في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1972، كانت طائرة صغيرة تعبُر فوق سلسلة جبال الأنديز الفاصلة بين الأرجنتين وتشيلي، وعلى متنها، بالإضافة إلى أفراد طاقمها الخمسة، أربعون مسافرًا أغلبهم من لاعبي فريق للرجبي، كانوا في طريقهم من عاصمة بلادهم الأوروجواي، مونتي بيديو، إلى عاصمة تشيلي، سانتياجو، للعب مباراة هناك، وبرفقتهم أقارب وأصدقاء.
تصطدم الطائرة بسلسلة الجبال المتجمدة، وتتوقف عمليات البحث عن ناجين بعد أيام قليلة، فمن المستحيل أن ينجو أحد من حادثة طيران بهذه المنطقة. لكن، وللمرة الأولى وربما تكون الأخيرة في تاريخ حوادث الطيران بجبال الأنديز، لم يمت كل من كانوا على متن الطائرة، بل نجا منهم 16 شابًا، بعدما مات الآخرون، سواء لحظة الاصطدام، أو متجمدين بعدها بأيام، أو تأثرًا بإصاباتهم، أو في انهيارات جليدية لاحقة.
عاش هؤلاء الشباب، وهم في مقتبل ومنتصف العشرينيات من أعمارهم، بين الثلوج على ارتفاع 4000 متر، في درجة حرارة تصل لثلاثين درجة تحت الصفر، لمدة 72 يومًا، حتى تمكن اثنان منهم، بعد أن سارا لعشرة أيام، رغم ضعفهما الجسدي البالغ، أن يلتقيا بأول من سيبلغ السلطات بأنَّ هناك ناجين، لتحضر طائرات الهليوكوبتر وتنتشلهم والباقين.
للوهلة الأولى يبدو استمرار الناجين على قيد الحياة طيلة هذه الفترة حظًا أو معجزةً، لكنه ليس كذلك. لعب الحظ بالتأكيد دورًا، لكن هناك الأهم؛ قدرة ثلاثة من أبناء العم، في مقام الأخوة، على اتخاذ قرار، وإقناع الآخرين به، والبدء في تنفيذه؛ أن يأكلوا لحم زملائهم وأصدقائهم الميتين.
أن يأكل الناجي المؤقت، والمُعرَّض للموت في أي لحظة، جسد صديقه الذي يكاد يكون أخاه، أو قريبه، كان الحل الوحيد للنجاة في منطقة تفتقد أيَّ حياة. ويتحوَّل الجهل هنا شرطًا إضافيًا لهذه النجاة، فيصبح هؤلاء الثلاثة هم من يديرون العملية بمعزل عن الآخرين، ووحدهم يعرفون جسد مَن نأكل الآن. فقطعة نيئة من الأصبع، أو نصف نيئة بعد شويها سريعًا فوق قطعة صفيح من حطام الطائرة، بلا اسم أو لقب أو ذكريات مشتركة مع من يأكلها. المهم ألا يعرف أحد لمن هذه الأصبع.
نجاة هؤلاء الشباب، ولأنه حدث استثنائي، بات مادة لمئات المواد الإعلامية على مدى السنين، كان آخرها الفيلم الروائي مجتمع الثلج (2023) للمخرج الإسباني خوان أنطونيو بايونا، الذي نافس على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي.
الصخب الهوليوودي
بالتزامن مع إعلان وصول الفيلم الإسباني للتصفيات النهائية للأوسكار، وفي سياق الاحتفاء به ودعمه، يذهب جوردي إبوليه، الصحفي الإسباني الشهير ومقدم أحد أنجح البرامج الحوارية على التليفزيون، للقاء آل شتراوس؛ أبناء العم الثلاثة الذين تولوا مهمة اختيار الجسد الذي سيؤكل، وتقطيعه قطعًا صغيرة، وتوزيع الحصص على الآخرين.
بالاستماع للثلاثة وتأملهم، نكتشف بالصدفة، ودون أن يقصد الصحفي، منطقة الصراع بين الروائي/المتخيل والحقيقي/الواقعي؛ هذه المنطقة الغامضة التي لم يقترب منها الفيلم الإسباني المصنوع بطريقة هوليوودية، ومن مصلحته تجنبها، هي منطقة نفي البطولة، وما يتبقى داخلنا من التجارب والأزمات الكبرى، والقدرة على الانتفاع مما نعيشه بالصدفة.
يحاول الفيلم الروائي الالتزام بالتفاصيل، والإخلاص لما نعتبره الحقيقة؛ الأسماء، وترتيب الوقائع، والتشابه الجسدي بين الممثلين والشخصيات الحقيقية، ملتزمًا بـ"سر الصنعة" الهوليوودية؛ ألَّا نفكر أو نتأمل كثيرًا ما نشاهده، ألَّا نلتفت للضعف الإنساني، أو ضرورة العودة إلى التوحش والبدائية للنجاة، أو أن نتأمل التناقضات والصراعات والجوانب المظلمة من كل شخصية، أو بعضها على الأقل. أي كل معالم الحقيقة الأخرى الأكثر أهمية من الالتزام بقشرة الواقع المتمثلة في الأسماء والأشكال.
بمشاهدة الفيلم ندرك أنَّ هدف صُنَّاعه تقديم ملحمة تشويقية عن البطولة المطلقة التي لا تشوبها شائبة، وأن تنحصر الحقيقة فيما يظهر على السطح، وليس ما يحدث بداخل هؤلاء، خلال التجربة وبعدها. فبما أنهم تمكنوا من النجاة، فهم أبطال ويستحقون التصفيق.
لا بطولة هنا
حين يتطرق الحديث إلى الفروق بين السينما الهوليوودية التقليدية/التجارية من جهة، وتيارات السينما العالمية الأخرى من جهة ثانية، عادة ما ينحصر في ميكانيزمات الإنتاج، وربما يتطرق إلى الشكل والتقنيات المستخدمة، خصوصًا إن كانت مادة الحديث السينما المسماة بـ"الأكشن". لكن هناك فروقًا أهم تتعلق بالدراما، ونوعية القصص التي تقدمها السينما الأمريكية الشائعة، وكيف تتمحور حول انتصار البطل الفرد، وبُعدها عن جوهر الواقعية، مع الالتزام أحيانًا بقشرتها.
في الحوار الواقعي مع الصحفي الإسباني، يتفق اثنان من أبناء العم الثلاثة، دانييل، وإدولفو، أن لا بطولة في الموضوع، ولا وجود لأيِّ ظلٍ للسوبرمان القادر على النجاة، وأنهم كانوا شبابًا عاديين جدًا، تعرضوا لظرف استثنائي لصراع الإنسان مع الظروف للنجاة، فقرروا محاولة العيش بأن يأكلوا لحم من يعرفونهم.
لكن إدواردو، ثالثهم، مُضيفهم في مزرعته بين الخيول الجميلة التي يمتلكها، والمتباهي بصحته الجيدة وبشرته المحافظة على بعض نضارتها رغم عمره الذي تجاوز السبعين، يقف على النقيض منهما. فهو، وناجون آخرون لا نعرف من هم، يرون أنفسهم أبطالًا لأنهم نجوا. بل إنه ينتفع من الحادثة، ويعيد إنتاج بطولته المفترضة من جديد كلما أمكن، رغم مرور أكثر من 50 عامًا، بإلقاء المحاضرات، والظهور في التليفزيون، والأهم: تنظيم الرحلات للأغنياء لزيارة موقع الحادث الذي أسماه الناجون بـ"المقبرة"؛ ليدفع كلُّ زائر أكثر من 4000 دولار مقابل قضاء خمسة أيام في رحلة بصحبته، باعتباره أحد الناجين، باعتباره بطلًا.
التجربة انتهت وبانتهائها يحضر البرود الإنساني والوحدة والنفور وهي أشياء يتجنب الفيلم الاقتراب منها
لم يعرف الثلاثة عند تسجيل حوارهم مع الصحفي الإسباني، إن كانوا سيُدعون لحفل الأوسكار. وأحد الفروق الأساسية بينهم يتبدى في كيفية الاستجابة للدعوة. لا يعرف دانييل إن كان سيذهب أم لا. أما أدولفو فلن يذهب لأنه يرى ذلك فعلًا سخيفًا؛ الذهاب بصحبة عملٍ لم يصنع فيه شيئًا، لمجرد أنه عاش الوقائع التي يتناولها، ليصفق له الحضور، ويلقون عليه نظرة عابرة إذا فاز الفيلم.
أما الثالث، إدواردو، الذي حوَّل الدم والمأساة لتجارة، فسيذهب إن دعوه ليصفقوا له. لا يخجل من الاعتراف بأنَّ نظر الناس إليه، مجرد شعوره بأنهم يرونه ويصفقون له ويسألونه عن التجربة، من أكثر الأشياء التي تمتعه، متذكرًا بفخر بالغ العروض الترويجية للفيلم التي حضرها مع فريقه في لندن ونيويورك وغيرهما، وكيف نظر إليه الجمهور منبهرًا بأنه أحد هؤلاء، مَن كان يقطع لحم الصديق الميت ليقدمه للآخرين.
بتأمل الثلاثة ندرك بوضوح ما نعرفه جيدًا، أنَّ البشر يخرجون من الأحداث والكوارث الكبرى والصغرى مختلفين تمامًا. يبحث بعضهم عن جوهر وعمق التجربة، ليفهموها وليفهموا ذواتهم، لتغنيهم عقليًا ووجدانيًا. فيما يكتفي الآخرون بقشرتها السطحية، أن يستثمروا ما عاشوه وكأنهم بنك للتجارب، دون السؤال عما يتبقى منها داخلهم، وأن تُغنيهم ماليًا إن أمكن.
انتصار الوهم على الحقيقة
الحميمية الشديدة التي كانت سمة العلاقة بين الـ16 شابًا هناك، في المقبرة، حيث تنتشر حولهم بقايا عظام وجلد أحبابهم الذين لم يأكلوهم بعد، أشعرتهم بأنهم شخص واحد. وهو ما نتصوره حين نرى الفيلم الروائي، ونقرأ عن الحادثة.
لكنَّ التجربة انتهت. وبانتهائها يحضر البرود الإنساني والوحدة والنفور، وهي أشياء يتجنب الفيلم الاقتراب منها، كيلا يفقد صفته الأساسية كفيلم عن البطولة وانتصار الإنسان على الطبيعة. فساعتها كان سيتحول لقصة حزينة غير هوليوودية، ليس لمجرد التهام جسد الصديق الذي تحبه، بل أيضًا لأن ما بقي من التجربة ليس على مستوى عمقها واستثنائيتها.
لا يخجل إدولفو من وصف ما عاشوه بأنه عودة البشر للبدائية والتوحش، بل يضيف أن حرية القرار وقتها، وبالتالي النجاة، مقرونةٌ بفعل التوحش. هذا التوحش الذي لا يتوقف عنده الفيلم، ولا نرى بصماته على أرواح العائدين إليه. فالصراع المفتوح بين ما هو متخيل بصبغة هوليوودية، ملحمية، وما هو واقع مر وحميمي، حُسم فعلًا بانتصار المتخيل، ومن قبل حفل الأوسكار.
في المحصلة النهائية، فاز الفيلم بالكثير من الجوائز، ونجح تجاريًا نجاحًا باهرًا. والأهم، بعيدًا عن صخب السينما والجوائز، أنَّ الناجين من تجربة من أصعب التجارب التي من الممكن أن يمر بها البشر، إما ماتوا، أو صمتوا، والصوت الأعلى من بين المتكلمين هو صوت من يهللون لبطولتهم، ويستثمرونها تجاريًا.
هزيمة المشاعر النبيلة والأخوة المتحققة في ظروف الموت على ارتفاع 4000 متر لم يكن مرهونًا فقط بالتجارية، أو بالسينما هوليوودية الطابع، أو بالشهرة والمال والسطحية، ورغبة الناس/الجمهور في أن يروهم كأبطال وفقط. بل ارتهنت أيضًا، أو تجسدت، في عودتهم للحياة اليومية، في إيقاع هذه الحياة نفسها، الواقعية وليست المتخيلة، التي تحطم وتنهي مشاعر النبل والترفع.
تصل طائرات الهيلوكوبتر، رمز الحضارة والتقدم، لتنقذ الناجين، وتنهي حالة التوحش وتعيدهم للحياة اليومية وحساباتها. فينتهي مع التوحش كلُّ ما هو طبيعي ونبيل وحر. يبتعد كلٌّ منهم عن الآخر، فيتصل أحد الناجين تليفونيًا بإدولفو بعد الحادث بعشرة أعوام، ويخبره باكيًا أنه على استعداد لدفع بقية عمره كي يصعد لمجتمع الثلج، مقبرة الثلج، ولو ليلة واحدة، ليعيش من جديد الجوع والعطش والتجمد، هناك بصحبة أصدقائه الناجين، وبصحبة بقايا أجساد الآخرين التي لم تؤكل.