ثمة ديستوبيا نطوف بها، دائمًا هناك من يعيشون على الهامش، ولا يجمعهم سوى الانتظار والتأمل، واستخدام المتبقي من السنوات لإنهاء الرحلة المتأرجحة بين الأحلام والحقائق.
أخبرني صديقي ذات يوم أن الكابتن "مورو"، هذه الشخصية الموجودة في فيلم الحريف لمحمد خان، رسم سينمائي لشخصية لاعب كرة قدم اشتهر خلال خمسينات القرن المنصرم، قبل أن تنتهي صلاحية المهارة وتخفت النجومية شيئًا فشيئًا، لينتهي به الحال عجوزًا يقتات على حكايات كرة القدم القديمة في العصر الذهبي للمواهب، ويأتي بعد ذلك يأتي عصر الانفتاح بمعاييره القاسية، حتى على ساحات كرة القدم الشعبية.
لسنا بحاجة إلى البحث وراء حقيقة مورو لاعب كرة القدم المتواري في مقهى متواضع، ولا يمتلك سوى ذاكرة للملاعب الشعبية وجيب فارغ سوى من قوت يومه الذي يقول عنه ساخرًا "بديلها رز ومكرونة عشان تتملي" حتى ندرك أنه مثال للعديد من الموهوبين القدامى والمجذوبين، الذين طردتهم تغييرات المجتمع.
يحبه لكنه يخشى مصيره
يعتمد خان مخرج ومؤلف قصة فيلم الحريف على مأساة البطل فارس وعلاقته بالأخرين، طليقته، والده، والدته التي ماتت في القرية البعيدة، ابنه بكر، رزق سمسار اللاعبين الذي يستغله ويتاجر به كخيل السباقات.
الصلة وثيقة مع الجميع، التفاعل اليومي واضح بينه وبينهم، لكن "مورو" يختلف عنهم، لا يوجد شيء يجمع بينهم سوى محبة يعتريها خوف من ناحية فارس تجاه الرجل الذي فاته قطار الفرص ليجلس وحيدًا، وفقيرًا في زمن سباقات التطلع الإجتماعي لآبناء الطبقة الوسطى والفقيرة.
مورو الذي تم رسمه على الهامش في قصة الحريف، أضاء منه خان الطريق للبطل المقيد بمراهنات كرة القدم ومتطلبات الحياة.
كما أن مورو أيضًا يحب فارس، الأمر الذي يظهر جليًا في آخر مشاهد الفيلم، يحبه لسبب غير معلوم لكنه يظهر في حديث مورو تجاهه، يبدو أنه يذكره بأيام الشباب والحرفّنة، أو لأن فارس يستطيع سماعه جيدًا ويراعي فيه زمالة الموهبة وكرة القدم.
يبرم فارس ورزق اتفاقًا على إحدى المباريات التي ستقام في بورسعيد بحضور مورو مصادفة، يتسلم فارس عربونًا لا بأس به من المبلغ المتفق عليه، ينفرد بمورو بعيدًا عن عيون رزق السمسار، ثم يمد يده في جيبه ويعطيه مبلغ كمساعدة، مورو يخجل، مشاعر مختلطة من الخجل والامتنان، الخجل من الفقر، والإمتنان لقلب فارس الذي يتسع للطيبون من حوله.
يختار فارس تحولًا جديدًا على أمل تنظيم حياته نوعًا ما، والعثور عن الأمان والاستقرار، فيقرر العمل مع صديقه لاعب كرة القدم السابق، الذي بدأ العمل في مجال التجارة، بالتحديد السيارات.
يستأجر فارس منه سيارة فارهة، على أن يسدد إيجارها من راتبه، يتحرك بالسيارة وسط الشوارع يقابل "مورو" صدفة، يركب الرجل ويتحدث معه عن موهوب سابق ومدمن حالي قابله فارس دون ترتيب مسبق في أحد أزقة الباطنية - الحي الأشهر في عالم المخدرات بالثمانينات- كل هذا وفارس على مشارف الدخول في مرحلة مختلفة بشكل كبير عن مباريات الكرة الشراب في الساحات الشعبية، بعد الاعتراف بالقواعد الجديدة للعبة الحياة.
على جانب بعيد بشكل أكبر عن دائرة فارس الإجتماعية - التي تبدو سطحية بعض الشيء - أو بالأحرى على جانب متوارٍ بشكل ما في "كادرات" خان، نجد عم إسماعيل، الرجل الذي ينتظر دائمًا جالس أمام ألعاب المقهى مع أصدقاء فوق الستين، ولا يتحدث إلا للتساؤل عن اتصال ينتظره من التليفزيون.
نوع ما من الخمول يسيطر على شخصية عم إسماعيل التي لم نرى منها سوى الانتظار، في استدعاء لآخر ما تبقى من الأمل، بكاميرا لم يجعلها "خان" تعطيه أي شيء من الأهمية أو إبرازه كمحور للجلسة، فمورو امتلك التجربة، وجذب إنتباه الجلسات بالحكي وجذب "فارس" بالخوف من مصيره، بينما عم إسماعيل كان مجرد رسالة موجهة للمنتظرين دون جدوى، إلى أن اتصل أحد موظفي التلفزيون بالفعل ليسأل عن إسماعيل، لكنه كان قد رحل دون أن ينتبه أحد.
الموت لا يحب الانتظار، بينما عم إسماعيل كان يقضي ليله مع الأمل ومورو يعيش مع الذكرى.
يؤرخ خان للشارع عبر الثلاثيات، يؤرخ لنفس المدينة ولكن من جوانب مختلفة، فارس آخر يدفع به محمد خان في فيلم فارس المدينة، قد نرى ذلك في ثلاثية فارس "طائر على الطريق" (1981)، و"الحريف" (1983)، و"فارس المدينة" (1991)، أو في ثلاثية المواطن "خرج ولم يعد" (1984)، و"عودة مواطن" (1986)، و"سوبر ماركت" (1990).
فرسان خان كانوا نظرة شديدة الذاتية على الشغف أو البحث عن القيمة الحقيقة لما نفعله، بينما المواطنون كانوا نظرة اجتماعية خالصة لما تحدثه تغيّرات المجتمع بالمواطن المتعلق بأحلام الصعود الإجتماعي، الأفلام التي ذكرناها لم تخلو من الشخصيات الهامشية، في السيناريو لكنها في مجمل الفيلم تحمل ثقل كبير، يصل لتحريك بطل العمل.
فارس آخر في "طائر على الطريق" لكنه لم يمتطي جواد كفرسان الروايات والأساطير، لكنه اتخذ من البيجو السبعة راكب أداة له كرحالة بين القاهرة والأسكندرية أو القاهرة وفايد، المدينة الصغيرة التي ولد بها حبه الذي عانى مع الظروف المحيطة بقسوتها.
يعتاد على مقابلة الشخص المجذوب لا لأولياء الله الصالحين ولكن لركام سيارته التي دمرها حادث طريق مباغت، هذا الشخص يتعامل الجميع معه باعتباره مجنون، بينما فارس ينحني إليه دائمًا برفق، كما لو أن الشوق مسَّ أحدهم فذابَ، نقف أمام الشخصين فلا نعرف من الذي ذاب بسبب الشوق، فارس الذي اصطاده الحب، أم السائق المجذوب الذي تعلق بشريكته -السيارة- ليقضي وقته جالسًا بجانبها على الطريق.
يجلس إلى جوارها على طريق مصر إسكندرية الزراعي ويخيل له باستمرار أنه على وشك إصلاح هذا الحطام، ليخبر فارس برسالة تحرك فيه شغف أكبر نحو حبه: "حبها تحبك وتديك كل حاجة".
عبدالعظيم يغني في وجه الوحدة والفقر
عبدالعظيم يقابل فارس المدينة بصورة مباغته يخطفه مثلما خطفته حياة التسعينات اللاهثة وراء الملايين، يرمي نفسه أمام السيارة الفارهة من أجل ليلة يقضيها داخل إحدى المستشفيات الاستثمارية.
يكتشف فارس الأمر بعد ذلك، يثور عليه، يقذفه بكل ما تقبله رقابة المصنفات من سباب في فيلم سينمائي مصري، ثم تأخذه نداهة أنه ليس نصابًا محترفًا أو لصًا، هو مجرد أستاذ تاريخ متقاعد ويوعظ في المآتم، ويحب الست أم كلثوم.
عبد العظيم القرنفلي انتقل إليه عبث التاريخ والمجتمع، عبر سنوات الوحدة وانعدام المعايير فيقرر أن يتعامل مع الحياة بكل هذه البساطة، إذا كانت الحياة سرقت عمري وأبنائي بخفة شديدة، سأسرق أنا ثمن ليلة فندقية بمستشفى استثماري بكل "حرفنة".
فارس نفسه يحافظ على جزء كبير من شخصيته في ظل زمن تشغيل الأموال، التي سيطرت على ثروته مما غضطره ليبيع كل أملاكه قطعة قطعة تسديدًا لديونه لكن على أنغام الست أم كلثوم "حطيت على القلب إيدي وأنا بودع وحيدي، وأقول يا عين اسعفيني يا عين"، إلى أن يقع في الحب ليستمع إلى سؤال أم كلثوم الإستنكاري وهي تعاتب: "أنساك؟ ده كلام".
عبدالعظيم يقولها لفارس بنبرة أبوية افتقدها طويلًا "أنا حاسس إن ابني رجع لي، وعلى فكرة أنت فيك عرق طاقق زيه".
في نهاية الفيلم، تجد فارسًا يأخذ حبه الجديد ويعيشان بالقرب من عبد العظيم، هذا الرجل الذي همشته الحياة ليقفز بصورة مفاجئة في حياة رجل الأعمال المهدد بالسجن أو الإفلاس، والذي يعاني من انهيار أسرته التي لم تنقذها الأموال، ليخبره أن الحياة تؤخذ كما هي، لكن الأهم أن نفهم الحقيقة، الأمر الذي ساعده على الشعور بالأمان.
تشابهات خان عديدة، من الكاميرا حتى الشخصيات، يبدو أنه يريد حكاية قصة واحدة، لكن من المهم أن يضيئها عبر هؤلاء، الذين لن نراهم بصورة هذه في سينما تفتقد للاتصال الحقيقي مع المكان، وبالتالي الذين يعيشون فيه وإن كانوا على هامش أو الحياة أو هامش السيناريو نفسه.