موضوع قتل المستوطنين في بيوتهم قالب الدنيا وسط دوائر النشطاء والمثقفين المصريين اليومين اللي فاتوا. والموضوع كما هو متوقع اتحول إلى تراشق وخسارة أصدقاء.. الباكيدج المصري الكلاسيكي!
وجهات النظر بدأت بالتشكيك في جدوي وقانونية قتل المستوطنين.. واتفرع النقاش إلى قانونية وجود المستوطنات والنتائج المترتبة عليها، وصولاً لحقوق الفلسطينيين وأين تنتهي، وحدود المقاومة، وإذا كان من حقنا كمصريين مهتمين بالشأن العام بس أجانب - مش فلسطينيين يعني- إننا ندلو بدلونا في الحدود والحقوق.
خلفية سريعة: بعض النشطاء شافوا إن قتل المستوطنين فعل مالوش جدوى وبيوقع القضية الفلسطينية في مغرز غير قانوني وبيفقدها التعاطف الدولي، اللي بتفقده القضية دي أصلا باستمرار من زمان. بالإضافة إلي إن الرد الإسرائيلي كالعادة بيكون عنيف، وماحدش بيعرف يرد علي الدعم الدولي لدولة إحتلال، هي أصلا بارعة تاريخيًا في تسويق نفسها كضحية تعيش وسط همج ومصاصين دماء. النشطاء دول كانوا أقلية كالعادة. وتم الهجوم عليهم وعلى رأيهم، والموضوع بقى شخصي، ووصلنا كالعادة لتخوين وخوض في أعراض وتهديد بلجوء للمحاكم.
الواحد مش عارف يبدأ منين بصراحة. الموضوع كبير من كذا زاوية. من ناحية؛ فلسطين كقضية محورية إحنا وأهالينا اتربينا وكبرنا وهي الهولوكوست بتاعنا، بس مش عارفين نسوَّقُه. ومن ناحية تانية؛ الوضع اللي القضية وصلت ليه محتاج شوية نقد ذاتي لانحيازاتنا وإزاي نديرها لو لسة مصرين عليها. ومن زاوية أخرى تمامًا؛ الخناقة القبيحة اللي كانت على السوشيال ميديا اليومين اللي فاتوا خلت الواحد شايف إن مشاكل الثورة وجيلها مافيهاش برضه تفكير رغم وضوحها وضوح الشمس، ولا بنتكلم عنها ولا بنناقشها وندور لها على حلول نعرف نتفق عليها. وبالتالي شكلنا مكملين في مسيرة الانسحاق اللي بقالها كام سنة شغالة. إكمن أعداء الثورة بيستخدموا مشاكلنا الواضحة دي ضدنا في كل مناسبة للتدليل علي عدم قدرتنا علي ممارسة الحد الأدنى من الحوار العقلاني. ناهيك عن إدارة تناقضاتنا.
للأسف الموضوع محبط، ومليان عناصر دولية وتاريخية، بس برضه فيه مشاكل جوهرية داخلية لازم نتعامل معاها بعاطفية أقل علشان نعرف نساعد نفسنا في لحظات الانسحاق اللي عايشنها في الداخل دي علشان نعرف نساعد الخارج. أصل ماينفعش اللي بيهلل لفكرة "تحرير القدس يبدأ من القاهرة" يكون ده رد فعله لمشاكله اللي عمرها ما هاتحرر القاهرة بالشكل ده!
لو بصينا علي المشهد بتاع قتل مستوطن هو وعيلته داخل بيتهم هانلاقي قتل خارج نطاق القانون، وكمان هانلاقي إنه أعزل وده المفروض يديه حماية قانونية وأخلاقية. دي كانت وجهة نظر الأقلية اللي اتجرأت وعبرت عن رأيها بعدم جدوي الاستراتيجية دي.
المنطق المقابل، اللي كان عنيف جدًا، كان مركز علي عدم قانونية المستوطنات كفكرة وكتنفيذ؛ وبالتالي شيطنة المستوطنين اكمنهم سابوا الدنيا وجم يشاركوا في اغتصاب الأراضي الفلسطينية. وبالتالي هم جزء من آلة الحرب الصهيونية اللي لازم تتحارب وتتقاوم.
نقطة تانية ارتكزت عليها وجهة النظر دي، هي إن كل الإسرائيليين مجندين في جيش الدفاع وعندهم الحق في حمل السلاح، وبالتالي هم ليسوا بعُزَّل.
للأسف رغم اعتراف الفريقين بالظلم التاريخي الواقع علي الفلسطينيين، وإن الكيان الصهيوني كيان عنصري وإستعماري؛ إلا إن المعركة تحولت لتبرير منطق رفض قتل المستوطنين كمدنيين غير مسلحين، مقابل الدفاع عن حق الفلسطيني في قتل الإسرائيلي.
الجديد إن المنطق الإسلامي -اللي هو عمومًا مسيطر على المجال العام بتاعنا- وما يستتبعه من مصطلحات زي القصاص وتسمية الإسرائيليين باليهود وإنهم "خانوا الرسول"..إلخ، اختفى خلف المنطق والمصطلحات القانونية والقومية والإنسانية. ودا في رأيي تطوُّر، حيث إن ممكن نلاقي لغة ومنطق نتكلم بيهم ونشتبك من خلالها على أرضية مشتركة.
بس نرجع تاني لنقطة محورية في الخطاب العام اللي غرقان في المنطق البدوي ( قبيلتنا وقبيلتكم)، واللي للأسف لسة ناس كتير من اللي محسوبين على المعسكر المدني متبنيينه. فمثلاً استرخاص الحق في الحياة وتبرير إنهائها ده شيء يخوف. بصراحة البحث عن أرضية لإنهاء حياة حد من المعسكر المضاد ده شيء مرعب. خصوصًا مع اللي بيحصل من هجوم كبير على أي وجهة نظر مضادة يتم طرحها. القًبًلِيَّة بانت هنا ضد المختلفين اللي بقم عرضة للتخوين والتنكيل والتهديد. أضعف الإيمان كان المصطلح الدارج: ماحدش فينا ينفع يزايد علي الفلسطينين في مقاومتهم وختيارهم للطريقة اللي تريحهم.
بالنسبة بقى لمسألة التعاطف عشان نرجعلها تاني تعال نبص على الصورة دي:
في الصورة دي عنوانين لخبرين نشرتهم هيئة الإذاعة البريطانية BBC، هتلاحظ إنها لما بتنشر عن ضحايا الاشتباكات الدائرة في فلسطين؛ فهي بتطلق على الضحايا الفلسطينين لقب "أموات" بينما الضحايا الإسرائيليين بتطلق عليهم "قتلى". الموضوع ده بيفكرنا بالإعلام المصري لما بيطلق علي ضحايا تفجيرات الكنايس قتلى أما لو في ضحايا مش مسيحيين، أو من الشرطة فبيطلق الإعلام عليهم "شهداء". أظن الانحيازات واضحة هنا والأجندة السياسية أوضح. بس في إعلام دولي بالشكل ده، ازاي ممكن نسوق قضيتنا وإحنا مش متفقين مع نفسنا ومع بعض علي الحد الأدنى من القيم الإنسانية والقانونية اللي ممكن الإعلام الدولي يعتبرنا على أساسها بني آدم يستحق التعاطف، ومهواش مزدوج المعايير في التعامل مع إنسانيته وبالتالي قضيته؟
السنة اللي فاتت درِّست في الجامعة هنا في كندا عن الصراع العربي الإسرائيلي. وجبت ضيوف يتكلموا مع الطلبة عن المواقف المتباينة في الموضوع الشائك ده. وعن وجهة النظر الصهيونية زارتني رئيسة الجالية اليهودية في كالجَري ،واتكلمت من منظور صهيوني. اللي استغربتله بعد المحاضرة انها بتسألني علي استحياء إذا كانت تطرَّفت في حديثها. الموضوع هنا يتعلق بالمنطق السائد اللي لو حد شت عنه بيتبصله كغريب، بالتأكيد إحنا وقضيتنا مش ناقصين اغتراب.
أصلاً من الناحية القانونية في نقطة تتعلق بتعريف المحارب (combatant) اللي ممكن تحاربه في ميدان المعركة. وده لازم يكون بيتم محاربته أثناء فعل العراك أو الحرب، مش وهو في بيته بيحضر العشا. حتي لو عنده سلاح، عدم استخدامه لهذا السلاح في فعل حربي لا يضعه تحت تعريف المقاتل.
بالمناسبة أنا اشتغلت في تجارة الأسلحة وأدوات الصيد. أحد البنادق اللي عندي روسي ولا تستخدم في الصيد ما دمت باستخدم رصاص full metal jacket، وده نوع رصاص حربي المقذوف بتاعه مابيفتحش داخل جسد العدو. الرصاص العادي اللي باستخدمه في بندقية تانية بيفتح وهدفه قتل الحيوان اللي باصطاده. اتعلمت من كدا إيه؟ إن في الحرب الهدف من الرصاص fmj هو شل العدو وإصابته إصابة غير قاتلة، بعكس صيد الغزلان اللي لازم طلقة واحدة تموتها وتقضي علي معاناتها. مابالك بقي ببني آدم بيتعشي في مطبخ بيته؟
هنا لازم أقول إني بشكل شخصي ضد عقوبة الإعدام أصلا. ونقطة تانية في غاية الأهمية: أبسط قواعد القانون والعدالة تقول إن العقوبة لا يجب أن تكون أكبر من الجرم. وإذا لم يتم إثبات أن مستوطن بعينه شارك في قتل فلسطيني، فأقصى جريمة ممكن نتهمه بيها هي السرقة أو اغتصاب الأرض. بكل بساطة دي تهم لن تستطيع أي محكمة أن تحكم فيها بإعدام المتهم. فما بالك بإن الحكم والتنفيذ خارج نطاق سلطة القانون؟ وبيتم بشكل جماعي كقتل علي الهوية (السياسية والدينية)؟ للأسف هربت مننا دي!
نرجع بقي لنقطه خليك بعيد وماتزايدش على الفلسطينيين اللي مظلومين ظلم تاريخي. طب ممكن نتعامل مع المنطق ده ولو حتي كأنه حليف عايز تكسبه؟ ما هو لو قلنا لحليف يطلع منها في لحظة اتخاذ القرار؛ إزاي ممكن نطلب منه دعم في نتايج القرار ده؟ وبعدين مين اللي عنده سلطة اختيار مين يتكلم ومين يقول إيه وامتي؟ وبعدين آخرتها إيه في منطق الأحزاب وإنت معانا ولا معاهم؟!
بلا شك القضية شائكة علي المستوي القانوني والإنساني وفيها أماكن كتير لونها رمادي. بس إحنا خرجنا نفسنا برة الإطار ده بقيمنا اللي خسرتنا متعاطفين وحلفاء. والأساليب بتاعتنا اللي الأكثرية شايفة جدواها في حين إنها في الحقيقة يعني ماكسبتناش أي حاجة.
مهما كان الجانب الصهيوني منحط! إحنا دلوقتي بنزايد عليه في الإنحطاط. وفي اللحظة دي، مادمنا مش عايزين نلعب داخل إطار القانون، تتحول المعركة لمين أقوي ويقدر يفرض إرادته علي أرض الواقع. وإحنا بصراحة عمرنا ماكسبنا الحته دي. طب وعلي إيه بقي؟ هو كيف قضايا خسرانة؟!