منشور
الجمعة 5 يناير 2024
- آخر تحديث
الجمعة 5 يناير 2024
لم تكن احتفالات رأس السنة تجذبني في السنوات السابقة، فقط أجيب مَن يرسل التهاني والأمنيات الطيبة بمثلها. ليس لأنني لا أحب لحظات المرح، لكن لأن في غزة لا احتفالات حقيقية، بل مجرد فعاليات محكومة بقيود مجتمعية وسلطوية، حكومية على الأغلب، تنغص على المُحتفلين احتفالهم.
كما أن الموضوع لم يكن يتعدى إضافة واحد على مجموع السنوات الميلادية، لتزداد رقمًا دون أن يتغير أي شيء؛ الحال هو ذات الحال، والقيود هي ذات القيود. لكن عام 2023 كان مختلفًا.
عام الانتظار
بدأ عام 2023 كغيره من الأعوام السابقة، واستمر الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة منذ 2006، واستمرت التهديدات والتصريحات التي تنبئ بحرب قادمة، أو على الأقل جولة من التصعيد، واستمرت نسب الفقر والبطالة في الارتفاع رغم تجاوزها الـ50%.
بالفعل، أدت التحذيرات والتهديدات إلى جولة تصعيد استمرت 5 أيام في مايو/أيار بعدما اغتالت إسرائيل 3 من قيادات حركة الجهاد الإسلامي بالقطاع. اعتقدت حينها أن جولة هذا العام انقضت، لكن استمرت التهديدات والمناكفات، التي انعكست على الحياة اليومية لسكان غزة البالغ تعدادهم أكثر من مليوني نسمة حسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، وعلى حياتي بشكل شخصي.
تحول الجدل إلى "كيف سيقضي العالم ليلته؟" فيما أنا ومليونان آخران نعرف جيدًا كيف سنقضي ليلتنا
انخرطت بشكلٍ أكبر في عملي الصحفي. ومن خلال التقارير اليومية التي أنتجتها وأرسلتها لـ المنصة، بدأت ألحظ ارتفاع وتيرة التهديدات والتحذيرات، بجانب التجهيزات والحشد بين فترة وأخرى.
حتى خلال تغطيتنا الصحفية على حدود غزة الشرقية مع الاحتلال الإسرائيلي، كان الأمر ينذر بأن إسرائيل تحضر لحرب قاسية لم نشهدها من قبل، خاصةً مع استمرار تلويح حركة حماس بورقة المحتجزين لديها منذ سنوات، في ظل توقف عملية التفاوض والتبادل على عدد من الأسرى الفلسطينيين.
في تلك الفترة، أصبحتُ أكثر توترًا وقلقًا، خاصةً خلال ساعات الليل التي أصابني فيها الأرق حتى دفعني للقراءة بشكلٍ أكبر، سواء المقالات أو الروايات. كنت أشعر أنني في حالة انتظار.
ساعة الصفر
صباح السابع من أكتوبر، كنت استسلمت للنوم قبلها بساعتين. حينها فقدت كل شيء؛ فقدت الانتظار والحياة، فقدت المنزل والأمان، فقدت القدرة على الفرح وحتى الحزن. أصبحت أقضي الوقت في متابعة التطورات وإرسال التقارير، صرت أعمل دون توفر مساحة من الوقت اليومي للتفكير بما يجري، وما سيجري.
مرت الأيام حتى صارت 3 شهور، ختمنا بها 2023. كانت أيامًا شهدنا خلالها القتل والأشلاء والفقد والوداع وصراخ الأطفال والأمهات والآباء، إلى جانب الدمار غير المسبوق، وعمليات النزوح القسري، واللجوء للخيام لإقامة حياة غير آدمية.
في الشهر الثالث، ومع بداية ديسمبر/كانون الأول، بدأنا نسمع أنّ العالم سيضغط على الاحتلال الإسرائيلي لإنهاء الحرب قبل حلول ليلة رأس السنة.
البعض قال إنّ الغرب لن يُفرط في احتفالاته السنوية. حينها ضحكت ساخرًا من العالم الذي قد يوقف الحرب فقط ليتجنب أي تنغيصات على رفاهيته، في الوقت الذي يُقتل فيه الأبرياء دون ذنب أو حق، ودون أن يدافع عنهم أحد لا في حياتهم ولا مماتهم. فبعضهم لا يزال تحت الأنقاض، جثثًا هامدة لا يتمكن أحد من إخراجها ودفنها.
مرت الأيام، واتضح أن العالم سيحتفل، كأن شيئًا لم يحدث. تحول الجدل إلى "كيف سيقضي العالم ليلته؟"، فيما أنا وأكثر من مليونان آخران نعرف جيدًا كيف سنقضي ليلتنا، وكيف سيُحتفل بقتلنا.
لمن تدق الأجراس؟
بعض البلدان، حولت احتفالاتها لتسليط الضوء على ما يجري هنا في غزة، وعلى استمرار إسرائيل في حربها ضد مدنيين أبرياء عُزل، مُدعية نيتها القضاء على حركة حماس ومُقاتليها.
اقتربت الساعة من منتصف الليل. وبينما بدأ العالم العد تنازليًا لاستقبال العام الجديد، لم يتغير شيء هنا، حتى أنّ الساعة لم تدق.
استمرت العتمة والعزلة في ظل انقطاع الإنترنت والكهرباء، ومنع دخول المحروقات لتشغيل محطة توليد الكهرباء الوحيدة بالقطاع. استمر جيش الاحتلال في قصف المنازل المأهولة بالمدنيين، وقصف الشوارع بالمدافع والدبابات، واستمر جنود الاحتلال في الاشتباك مع فصائل المقاومة التي تتصدى للتوغل البري الإسرائيلي.
في منتصف الليل كنت رفقة زملائي في خيمة الصحفيين المجاورة للمستشفى الكويتي في رفح، التي نزحت إليه قسرًا مع النازحين. تعمدت المقاومة مع أول دقيقة في العام الجديد إطلاق عشرات الصواريخ بعيدة المدى لتصل إلى تل أبيب وضواحيها، لتؤكد أنّ استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة يقابله منع الاحتفال وعودة الحياة إلى طبيعتها في إسرائيل.
أكملت عملي، ومُتابعتي لمجريات الحرب بالأدوات والإمكانيات البسيطة المتاحة لنا كصحفيين، وتجاهلت تمامًا أي احتفالات. حتى أنني تجاهلت أي أمنيات بعام جديد سعيد من أصدقاء وصديقات، تجاهلتها عمدًا حتى أتجنب أي استفزاز، أي أمنيات سعيدة ونحن نُقتل؟ ومَن قال إنّ 2024، حتى وإن توقفت الحرب سيكون عامًا سعيدًا؟
نحن بحاجة لأعوام وعقود لنتمكن من لملمة جراحنا، للطبطبة على مَن فقد عزيزًا، لقرارات ومجهودات دول عدة لإعادة ما دمره الاحتلال من شوارع وبُنى تحتية وأماكن عامة وبنايات ومُدن سكنية ومدارس ومستشفيات وغيرها. نحن لن نحتفل هذا العام، ولا في الأعوام المقبلة، حتى وإن توقفت الحرب الآن وليس غدًا.