هلَّ علينا أمس شهر رمضان الكريم، بأجوائه الإيمانية والروحانية المبهجة، وبما يحمله من مظاهر وعادات محفوظة في ذاكرتنا منذ الطفولة؛ بعضها ديني، وكثير منها مرتبط بتراثنا الشعبي، وهي في مجملها تضفي على الشهر صبغة خاصة، تجعل منه شهرًا للتكافل الاجتماعي والتعاضد والتوبة والتسامح، وهي قيم إيجابية يحتاج لها المجتمع، خاصةً في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية الحالية، التي تلقي بظلالها على نمط حياة المصريين وتصرفاتهم.
في نفس الوقت، تتجدد كل عام مع رمضان بعض الممارسات والسلوكيات السلبية، كحالة التوتر والغضب التي تطغى على تعاملات الكثيرين، بالإضافة لعدم الالتزام في العمل، وعندما يبدي أحدٌ اعتراضًا نجد الردَّ الجاهز؛ "اللهم إني صائم".
لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يصل أحيانًا إلى الاعتداء على الآخرين. لا أحد يجادل في أهمية الصوم في الأديان، ولا في ضرورة حماية حق المواطن في أدائه. لكن من جانب آخر، الصوم لا يمنح صكًا ولا يجب أن يكون سببًا لانتهاك حقوق الآخرين أو الانتقاص منهم وإهانتهم.
من أكل.. وماذا ارتدت؟
أركز في هذا المقال على ظاهرتين تتكرران سنويًا؛ أولاهما الموقف من غير الصائمين أو المفطرين علنًا، وثانيتهما الموقف من النساء.
تزداد مطالب البعض بتجريم "الجهر بالإفطار" وفرض عقوبات عليه، وإغلاق المطاعم والمقاهي التي تقدم الطعام لمن لا يصوم، لدرجة أنَّ أحد المطاعم الشهيرة رفض فتح صالته لأطفال لتناول الطعام بها، ونشرت صحيفة خاصة فتوى بعنوان "ما حكم بيع الطعام في نهار رمضان للكافر؟" قبل أن تعتذر وترفعها من على الموقع.
وبينما تتكرر من حين لآخر وقائع مطاردة الأمن للمفطرين من قبل قوات الأمن والقبض عليهم أحيانًا، سبق أن قالت دار الإفتاء إن الإفطار علنًا فيه اعتداء على مشاعر المسلمين، معتبرة أن "المجاهرة بالفطر في نهار رمضان لا يدخل ضمن الحرية الشخصية للإنسان بل هي نوع من الفوضى والاعتداء على قدسية الإسلام، وهي مجاهرة بالمعصية".
حرية إظهار المعتقد تشمل بالضرورة حرية الإعلان عن عدم الإيمان بدينٍ ما أو عدم الالتزام بقيمه وتعاليمه
لا تجرِّم القوانين المصرية الإفطار علنًا في رمضان، بالتالي لا تترتب على الفعل أيُّ عقوبات. لكنَّ هذه الاعتداءات تُبرر تارةً بأن الإفطار علنًا يجرح مشاعر المسلمين الصائمين، وتارةً أخرى بأنه سلوكٌ يخالف طبيعة مصر وشعبها المسلم المتدين، وتارةً ثالثةً بضرورة تجنب المشاكل التي قد تترتب على احتكاك الصائمين بالمفطرين، بسبب الرفض المجتمعي والديني لـ"التفاخر" بالإفطار في نهار رمضان!
أما الظاهرة الثانية، فهي المضايقات التي تتعرض لها بعض النساء بسبب ملابسهن، بداية من النظرات غير المريحة، مرورًا بالتعليقات والنصائح السخيفة، انتهاءً بالتعدي البدني، ذلك بحجة أنهن يفطرن الصائم. هذه الاعتداءات لا يقوم بها الرجال فقط، لكن سيدات أيضًا، خصوصًا في وسائل المواصلات العامة.
سمع كثيرٌ منا عن حالات شد الشعر أو البصق أو التحرش والضرب بسبب ملاحظات على الملابس، ويتعاطف عادة قطاع من الحاضرين مع المعتدي أو المعتدية ويحمّلون الضحية المسؤولية أو يضغطون عليها للسكوت وقبول الإهانة وعدم الشكوى بحجة أنها غير محتشمة، وعليها أن تشعر بالذنب تجاه ذلك.
بعيدًا عن أنَّ الاحتشام صفة غير محددة لا توجد معايير لقياسها، تكتسب مدلولات دينية واجتماعية محافظة فضفاضة، فلا يوجد سند قانوني أو ديني أو أخلاقي يبرر هذه الممارسات، أو حتى يتصالح مع وجودها، لأنها تمثل عدوانًا على جملة من حقوق الشخص.
كما أنَّ تديُّن قطاع من الناس، حتى لو مثَّل الأغلبية الكاسحة من السكان، لا يمنحه الحق في فرض نمط حياة وسلوكيات محددة على الآخرين، حتى خلال شهر رمضان، فالحماية القانونية لحرية الدين والمعتقد لا تمتد لحماية المشاعر الشخصية للأفراد الذين يعتنقونه، فهناك آخرون لديهم مشاعر مختلفة لا تتفق مع هذا التوجه.
الحق في الإفطار وفي إعلانه
بل ويمكن النظر لهذه الممارسات باعتبارها اعتداءً على حرية المعتقد من جانبين، فحرية إظهار المعتقد تشمل بالضرورة حرية الإعلان عن عدم الإيمان بمعتقد ما أو عدم الالتزام بقيمه وتعاليمه، كما أنَّ حرية إظهار المعتقد تشمل حرية ارتداء ملابس أو أزياء تتسق مع معتقدات الفرد بشكل عام، يستوي في ذلك ارتداء النقاب أو السفور. حتى إن منع شخص من ارتداء ملابس معينة في مكان خاص أو عام قد يشكل انتهاكًا للفقرة الثانية من المادة 18 في العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، التي تمنع الإكراه الذي من شأنه الإخلال بحق الفرد في أن يدين بمعتقد معين.
كما حرص الدستور على كفالة الحرية الشخصية لاتصالها بكيان الفرد منذ وجوده، فأكَّد في المادة 54 على أنَّ "الحرية الشخصية حق طبيعي، وهي مصونة لا تُمس"، فيما نصَّت المادة 57 على أنَّ "للحياة الخاصة حرمةً، وهي مصونة لا تُمس". وهي، كما درجت أحكام المحكمة الدستورية العليا، من الحقوق الطبيعية الكامنة في النفس البشرية، يكتسبها الفرد لكونه إنسانًا يملك إرادة الاختيار وسلطة التقرير. وهي تقوم على استقلال الفرد الذاتي بالمسائل التي تكون أكثر اتصالًا بمصيره وتأثيرًا في أوضاع الحياة التي اختار أنماطها لتكتمل لشخصيته ملامحها.
في هذا السياق، يندرج سلوك الفرد الشخصي واختياره لمظهره وملابسه في إطار ممارسة الحرية الشخصية، فإعلان شخص ما أنه ليس صائمًا جزءٌ من حريته الشخصية، وكذلك اختيار أي امرأة لملابسها، سواء كان هذا الملبس هو النقاب أو الحجاب أو أي زيٍّ آخر.
وإن جاز القول بإمكانية وضع بعض القيود على حق الفرد في اختيار ملابسه، فإنَّ هذه القيود ينبغي أن تكون مرتبطة بحماية السلامة العامة أو الصحة العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم أو النظام العام، وفق المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وتتشدد الأمم المتحدة في ضرورة أن تكون التدابير المُتخذة باسم حماية النظام العام "ملائمة وضرورية"، وبالتالي لا يجوز أن تصبح هذه القيود الاستثنائية حجةً لإهدار الأصل؛ وهو الحرية في الاختيار
بالتالي، ليس من حق أحد، سواء كان فردًا عاديًا أو مسؤولًا، أن يعتدي على حقوق الآخرين، من أفطر في نهار رمضان، ومن ارتدت ملابس يراها غير محتشمة. ومن يقوم بذلك، يفترض أن يعاقب وفقًا للقانون.
هنا تقع على الحكومة التزامات مزدوجة، فهي مسؤولة عن ضمان حقوق المعتدى عليهن/هم من جانب، ومن جانب آخر إتاحة المجال أمامهم للإنصاف ومعاقبة المعتدين، سواء صدرت هذه الممارسات من أفراد عاديين أو مجموعات أو حتى من أجهزة داخل الحكومة نفسها، حيث تشمل الحماية القانونية للحق في الخصوصية مسؤولية الدولة عن الانتهاكات الصادرة من أطراف أخرى.
رمضان كريم للجميع.