عرفت علوم النقد والتصنيف الثقافي حديثًا مفهومين هما الثقافة التحتية Subculture والثقافة المضادة Counter-culture. بالطبع هما مفهومان مرتبطان بحركة التطور الاجتماعي في الدول الغربية منذ نهاية الخمسينيات تقريبًا، بالتوازي مع ظهور واعتراف أكبر بالفلسفات الليبرالية والفردانية تليها الحركة النسوية في موجاتها المختلفة وصولًا لأزمة حركة الحقوق المدنية في الستينيات. وما زالت تلك المفاهيم محل جدل دائم، إذ تتفرع عنها نقاشات جديدة كلما واجهت المجتمعات تحديات كبرى تجبرها على إعادة النظر، فتظهر مثلًا التعددية الثقافية multiculturalism كمنظور أحدث ومحل جدل كبير، لاستيعاب الجماعات الاجتماعية المختلفة ثقافيًا (بحكم احتكاك المجتمعات الغربية المتزايد بالمهاجرين/ المواطنين من أبنائها)، ويكاد يستبدل subculture الذي استند بشكل أكبر لاختلاف ثقافي ولكنه يسعى ليصبح جزءًا من الثقافة المجتمعية العامة.
سأحاول تبسيط الأمر بمثال موسيقى الهيب هوب في السبعينيات مثلًا.
لو كنت شابًا أمريكيًا أسود في حي بروكلين الفقير في السبعينيات، ستكون غالبًا تحيا في ظروف سيئة جدًا في حي مهمل سيء الخدمات، نسبة بطالة عالية جدًا تدفعك لأن تعمل كحلقة في سلسلة تجارة المخدرات، معدلات رهيبة للجريمة تشمل بالطبع الاعتداءات الجنسية، كل هذا وسط خطاب أمريكي عام قانع بأنه تخطى العنصرية ضد السود حتى لو أضاء على حالات فردية استثنائية، ولكنه يحاول أن يعمّم لغة الانتصار على هذا المفهوم البغيض، ويوحي أن الأغلبية من مواطنيه نفت الممارسات العنصرية من قاموسها، بل تحاربها وتجرّمها.
لو كنت في موقع هذا الشاب، تحيا وسط هذا التناقض بين الثقافة العامة المتداولة mainstream culture عن العنصرية ضد السود، وبين حياتك الواقعية التي تعاين فيها عن حق ممارسات عنصرية واضحة أو تهميش اجتماعي للسود، لو كنت في هذا المكان لاحتجت إلى التعبير عن هذا التناقض، أولًا لتفضح هذا التناقض فيصير من الممكن تحسين الأوضاع بشكل جدي أكثر، وثانيًا لأنك تحتاج أن تقول إنك إنسان له صوت وشكل ووجود، وبالتالي لن تعيش وكأنك غير موجود، ستستخدم أساليبك التي تملك في الدفاع عن هذا الوجود، أساليبك هي مكونات متعددة من الفكر، والفن، والثقافة والعمل السياسي المنظم وهكذا.
ما حدث فعلًا، أن هذا الشاب وشباب مثله انتبهوا إلى أنهم يمتلكون عناصر ثقافية/ فنية لا يعبّر عنها فيما يُقَدَّم على نطاق واسع، ولا بد أيضًا أن كان هناك تيار ما يتحدث عن هذه الجماعة وما تتعرض له من تهميش وظلم ربما في الأكاديميا والإعلام وأروقة السياسة، ولكنه كان يتحدث على استحياء وتتم مقاومته بشراسة. هنا تتفاعل حركات اجتماعية على التوازي- ربما دون وعي كامل- لتكوَّن وتعترف بـ subculture- بالترجمة المباشرة ثقافة "تحتية"- تعيش تحت جلد الثقافة المهيمنة، تعترف أن هناك ما يستوجب التعبير عنه؛ ألم، ظلم، تمييز عنصري وأيضًا مواهب وفنون وذوق خاص في تقديم السخرية وطريقة في الحب وممارسة الحياة الاجتماعية.
لقد رأى المجتمع الأمريكي تيارًا زاحفًا من شباب ينتجون أغنيات مختلفة نوعيًا عن كل ما كانوا يستمعون إليه في الراديو والتليفزيون، أسلوب جديد في "رص" كلام مسجوع، يعتمد لهجات السود من سكان بروكلين في نطق الإنجليزية، يستخدم ألفاظ السباب الشوارعية، ينقل تعليقات اجتماعية وحوارات تشبه تمامًا حوارات الشوارع والبارات وكل ما لا يُسمَح له بالظهور على الشاشات. يستخدمون شكلًا إيقاعيًا بدأ رتيبًا، ولكنه محرّك، والأهم بسيط بحيث يسمح لكثير ممن لا يحترفون الغناء والإنتاج الموسيقي بالمشاركة في إنتاجه. ورأى المتابعون أن الهيب هوب بدأ يبتدع أسلوبًا خاصًا في الوصول لجمهوره بالاجتماع الحر في حلقات يدخلها المؤدون وحولهم جمهورهم دون احتياج لقاعة أو مسرح أو تقنيات معقدة، كان هذا الطقس ينتقل بسهولة من شارع لشارع، ويكوِّن سوقًا فنيًا له جمهور ومتابعين، مفتوح الباب لمنافسة لا تشترط تقاليد احترافية، ولكنها بالتأكيد تصنع نجومًا وتكوِّن خطابًا ثقافيًا، يتناول التمييز الاجتماعي ثم يتفرع عنه إلى مزاج مكتمل فيه حكايات لا تنتهي، وموسيقى تأخذ أشكالًا وتتطور في موجات.
لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، لقد بدأت الثقافة التحتية في النفاذ لأسماع البيض من الأمريكيين، بالتحديد شباب البيض، يستهلكونها ويستمتعون بها، خرجت عن نطاقها الأصلي وحدودها الثقافية الأصلية، الآن هناك شاب أبيض يستطيع التماهي مع هذا الإنتاج الفني، يرى بشكل ما أنه يعبّر عنه، ويرى أبوه أن هذه كارثة، اعتداء ثقافي، انهيار قِيَمِي وحضاري. نعم، ربما تعتقد أننا وحدنا نخوض الحروب ضد المختلفين بتصدير تلك الشعارات، ولكن عليك أن تنظر للحرب الرهيبة التي قامت ضد الراب والهيب هوب، بالذات عندما بدأ البيض في تقديمهم واستهلاكهم (Eminem كأوضح مثال)؛ كتابات صحفية وبرامج تليفزيونية، تنديد وتحذير، منع وقمع ومطاردة وسجن أحيانًا.
في الحقيقة هذا لا يعني أبدًا أن هذا الفن كان محاولة "حقوقية" "نقية" "نضالية" وفقط، لقد كان أيضًا يحمل إشارات كثيرة ربما تعتدي على جماعات أخرى تعاني، لقد كان أعداء الراب يشيرون صراحة لنظرته للمرأة كفن نشأ ذكوريًا، وكيف يحمل تحقيرًا من شأن النساء تمامًا كما في ثقافة ذكورية بدائية تراهُن أشياء جنسية خلقت ليستخدمها الرجل، واحتفاء بالسيطرة الذكورية المقموعة اجتماعيا ولكنها لا تتوانى عن أن تعكس هذا القمع على نظرتها للنساء واستغلالهن.
ولكن أيهما أقرب للفن؟!
هل كان يتعيّن على هؤلاء أن يغنون كلامًا غير ما يقولون في الشوارع حتى يمر من فلتر الحركات النسوية مثلًا؟ وإذا كان ذلك كذلك، هل كان يتعين عليهم تنقيح الشتائم ليمروا من فلتر الراديو؟ ثم ماذا أيضًا؟ وبعد كل ذلك ماذا يتبقى لهم كثقافة تحتية أرادت أن تعبّر عن نفسها وفقط، لتجد نفسها مطالبة بالتواؤم مع كل المعايير السائدة حتى تظهر بمظهر "مرضي عنه اجتماعيًا"، الذي يفرض عليها أن تكون بلا عيوب؛ أو متسقة سياسيًا politically correct.
الإبداع بصورة عامة ارتبط دومًا بالتجاوز transgression كمحفز أساسي، أنت لا تنجذب لعمل فني يفتقد لشرط المفاجأة ولو في أحد عناصره، والمفاجأة تعني أن هذا العمل يجذبك لأنه يحوي مخالفة فاقت توقعاتك، بداية من قدرات تعبيرية لدى ممثل أو مغني لمست لديك وترًا، أو ألفاظ لم تتوقعها في هذا السياق، أو مفهوم لم يتطرق إليه عقلك من هذه الزاوية، أو طريقة في التصوير والإخراج تبرز جماليات خيالية بصرية أو نظرة للواقع مختلفة عن حديثنا اليومي، كل هذا نسميه إبداعًا وتسميه اللغة الإنجليزية "خلقًا" creation لأن له حياة خاصة، ليس مطلوبًا منها أن تشبه حياتنا وإن تقاطعت معها.
مطلوب منا أن نرجح شروط العقل- أعني عقلنا المحدود- عندما نتجادل، ولكن عندما نصنع فنًا يكون من المطلوب أن نفتح المساحات المغلقة، التي ليست بالضرورة منصاعة لشروط الجدل الاجتماعي المعتاد وإلا تبخّر سحرها في التجاوز، في اختراع حياة للمبدع والجمهور. علمًا بأن كل فن سيدافع أصحابه عن الحق في إنتاجه، ولكنه سيتعرض للرأي والنقد والفشل والاستمرار من عدمه دائمًا، ولهذا فهو رغبة تقابلها رغبات، وقدرات تقابل الواقع المحيط بها، وتجد مسلكًا من خلاله وليس في فضاء محلّق خاص بها.
لهذا يجد مستمع نفسه أحيانًا يستمع لأغنية أو يشاهد فيلمًا في السر، لا يعرف أصدقاؤه أو أهله أنه شاهده وإلا صار عرضة للانتقاد والسخرية من ذوقه. لماذا؟ ببساطة لأن هذا العمل يدغدغ شيئًا من أحلامه الخفية، غرائزه الممنوع من التعبير عنها، تفاصيله التافهة، يبهجه دون سبب واضح، ولكنه في نفس الوقت غير مطابق للمواصفات التي تعتمدها الجماعة الاجتماعية المحيطة به، ربما ستقبلها فيما بعد- تماما كما صار الراب والهيب هوب جزءًا عضويًا من الثقافة الأمريكية- ولكننا دوًما في هذه الحركة مع الفن والثقافة، تنتقل بنا وننتقل بها، نحاربها ونرغبها، نخاف من اجتراحها للغموض ولكن كل اللذة تأتينا من هذه المناوشة.
لماذا خطر كل هذا في بالي وأنا أتحدث عن أغنية نسائية؟
لأنني أتوقع أنكم بمجرد قراءة العنوان سيتجه الذهن فورًا إلى "أغنية نسوية" feminist. وسينسحب على هذا الفهم وبعده كل الإسقاطات المتداولة وربما التهكمية عن الحركات النسوية وشعاراتها، في مجتمع لا يناقش أصلًا بديهيات مشكلات النساء إلا بعد نضال شاق وعلى استحياء. لكن ربما أردت أن أوضّح الفارق بين أن تعبّر مجموعات عن نفسها فنيًا، وبين أن تخضع حرفيًا لشروط الخطابات الأيديولوجية حولها.
يجب أن نعرف أن المشاركة النسائية في حقل صناعة الموسيقى محدودة جدًا لدينا، بالمقارنة بالغرب الذي يعتبرها محدودة أصلًا. لدينا مشكلاتنا الخاصة المضافة للسيطرة الذكورية التي يتحدثون عنها في الغرب؛ أهمها طبًعا التعليم الموسيقي للبنات والسيدات، الممنوع ثقافيًا والذي يحيل للفساد الأخلاقي والحرمانية وكل شيء إلا شعار "الفن يهذب النفس" المطبوع على الكراسات. لذلك نجد أن معظم المنضمات لهذا الحقل هن من المطربات، حصار كسرته مطربات في القرن السابق، واجهن صراعًا قاسيًا ليخرج صوتهن للجمهور العام، بعد أن كانت المطربة والراقصة والممثلة كيانًا نتبرأ منه ويلفه العار الاجتماعي، إلا طبعًا لو ذهبنا لمشاهدته في الكباريهات سرًا أيضًا. ولكن باقي عناصر صناعة الموسيقى تساهم فيها النساء بقدر محدود جدًا؛ كتابة الكلمة الغنائية، التلحين، التأليف والتوزيع الموسيقي، هندسة الصوت وصناعة الفيديو.
هذا لا يعني أن أغنية النساء لا بد أن تصنعها النساء، وإلا عدنا لركن ضيّق يناقش أفكار الحركات النسوية من خلال الفن، ويجعل الأغنية مجالًا لتصفية حساباته معها مساندة أو معارضة. ربما تكون أصلًا الأغنية النسائية تلك هي ذاتها مناهضة لبعض شعارات الحركات النسوية. أحيلكم هنا لفيديو كنت أتمنى لو تُرجِم باللغة العربية، تتحدث فيه مادونا في تكريم لها عن نظرتها للنسوية، إذ تتعرّض عادة لهجوم كبير بوصفها "أساءت" لصورة النساء، وهي تقول هنا فيما معناه أنه "لو كانت تلك هي النسوية، التي لا تنظر لنا بكل تناقضات حياتنا المعقدة، وصراعاتنا التي نخوضها لنحيا، فأنا إذن أعتبر نفسي نسوية سيئة" bad feminist:
بالرجوع لمثال الشاب الأسود الأمريكي ربما يمكنني أن أشرح أفضل. إذا قلنا أننا نلمح جدلًا أكثر انفتاحًا بدأ يغزو مواقع التواصل الاجتماعي والإنتاج الثقافي حول أوضاع النساء ومشكلاتهن، وما يتعرضن له في حياتهن اليومية وفي أماكن العمل وعلاقات الحب والزواج، فربما تواكِب هذا الجدل حركة فنية، ربما ترغب النساء في أن تقترب من صوتها الخاص، موسيقاها. وهذا يحدث بطبيعة الحال مع كل سيدة تعمل بمجال الموسيقى، إذ كيف يفصل فنان حياته عن إنتاجه الفني قطعيًا؟ ولكن المقصود أنه كلما اتخذ هذا الإنتاج شكلًا واعيًا بخصوصيته الفنية كلما تحرّر من افتراضات الآخرين عنه؛ افتراضات الذكوريين بأنه فن "نسوي" شعاراتي، وافتراضات النسويين بأنه لا بد يتحدث عن مرأة لها سمت وصوت وتيمات معينة.
إذن كيف سيختلف هذا عن أي أغنية تغنيها مطربة مثلًا؟ إذا كانت لا تصنعها النساء بالضرورة ولا تحمل مضامين نسوية بالضرورة؟
أظن أن ما أتحدث عنه هو إدراك مجموعة معينة أنها ليست مضطرة لاستعارة أصوات الآخرين حتى تعبر عن صوتها. الثقافة السائدة هي كيان لا تشعر بتأثيراته كلها بشكل واع. هي تسكن في أدق المواقع تفصيلية وارتباطًا بحياتك وكل جوانبها، تؤثر في طعامك وشرابك وملابسك وتقاليدك والفن الذي تفضله، تتسرب إليك بمجرد أنك تعيش وتتنفس، ولذلك إذا حدث ووجدت أحد عناصرها لا يلائمك، لا يجعل حياتك أفضل، بل ربما يجعلها أسوأ، فإنك ربما تقرر أن تسعى لاستبعاد هذا العنصر من حياتك وتحمل العواقب الاجتماعية لذلك، وربما تسعى لإحداث تغيير اجتماعي أكبر يجعل اختلافك هذا ليس شأنًا فرديًا، ولكنه رغبة لعدد أكبر من الناس، تستطيع أن توجد وتصبح عنصر إضافة، حتى في وجود ثقافة مهيمنة على الأغلبية ولكنها لا تجتث التنوع.
هنا إذا اخترت المجال الفني والإبداعي مساحة للتعبير عن تمايزك تواجهك مشكلة الأدوات الفنية التي تعمل بها الثقافة المهيمنة. فلو افترضنا أن الموسيقى الأكثر انتشارًا وقابلية للسمع تأخذ شكلًا معينًا، فستتجلى هيمنتها في موسيقاك أيضًا، وفي أشكال الكلمة الغنائية التي تستخدمها وصنعتها وصانعيها، وستجدين مثلًا أن أفضل فرصة تقدّم صوتك كامرأة تتنوع بين عدد محدود من الصور: متمردة/ خانعة/ لطيفة ظريفة/ شعنونة مجنونة؛ صور فرضتها قواعد المجال الإبداعي وناسه قبل أن تظهري في الصورة.
التفكير في هذا هو ما قصدته بما نحتاجه. ربما اقتحام أكبر لثوابت فنية وشعورية، ارتياد مساحات غير تقليدية، رؤية موسيقية يكون لها الحق في الوجود والمنافسة، شخصيات نسائية غنائية أكثر تنوعًا، حكايات جديدة. كل ما من شأنه أن يتيح لهؤلاء النساء وجودًا فنيًا واجتماعيًا ليس فقط مرهونًا بانصياعهن لتقاليد الأغنية "المرضي عنها"، لربما أضفن للثقافة العامة طعمًا فنيًا جديدًا.
ربما نحتاج مقالات أخرى كثيرة عن الثقافات التحتية، ولماذا لا تظهر لدينا كتيارات بارزة لها وجود قوي، بل تُجهَض أحيانًا في مهدها، ولهذا أسباب يحل وسط الإنتاج الثقافي والإبداعي وعلاقاته بالسلطة السياسية والدينية على رأسها، ولكن لهذا حديث آخر. المهم، أن هؤلاء النساء كنّ دائما موجودات ومؤثرات، حتى لو لم يبلغ تطورنا الاجتماعي حدًا يستوعب وجودهن، إن لم يحاول طمسه وتطويعه للثقافة المهيمنة.