مع ظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة كل عام والتي تعلن عن تميز وتفوق أبناء الفقراء والتعليم المجاني، والبنات منهم تحديدًا، أتذكر دائمًا العديد من النماذج الإنسانية المتميزة في تاريخنا والتي تمثل نماذج للإرادة الإنسانية القوية التي واجهت وتخطت كل الصعاب. ومن هذه النماذج الدكتورة عائشة عبد الرحمن، التي تحكي في سيرتها الذاتية، "على الجسر.. بين الحياة والموت" عن فترة تكوينها وكفاحها من أجل الاستمرار والنجاح في طريق تعليمها.
تقول في كتابها: "وهكذا مشيت على الدرب الوعر.. خَفيِّة عن التقاليد الساهرة على حراستي كيلا أنحرف عن الاتجاه المرسوم لي.. وخَفيِّة كذلك عن الأوضاع الطبقية والنظم التعليمية واللوائح المدرسية التي أقامت الحواجز والسدود في طريق مثلي، إلى الجامعة". وكم تكون سعادتي حين أشهد تكرار نماذج مشرفة لنساء مثل بنت الشاطئ، لديهن العزيمة والطموح والإخلاص لتجاوز التحديات والوصول لأهدافهن، خاصة في هذه الأيام التي تشيع فيها قيم الوصول السهل وحب الظهور وهوس الشهرة ولفت الأنظار بدون علم أو تفوق حقيقيين.
يمكن وصف الدكتورة بنت الشاطئ المولودة عام 1913 بأنها ربيبة مشايخ؛ فهي ابنة للعالم الأزهري والصوفي الكبير الشيخ محمد علي عبد الرحمن والذي علمها، ومعه زملائه من المشايخ والعلماء الأزهريين، من العلوم الإسلامية ما نفعها به. وقد أهدته، لفضله ورعايته، تحقيقها لكتاب "مقدمة ابن الصلاح ومحاسن الاصطلاح" فكتبت تقول: "إلى من أعزنى الله به أبًا تقيًّا زكيًّا ومعلمًا مرشدًا ورائدًا أمينًا ملهمًا، وإمامًا مهيبًا قدوة، فضيلة والدي العارف بالله العالم العامل: الشيخ محمد على عبد الرحمن الحسيني. نذرني رضى الله عنه لعلوم الإسلام ووجَّهني من المهد إلى المدرسة الإسلامية وقاد خُطاي الأولى على الطريق السوي يحصننى بمناعة تحمي فطرتي من ذرائع المسخ والتشويه".
والدكتورة عائشة، هي أيضًا، حفيدة لأجداد من علماء الأزهر ورواده، وجدّ أمها كان الشيخ أحمد الدمهوجي؛ إمام وشيخ الجامع الأزهر. وسوف تكون، فيما بعد، أول سيدة تحاضر في جامعة الأزهر. تعلمت في صغرها وفقًا لتقاليد إسلامية صارمة، وحفظت القرآن كاملًا في سن صغيرة على يد الشيخ مرسي بالكُتّاب. ومع مرور الوقت أخذت تفكر في الذهاب إلى المدرسة مثل بنات جيرانها.
كانت كثيرًا ما تشرد بسبب هذا الأمر لثقتها في رفض أبيها وخوفها منه، وفي إحدى المرات سألها عن سر شرودها عن دروس العلم الإسلامي على غير عادتها، فتشجعت وقالت له إنها تريد أن تذهب إلى المدرسة. فرفض ذلك بحسم شديد؛ فليس لبنات المشايخ والعلماء أن يخرجن إلى المدارس الفاسدة والمُفسدة، وإنما يتعلمن في بيوتهن. وأمرها أن تقرأ سورة الأحزاب حتى وصلت إلى قوله تعالي: "يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفًا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى".
ولكن جدها الشيخ الدمهوجي تدخل ليقنع والدها بالالتحاق بالمدرسة، باعتبار أنها لم تبلغ مبلغ النساء بعد، وأيضًا مع وعد بأن تدرس من المنزل ولا تخرج إلا من أجل الامتحانات فقط، وألا تتهاون أو تقصر في دروسها الإسلامية، وأن تنقطع نهائيًا حين تصل إلى سن البلوغ.
لكنها أكملت طريقها بالاستعانة بمفاوضات ووساطات جديدة. نالت من المنزل شهادة الكفاءة للمعلمات سنة 1929، وكانت الأولى على القطر المصري، ثم حصلت على الشهادة الثانوية سنة 1930. بدأت الكتابة فى مجلة "النهضة النسائية" عام 1935، وبعدها بعام كتبت في جريدة "الأهرام" وكانت بذلك ثاني امرأة تكتب بالأهرام بعد الأديبة مى زيادة.
التحقت بكلية الآداب بجامعة فؤاد (القاهرة حاليًا)، وتخرجت من قسم اللغة العربية سنة 1939، ونالت الماجستير بمرتبة الشرف الأولى عام 1941 وكان موضوع رسالتها "الحياة الإنسانية لأبي العلاء"، وحصلت على الدكتوراه في الأدب سنة 1950، برسالتها وتحقيقها لنص "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري وبإشراف الدكتور طه حسين.
يمكن اعتبار بنت الشاطئ من تلاميذ طه حسين، لكنه من الجانب المشيخي والمحافظ من تلاميذه، مثلها مثل شوقي ضيف ومحمود شاكر. والدكتور طه حسين كتب رسالته للدكتوراه عن أبي العلاء، وذلك عام 1914، ويمكن للمرء أن يدرك الفارق الكبير بين رؤية وتناول طه حسين لشخصية أبي العلاء والتناول المختلف الذي قدمته بنت الشاطئ في تحقيقها لنص الغفران، وكان طه حسين يرى أن عزلة أبي العلاء، رهين المحبسين، جبرية، في حين رأت أنه اعتزل الناس باختياره. ولعل من ضمن أسباب دراستها لأبي العلاء أن يكون في هذا نوع من أنواع الاستدراك على ما قدمه الدكتور طه. وكان الدكتور طه يشجعها وينصت لها ويصبر عليها أكثر مما كانت تصبر هي عليه كما تذكر عنه. وكان يرى أن هذا التنوع في الرؤى والتناول هو الذي يؤدي إلى نهضة البحث العلمي.
كانت التربية الأزهرية لبنت الشاطئ قد جعلتها تتعرف على أشكال متنوعة من الاستدراكات في التراث الإسلامي، مثل الفوات، والذيل، والمستدركات، والتكملة، والتهذيب، وتهذيب التهذيب.. إلخ. فاستخدمت هذا النمط، ودفعتها شخصيتها العنيدة والمستقلة لأن تتصدى للاستدراك على عمل عميد الأدب العربي نفسه.
اختلاف عائشة عبد الرحمن مع طه حسين لم يقتصر على موضوع أبي العلاء وفلسفته، بل امتد إلى قضية المتنبي ونسبه المجهول، وبالتالي فهمه المختلف لشعره المتعلق بعلويته، وكان ينكرها طه حسين ويرى أن المتنبي شاعر فحل لكنه لقيط. وكذلك عاندته في قضية انتحال الشعر الجاهلي والتشكيك في صحته، الذي طرحه في كتابه "في الشعر الجاهلي".
رغم التربية التقليدية التي نشأت عليها بنت الشاطئ، إلا أنها منذ صغرها كانت شخصية قوية، لا تترك فرصة للتحرر أو للتعبير عن نفسها إلا واقتنصتها، بداية من إصرارها على أن تكمل تعليمها حتى وصلت إلى الجامعة بعد أن تحدت أبيها، وبعد أن تحدت الفقر، والأهم كان تحديها لنفسها. ولم تتوقف عن قبول التحدي حتى في قصة زواجها.
أمين الخولي
تروي الدكتورة عائشة عبد الرحمن في سيرتها أن هناك يومين لميلادها، الأول هو الميلاد الحقيقي في 6 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1913 في مدينة دمياط بشمال مصر، والآخر، هو يوم لقائها بأستاذها وزوجها فيما بعد، الأستاذ أمين الخولي، وهو يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1936. في هذا اليوم وُلد في قلبها حب كبير: "منذ ذلك اللقاء ارتبطت به نفسيًا وعقليًا، كأني قطعت العمر أبحث عنه في متاهة الدنيا، وخضم المجهول، ثم بمجرد أن لقيته لم أشغل بالي بظروف وعوائق قد تحول دون قربي منه، فما كان يعنيني قط سوى أني لقيته، وما عدا ذلك ليس بذي بال، وقد انصرفت من درسه الأول في اليوم السادس من أكتوبر سنة 1936 وأنا أحس بأني ولدت من جديد".
تحكي بنت الشاطئ عن بداية هذه القصة مع الشيخ أمين الخولي: "كان يقسو عليّ وأنا طالبته في الجامعة، وأقصى قسوته منذ التقينا كانت عندما أعطاني صفرًا في البحث الذي تقدمت به إليه وكان بحثًا في أسباب النزول. فذهبت إليه بعدها وسألته: لم كل هذه القسوة؟ فقال: إن الشخص الجيد يجب أن يتم إعداده بشكل جيد أيضًا، والجامعة أحد أهم أهدافها هو إخراج طالب تام، وأن الواحد الصحيح أفضل من النصف يا عائشة". في هذا اليوم شَعرَت بالحب نحوه في قلبها، وتزوجا فيما بعد. لكن هذا الزواج تسبب في العديد من المشاكل في وقته، حتى أن بعض المقربين منها قاطعوها ووجهوا لها نقدًا قاسيًا بسبب فارق السن الكبير بينها وبينه الذي وصل إلى 17 عامًا، كما أنها ستكون الزوجة الثانية له مع وجود زوجته الأولى. وكانت قصة الحب هذه موضوعا للشائعات والغمزات الكثيرة التي أراد بها بعض المنتقدين أن يسيئوا من خلالها إلى بنت الشاطئ وزوجها العالم الجليل، لكنها صبرت وتمسكت بعواطفها العميقة الصادقة، وجرى الزواج بينهما بالفعل في سنة 1944.
معارك فكرية
خاضت عائشة عبد الرحمن الكثير من المعارك الفكرية دفاعًا عن الإسلام، وكان أبرزها معركتها الشهيرة ضد التفسير العصرى للقرآن الكريم الذي اخترعه الدكتور مصطفى محمود، الذي هاجمته بشدة لترويجه لوجود إعجاز علمي بالقرآن. وخاضت معارك في سبيل دعمها لاحترام المرأة والدفاع عنها وعن أهمية تعليمها وعملها. وهي أول من صنفت كُتبًا مفردة ومتفردة لتراجم سيدات بيت النبوة.
خاضت أيضًا معركة شهيرة مع عباس العقاد عن رؤيته الحادة والقاسية للمرأة. كان العقاد ألف كتابًا بعنوان "المرأة في القرآن" وصب فيه كل غضبه ونقمته ضد المرأة، فقال مثلًا إنه من المستحيل أن تكون المرأة نظيفة أبدًا، وأن المرأة قذرة سافلة متخلفة ناقصة، لا خلق لها ولا ضمير.. فما كان من بنت الشاطئ إلا أن ردت على كلامه وتحقيره للمرأة بهذه الصورة وتفسيره المتجني لبعض آيات القرآن التي أوردها للتدليل على صحة رأيه. وذكرت أن من النساء فاطمة بنت النبي وخديجة أم المؤمنين وسيدات بيت النبوة الأطهار.
كان بداية ردها عليه مقال لها بعنوان "اللهم إني صائمة". ثم رد العقاد عليها بالتجريح والتجاهل في نفس الوقت، حيث كتب: "إن السيدة بنت الشاطىء لا تحوجنا إلى جواب، لأنها هي بذاتها جوابنا المفحم، ولو أننا بحثنا عن رد عليها أقوى منها لإقناعها لأعيتنا الردود، فمن الخير أن يُصان الكلام لغير هذا المجال". مما زاد من ثورتها لتكتب مقالها الثاني والذي كان بعنوان "ما لم أقله وأنا صائمة". فما كان من العقاد إلا أن كتب ورد، هذه المرة، بقسوته وصرامته المعهودة عنه فقال عنها "لا أضعها في عالم النساء، ولا في عالم الرجال وإنها المثل الواضح على تناقض المرأة حتى في الشكل وليس المضمون فحسب". وأكمل: "إننى أعجب من دفاع امرأة هى رقم اثنين فى الترتيب عند الرجل الزوج بالنسبة إلى بنات جنسها من النساء.. كيف تسمح لنفسها بأن تدافع عن المرأة وكأن جميع النساء وكلوها نيابة عنهن؟"
وردت بمقال ثالث ختمت به المعركة من جانبها وقررت ذلك احترامًا لنفسها بأن تصمت ولا تكرر الكلام ولا تنزلق في الرد أكثر من هذا. وقالت في نهاية مقالها الأخير: "بقيت كلمة أرجو أن تحسم هذا الموقف الكريه، وهي أن كل ما يقوله الكاتب وغيره من خير في الرجال فهو منا وإلينا، لأنهم أبناؤنا وأزواجنا وإخوتنا وأباؤنا، وكل شر يقال في المرأة فهو حتمًا مردود إلى الرجل، لأن الدنيا لم تعرف رجلًا لم تلده أنثى". طوال هذه المعركة، ولا في غيرها من المعارك الفكرية، لم يتدخل أو يرد الشيخ أمين الخولي زوجها، ولا تلاميذه؛ احترامًا وتقديرًا لها، ولأنهم كانوا يعرفون أن لديها القدرة والحجة العلمية للرد، كما أنها لم تطلب، في أي مرة، أي تدخل.
عاشت الدكتورة بنت الشاطئ حياة ممتدة وغنية بالعلم والمعرفة والكفاح والمعارك الفكرية. وظلت حتى النهاية تكتب بأسلوبها ونثرها الجميل والفصيح، وأعادت قراءة القديم وقدمته في صورة جديدة بإضافاتها ورؤيتها. وكانت تكتب حتى آخر أيامها مقالات شهيرة في الأهرام بعنوان "شاهدة عصر"، وآخر مقال لها كان بعنوان "علي بن أبي طالب كرم الله وجهه" يوم 26/11/1998 أي قبل وفاتها بأربعة أيام. وتوفيت يوم الثلاثاء 1 ديسمبر /كانون الثاني 1998. وودعتها مصر بجنازة مهيبة تليق بعالمة كبيرة وإنسانة عظيمة هي الدكتور عائشة عبد الرحمن.