1000 صحفي فقدوا وظائفهم، لافتًا إلى أن هذا العدد يشكل 50% تقريبًا من الصحفيين المسجلين بالنقابة، واعتبر أن السودان يعيش حالة "الظلام الإعلامي"، مشيرًا إلى اعتماد المواطنين على السوشيال ميديا ووسائل الإعلام الأجنبية للتعرف على أخبار بلدهم، وهو ما أتاح لطرفي الصراع فرصةً لنشر الأخبار الزائفة، وأدى لانتشار خطابات الكراهية.
"الهوية الصحفية عندما يبرزها حاملها تكون مدخلًا للمساءلة والتشكيك، وأحيانًا التوقيف والاعتداء الجسدي واللفظي"، حسب أبو إدريس الذي شدد على أن حرية تدفق المعلومات تأثرت سلبًا، وجرى الحد من حركة الصحفيين في المناطق التي يسيطر عليها أيٌّ من طرفي الحرب، كما أن انقطاع شبكات الاتصال عن مناطق عديدة أثر في قدرة الصحفيين على التواصل لأداء مهامهم.
فقدت النقابة الاتصال بـ200 صحفي عالق في الخرطوم والجزيرة ودارفور
يشير نقيب الصحفيين إلى أن النقابة فقدت الاتصال منذ ثلاثة أشهر بـ200 صحفي عالقين في العاصمة الخرطوم وولاية الجزيرة وولايات كردفان ودارفور، مضيفًا "هؤلاء لا نعرف عنهم شيئًا بسبب انقطاع خدمات الموبايل في هذه المناطق، وقد لا تكون لديهم القدرة على الاتصال عبر الأقمار الصناعية من خلال أجهزة ستارلينك، وهي خدمة مكلفة للغاية".
"الصحفيون الذين فقدوا أعمالهم لا يستطيعون مواجهة أعباء الحياة، سواء في السودان أو خارجه. اضطروا للعمل في مهن أخرى بعيدة عن مجالهم بحثًا عن الحد الأدنى من الدخل"، كما تؤكد إيمان فضل السيد مسؤولة لجنة الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين، التي نزحت منذ يونيو/حزيران الماضي إلى القاهرة.
وتشير إيمان في حديثها لـ المنصة إلى أن جميع العاملين في هيئات الإذاعة والتليفزيون الحكومية عاطلون عن العمل مع توقف غالبية المحطات، وأنه نتيجة الاستهداف الممنهج للصحفيين نزح أغلبهم إلى مصر وتشاد.
"تشاد أقرب لصحفيي دارفور ويوجدون هناك في معسكرات للاجئين. أما الذين دخلوا مصر فيواجهون عقبات الدخول غير الشرعي بسبب تعقيدات الحصول على تأشيرة، وبالتالي يظلون بلا فرص عمل وليست لديهم القدرة على الحركة بحرية".
في ظل عدم وجود أفق قريب لنهاية الحرب الأهلية التي تشهدها السودان، تستمر سارة ومئات الصحفيين في مواجهة تحديات هائلة، سواء داخل البلاد أو خارجها كنازحين ولاجئين، بخلاف القيود على ممارسة الصحافة، وصعوبة الحصول على المعلومات، والهروب من قوائم الاستهداف.
تحت نيران الاحتلال.. لم تُرفع الأقلام ولن تجف الصحف
يوسف عقيل _
توثق المنصة في تحقيق مدفوع بالبيانات الانتهاكات والجرائم التي تعرض لها الصحفيون الفلسطينيون منذ عام 2010 حتى مارس 2024، كاشفة عن مقتل 106 صحفيين خلال العام الماضي فقط.
في غزة.. تدمير المعدات يهدد بوقف التغطية
سحر عزازى_
نقص المعدات اللازمة لعمل الصحفيين هو إحدى سمات الحصار الممتد على القطاع منذ أكثر من 17 سنة.. ومع الحرب منعت إسرائيل دخول أي معدات جديدة وتوحشت السوق السوداء فلجأ الصحفيون للموبايل.
في السودان.. ظلام إعلامي وصحفيون مشردون
أحمد سليم_
نتيجة الاستهداف الممنهج، نزح أغلب الصحفيين السودانيين بدارفور إلى تشاد وصاروا في معسكرات اللاجئين، بينما نزح الموجودون بالخرطوم والشمال إلى مصر حيث يواجهون تهم الدخول غير الشرعي.
الصحافة المصرية والبحث عن "تنفيسة"
محمد بصل_
ظني أنَّ "التنفيسة" تصلح هدفًا أساسيًا للصحافة المصرية اليوم، لمصلحة المواطن والدولة والمهنة. لكن السبيل إلى التقاط "اللمحات النضيفة" مع المعلومات والتفسيرات، يبقى محفوفًا بالقيود.
"حرية الصحافة".. 10 سنوات من السيطرة بالعتاب والأوامر
محمد الخولي_
مرت 10 أعوام كاملة على إحكام السيطرة على الصحافة والإعلام، كيف تمكّنت قبضة الدولة من الصحافة؟ وماذا جرى في صالات التحرير وغرف الأخبار؟