قبل ثلاثين سنة بالضبط من تاريخ كتابة هذا المقال، الخامس من ديسمبر/كانون الأول 1993، كان الحدث الأهم بالنسبة لي سيجري داخل استوديو إذاعة الشبكة العربية الأمريكية ANA في إحدى ضواحي العاصمة الأمريكية واشنطن، حيث أقدِّم على الهواء لتسعين دقيقة برنامجي كلَّ أحد بعنوان "حصاد الأسبوع".
كان ضيفاي يومها على طرفي نقيض في مواقفهما الفكرية والسياسية؛ الأول حضر صوته فقط عبر الهاتف من القاهرة، وهو الدكتور نصر حامد أبو زيد (10 يوليو 1943 - 5 يوليو 2010)، الذي وجد نفسه وقتها في قلب جدلين؛ رَفُض لجنة علمية شكَّلتها الجامعة ترقيته لدرجة الأستاذية لخلافٍ حول دقة مادته العلمية، ودعوى رفعها محامٍ لتطليقه من زوجته بدعوى ارتداده عن الإسلام في كتاباته.
أما الثاني، فكان الكاتب الصحفي "الإسلامي" محمد جلال كشك (20 سبتمبر 1929 - 5 ديسمبر 1993)، الذي تحامل على نفسه للحضور يومها متكئًا على ابنه خالد الذي تابع الحوار عبر زجاج الغرفة معزولة الصوت من ناحية المنتجة الإذاعية، لإصراره على مواجهة خصمه على الهواء بدلًا من النقاشات الدائرة بينهما على صفحات الجرائد والمجلات.
نعم، تُوفِّي ضيفي على الهواء معي في ذلك اليوم، وأثناء منازلته الفكرية لضيفي الآخر على الهاتف من القاهرة!
اللقاء السابق: الحوار أو خراب الديار
كان محمد جلال كشك، الذي تخرج من كلية التجارة في جامعة القاهرة عام 1952، غزير الكتابة حتى وهو طالب، بلغت كتبه أكثر من خمسين، أولها "مصريون لا طوائف"، وأشهرها "ودخلت الخيل الأزهر" و"ثورة يوليو الأمريكية" و"أخطر من النكسة" و"السعوديون والحل الإسلامي" و"كلمتي للمغفلين"، ومن بينها مسرحية ساخرة واحدة عن مهنة الصحافة هي "منتهى الشرف" صدرت عام 1960.
أما آخر كتبه، فصدر في العام الذي التقينا فيه، بعنوان "الحوار أو خراب الديار" وبدأت به مناقشتي معه في مقابلة تليفزيونية أجريتها قبل شهر من مقابلتنا الإذاعية الأخيرة. لقاؤنا التليفزيوني كان مسجلًا في برنامجي "وجهًا لوجه" بالشبكة العربية الأمريكية نفسها في واشنطن التي كانت لها إذاعة، برامجها على الهواء، بجانب البرامج التليفزيونية المسجلة.
جانب من لقاء محمد جلال كشك وحافظ المرازي عن ثورة يوليو 1952
في المقابلة الأولى تحدثنا عن رأيه بضرورة الحوار بدلًا من الاستقطاب والاستعداء في الثقافة السياسية المصرية السائدة، موضحًا أن الدولة تقمع الإسلاميين وتسجنهم بدلًا من محاورتهم، وحذَّر من مغبَّة الانزلاق في حرب أهلية مثلما كان الوضع وقتها داميًا في الجزائر بعد إقصاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ من الحكم بالقوة العسكرية.
ربما كان الاهتمام الكبير وردود فعل الجاليات العربية في مدن أمريكا الشمالية التي يُبث الإرسال إليها فقط، دافعين للاتصال بضيفي بعد أسبوع من الحلقة التليفزيونية، لأعرض استضافته في برنامجي الإذاعي، على أن يكون مباشرًا على الهواء، ونسمح للمستمعين في نصفه الثاني بالاتصال وتوجيه أسئلتهم وتعليقاتهم بكل حرية ودون تحفظ سوى على لغة الحوار.
وزاد تشجيعي له عندما أخبرته أنني استضفت في برنامجي ذاك من قبل عبر الهاتف من نيويورك، الشيخ عمر عبد الرحمن (1938-2017)، قبل سنة من سجنه في أمريكا لإدانته بالتورط في تفجيرات مركز التجارة العالمي الأولى عام 1993، وناقشه معي وقتها ضيف في الاستوديو الكاتب الصحفي بمجلة المصور محمد وهبي.
لكنَّ صوت الأستاذ جلال في دعوتي له ليكون ضيفي الإذاعي بدا منهكًا، خلافًا لحيويته التي ظهرت طوال لقائنا التليفزيوني الأول، وأبلغني استعداده، بالرغم من مشاكل صحية لم يفصح عنها، للحضور ولو متكئًا على ابنه، لو كان هناك جديد لم نناقشه في الحلقة السابقة! وهنا اقترح الموضوع الذي لم يناقشه معي في التليفزيون واشترط ليكون الحوار مفيدًا ومحفزًا له للمشاركة أن يكون طرفًا في مناظرة على الهواء مع نصر حامد أبو زيد.
قلت لضيفي في البداية: وكيف لي أن أصل إلى أبو زيد في القاهرة لإقناعه بالمشاركة معك؟! هنا تكفَّل بإرسال رقم هاتف جريدة الأهالي، التي كان يكتب بها أبو زيد آنذاك، إن لم أجده مطبوعًا على أي عدد سابق، مؤكدًا أنني لو اتصلت بهم سيبلغونه الرسالة وسيقبل المناظرة "حين تبلغه باسمي"!
وبالفعل، صدق حدسه أو رهانه معي، فأجابني أبو زيد بمكالمة من القاهرة في اليوم التالي لتأكيد موعدنا "غدًا الأحد في الثامنة مساءً بتوقيت القاهرة" أي الواحدة ظهرًا بتوقيت واشنطن، ولا مانع عنده من مناظرة ضيفي في الاستوديو، محمد جلال كشك.
"حصاد الأسبوع" والنزال الأخير
أحضَرَت ليموزين القناة ضيفي وابنه قبل نصف ساعة من برنامجنا على الهواء، وبدا لي الأستاذ جلال شاحبًا وأكثر إعياءً وأقلَّ حيويةً بسنوات، مقارنة بحيوية صوته قبل أسبوع. لكنَّه كان بشوشًا ومبتسمًا كعادته، وسعيدًا بأنني سمعت كلامه وصدقت توقعاته بإمكانية ترتيب تلك المناظرة في ثلاثة أيام، بعد اعتقادي بأنه كان يتذرع ويشترط حضور ضيفٍ ليس من المرجح أن يوافق على تلك المواجهة!
بينما واصل الدكتور أبو زيد تساؤلاته للأستاذ جلال بدأ ضيفي في الاستوديو يشير بيديه بأنه يريد التنفس
بدأت الجولة الأولى بتقديم الضيفين للجمهور وتوضيح القضية المرفوعة ضد ضيفنا في القاهرة لتطليق زوجته منه، واستغربت موجهًا كلامي لضيفي في الاستوديو، كيف وصل الأمر بالإسلاميين إلى هذا الحد في الخصومة السياسية والفكرية؟
أجاب جلال كشك أن المسألة تتعلق "بالتلفيق وليس بالتطليق"، وشبّه ما يحدث مع نصر أبو زيد بـ"الخناقة المفتعلة"، مثل "نشال أوتوبيس أو متحرش براكبة ضبطوه فضرب راكبًا آخر بالقلم ليغيِّر سبب الخناقة"، موضحًا أنه كان ضد قضية التطليق، لكنها أثيرت لغرض التشويش والتغطية على قضية التلفيق التي ضُبط بها أبو زيد منذ العام الماضي في كتاباته التي تقدم بها للترقي لدرجة الأستاذية.
وأوضح تلك النقطة المتعلقة بجهل أستاذ يستحق الفصل وليس الترقية بقوله "الدكتور أبو زيد تقدم للترقية لدرجة أستاذ بكتابين وعدة أبحاث.. من هذين الكتابين كتاب صغير عن الإمام الشافعي ودوره في إثبات الوسطية.. وهذا الكتاب قائم على فكرة أن الإمام الشافعي متعصب للعروبة وللقرشيين، وقال: إن أهم ما يؤكد تعصب الشافعي للعروبة أنه تعاون مع الأمويين وألحَّ حتى عينه الأمويون واليًا على نجران.. عرض الكتاب على لجنة الترقية.. البعض وافق والبعض اعترض على ترقيته، عُرض الأمر على مجلس الجامعة.. وهناك أستاذ مثقف رفع صباعه، وقال: يا جماعة الإمام الشافعي اتولد بعد 18 سنة من زوال الدولة الأموية. أنا لم أصدق، فاشتريت الكتاب.. ووجدت أن الدكتور قال فعلًا بتعامل الإمام الشافعي مع الأمويين في الصفحة 16، وأنهم عينوه واليًا على نجران.. واستدل بنص زوَّره على أبو زهرة، على تعصب الشافعي للقرشيين".
وأضاف جلال كشك مستغربًا "إذا كان الإمام الشافعي ولد بعد انتهاء الدولة الأموية بأكثر من 18 عامًا.. هل تقبل الجامعات الأمريكية أن تمنح طالبًا شهادة جامعية إذا قدم بحثًا يثبت فيه تعاون جورج واشنطن مثلًا مع الاستعمار الفرنسي، بالعلاقات التي كانت تربط واشنطن بنابليون؟!* هل يمكن منحه أي درجات علمية؟!".
طلبت من الدكتور أبو زيد الرد، فقال "الأستاذ جلال عاد إلى ترديد اسطوانته المشروخة، وهو ينتهز مجرد خطأ مطبعي بين الأمويين والعلويين. ولو كان الدكتور عبد الصبور شاهين اكتشف وجود مثل هذا الخطأ المزعوم لأقام الدنيا ولم يقعدها.. وأنا أعترض على استخدام لغة الحوار التي يستخدمها الأستاذ جلال.. واستخدام عبارات مثل الجهل والتزوير…".
هنا قاطعه جلال كشك قائلًا بحدة عن أبو زيد "يقول إن ده خطأ مطبعي، أدى إلى الخلط بين الأمويين والعلويين! بينما العلويون لم تكن لهم دولة في ذلك الوقت، هذا الرجل لا يعرف ماذا يقول.. وأنا لما أقول إنه مزور فأنا أقول حقيقة". فيرد أبو زيد بأنَّ جلال كشك لا يقبل الحرية في الرأي بالرغم من تحوله فكريًا من ماركسي في الخمسينيات إلى إسلامي، ولم يعترض أحد على تحولاته..
ويضيف أبو زيد "المشكلة التي يحاولون التغطية عليها هو كتابي نقد الخطاب الديني.. أنا تقدمت بكتابين وثلاثة عشر بحثًا للترقية.. فلماذا كتاب الشافعي.. لنترك كتاب الشافعي علشان خاطر عيون الدكتور عبد الصبور شاهين وجلال كشك، ماذا عن أبحاثي الأخرى؟ ألا تؤهلني هذه الأبحاث للترقية لدرجة أستاذ، كما ترقى عشرات الأساتذة غيري؟! أنا حفرض جدلًا أنَّ كتاب الشافعي فيه خطأ، ألا تكفي أبحاثي الأخرى للترقية.. هذه هي القضية التي يحاولون التغطية عليها بإثارة موضوع كتاب الشافعي.. أنا مسلم وأُحسِن إسلامي أكثر من الأستاذ جلال نفسه، ولو كنت مرتدًا لأعلنت ارتدادي.. الحوار له لغة.. وليس من لغته فرش الملاية.. وهو أسلوب لن أجاري فيه الأستاذ جلال".
رد جلال كشك بأنه أحد أول من كتب ضد "حكم الردة" وأنه حكم لا يمت للإسلام، وأضاف أنَّ العلمانيين هم الذين يحتمون بالحكومة ويثيرون تلك الخلافات بينما يزعمون أن حرياتهم مهددة، وتساءل "من الذي يطالب بالحرية: العلمانيون أم الإسلاميون؟ أين اتصلت بأبو زيد؟ في منزله أو في السجن؟ الإسلاميون هم الذين الآن في السجن. لجنة حقوق الإنسان تذهب لمن في السجن؟ للعلمانيين ولا للإسلاميين؟ لماذا لا يمارس العلمانيون التنوير إلا وهم يجلسون على حجر الحكومة؟".
هنا قاطعه أبو زيد قائلًا "من منا قاعد على حجر الحكومة الآن يا جلال؟ أنا أكتب مقالاتي في صحيفة الأهالي المعارضة أما أنت فتكتب مقالاتك في مجلة أكتوبر الحكومية! من منا على حجر الحكومة؟!".
نهاية مأساوية لمناظرة فكرية
بينما واصل الدكتور أبو زيد تساؤلاته للأستاذ جلال، بدأ ضيفي في الاستوديو يشير بيديه بأنه يريد التنفس.
أشرت إلى الزميلة منتجة الاستوديو لتقطع الميكروفون عن استوديو الهواء وتترك الضيف على الهاتف يواصل حديثه حتى أتبين ما يحدث أمامي، وأشرت إلى ابنه خالد عبر زجاج الاستوديو بالدخول، فساعدنا على إنزال أبيه من فوق الكرسي إلى أرضية الاستوديو، ونحن نخفف عنه فتحة قميصه ونحاول تحريك الهواء.
لكنه لم يكن يرد علينا فسارعت المنتجة بالاتصال بالإسعاف، وطلبت منها العودة لإعطائي الميكروفون، وباب الاستوديو مفتوح يتمدد عبره جسد ضيفي ومعه ابنه. وهنا اعتذرت للضيف الآخر مقاطعًا حديثه، واعتذرت للمستمعين أنني مضطر لإنهاء الحلقة دون تكملة قبل موعدها "إذ يبدو أنَّ ضيفي في الاستوديو أستاذ محمد جلال كشك قد أصيب بنوبة قلبية ونحن في انتظار الإسعاف لنجدته.."، وأنهيت الحلقة متمنيًا أن ضيفي "الذي جاء للتأكيد على عنوان كتابه الأخير 'الحوار أو خراب الديار'، لم يؤد حواره مع ضيفي في القاهرة الدكتور نصر أبو زيد إلى خراب الديار!".
لم أكد أنتهِ من كلماتي، حتى سمعت أصوات سيارات الإسعاف أسفل مبنى المحطة الإذاعية. ولم تمر دقائق، حتى كانوا نقلوه وهم يحاولون استرجاع تنفسه دون جدوى!
وانخرطت مع ابنه خالد وعائلته وأصدقائنا في اليومين التاليين في ترتيبات نقل الجثمان إلى القاهرة ليُدفن فيها حسب وصيته!
أما مقاله الأخير الذي اكتشفته بعد وفاته بعنوان "أنعي إليكم نفسي"، وكيف أعدَّتني هذه التجربة المريرة ومعرفة الإجراءات لتجربة شخصية مررت بها بعد أشهر في نقل جثمان والدتي إلى مصر، فله حديث آخر في مذكراتي.. إن كان في العمر بقية لكتابتها.
* كان عمر نابليون بونابرت ثمانية أعوام عندما أبرم الفرنسيون تحالفهم مع جورج واشنطن في حرب الاستقلال الأمريكية عام 1777.