السابعة ونصف صباحًا. يستيقظ من نومه مهمومًا ، تتزاحم الأفكار في رأسه. يُفكر في اللوم المتوقع من مديره. وفي العمل المتراكم. في مشاوير اليوم والمهام المنزلية المتأخرة. وربما واجبات الكورس الذى التحق به مؤخرا. يشعر بالإحباط. يقول لنفسه إنه كان من الأفضل ألا يستيقظ ويُكمل نومه.
انتصف الليل لكنّها ما زالت تتقلّب فى سريرها. تؤرقها الأفكار حول يومها الفائت وما مرت به. تتذكر صديقتها وحديثًا غاضبًا دار بينهما. تتذكر موقفًا أحرجها في العمل حين تلعثمت أثناء حديثها هاتفيًا مع عميل جديد. هذا التلعثم عاد بها لأيام الطفولة إذ مرت بمواقف مماثلة في سنواتها الأولى. هَرَب النوم من عينيها وبقي لوم الذات والإحباط والغضب.
هذه السيناريوهات نتعرض لها بشكل متكرر مع بعض الاختلافات. صاحب السيناريو الأول تعثّر فى مَطب المستقبل، أما صاحبة السيناريو الثاني فكانت معاناتها من تداعيات الماضي القريب والبعيد، وكلاهما كان اختياره خاطئا.
قد تتساءل: اختيار؟ كيف؟ والأول أمامه يوم مزدحم بالأزمات. والثانية مرت بمواقف عصيبة. أؤكد مرة ثانية. نعم هو الاختيار.
هنا والآن
هنا والآن مفهوم قديم نسبيًا. ظهر تقريبًا مع مدرسة الجشتالت، وهى إحدى مدارس العلاج النفسي العريقة؛ التى أثق أن القراءة عنها ستغير من نظرتنا للحياة.
ويشير مفهوم هنا والآن إلى أن نحيا كل لحظة بلحظتها، أى أن نَحضَر بقلوبنا وعقولنا وأجسادنا فى الزمان والمكان الآنى، وحتى لا نخوض فى التنظير دعونا ننتقل إلى تطبيقات عملية ليتضح المعنى والمفهوم بشكل أوضح.
أوضح تطبيق لمفهوم هنا والآن هو الصلاة؛ ففيها يجب أن نحضر بقلوبنا وعقولنا مع كل آية أو دعاء ننطقه. لنشعر بالسكينة أو الصفاء فى الوقت الذى يتدبر عقلنا معنى الآيات أو الترتيل. ويتحرك جسدنا فى تناغم مع ما نشعر به ونفكر فيه.
والعكس أيضا صحيح حين لا نكون "هنا والآن" فى الصلاة فإننا نؤدى حركات متتابعة يصاحبها نطق آيات بطريقة آلية لا يصلنا من معناها شيء لأن قلوبنا وعقولنا تكون غارقة فى شيء حدث (ماضى) أو في ما سيحدث (مستقبل).
"هنا والآن" تعني أن أفكر فى كل جملة أقولها وأشعر بمعناها؛ فحينما أتحدث مع شخص أنصت ولا أشغل بالي بتحضير كلمات وردود لما يقوله. فقط أترك الحديث يتدفق إلى قلبي وعقلي. هنا سيكون رد الفعل صادقًا وحقيقيًا وليست كلمات جاهزة أو أكليشيه محفوظ أو ردود محكمة منطقية "متخرّش الميه" كما يقولون.
البداية والصبر
كيف يتحقق ذلك؟ كيف ندرّب أنفسنا على الحضور في كل المواقف؟ البداية بأن نذكّر أنفسنا في بداية كل يوم بهذا الاختيار. فأقول لنفسي "أنا محتاج اكون حاضر في كل لحظة" خلال اليوم.
بعد هذه التذكرة المُبكرة، هناك أمر آخر شديد الأهمية. هو الأسئلة المتكررة على مدار اليوم. في كل موقف نمر به نسأل أنفسنا فيمَ نفكر وبماذا نشعر ؟ هل ما نفكر فيه ونشعر به له علاقة بالموقف أم لا؟ تكرار هذه الأسئلة سيساعدنا كثيرًا على أن نكون حاضرين في كل موقف.
أخيرًا، يجب الإشارة إلى أن هذه الطريقة بقدر بساطتها بقدر ما تحتاج إلى بذل الجهد وخاصة عند البدايات. فعَضلة "هنا والآن" إن جاز التعبير ستقوي مع الوقت والممارسة حتي تصبح جزءًا من شخصياتنا يديرها وعينا كلما ابتعدنا عن لحظاتنا الراهنة.