وضع عصيان 7 أكتوبر المسلح إسرائيل في مأزق عميق، سعت من بعده إلى توريط الجميع في وحله بكلِّ الطرق والأشكال. هذا طبيعيٌّ ومتوقع من دولة تأسست بإرادةٍ استعماريةٍ ولا تزال مستمرة بإرادةٍ وتوافقات دولية وإقليمية، الأمر الذي اتَّضح بفجاجةٍ في الأيام القليلة التي تلت زلزال المقاومة، مُتَّخذًا صورة دعمٍ غير مشروط وحجٍّ دبلوماسيٍّ وعسكريٍّ أتى تحت غطاء نيران إعلامية شديدة الكثافة.
7 أكتوبر هزيمة استثنائية لإسرائيل لدرجة لم يُدرك الجميع أبعادها حتى الآن، وما ممارسات الإبادة التي تلتها إلا شكل من أشكال الهياج النَزِق، لمهزوم يرفض تقبُّل هزيمته التي لا يمكن إزالة آثارها في المدى القريب.
تطمح إسرائيل إلى تحويل هزيمتها لنصرٍ، هذه العقيدة الإسرائيلية في التعامل مع الهزائم، فإسرائيل لا تحتمل هزيمة واحدة، لأن الهزيمة الأولى تعني بداية النهاية.
في حرب أكتوبر 1973، تمثَّلت الهزيمة الإسرائيلية في قدرة الجيش المصري على عبور قناة السويس بخمس فرق عسكرية، وكسر التفوق الجوِّي الإسرائيلي، وتحقيق انتصارات حاسمة في حرب مدرعات مفتوحة أيام 8 و9 أكتوبر.
ولم ترضَ إسرائيل والولايات المتحدة بوقف إطلاق النار على الجبهتين المصرية والسورية إلا بعد انتصارات عسكرية أفسدت منطق خطة المآذن العالية المصرية، بالتمترس والتوقف التعبوي بعد العبور إلى الضفة الأخرى في سيناء، لخلق أساسٍ ميدانيٍّ لحالة استنزاف يمكن البناء عليها لتحقيق نصرٍ عسكريٍّ لاحق أكثر حسمًا. ومع ذلك تظلُّ أكتوبر 1973 هزيمة وفقًا للمنطق الإسرائيلي نفسه.
إشكالية إسرائيل الأكبر في اللحظة الحالية أنَّ هزيمة السابع من أكتوبر كبيرة جدًا، وعليه فالمطلوب تحقيق نصر يفوق في أثره ونتائجه تلك الهزيمة، ويزيل آثارها.
أشواك كثيرة في خاصرة عجوز
إسرائيل دولة مأزومة، في هذا الصدد هي ليست استثناءً معاصرًا. لكنَّ أزمتها مضاعفة لأنَّ نحو نصف سكانها فلسطينيون، ثلثاهم يخضعون لاحتلال سلطتها العسكرية، وثلث هؤلاء أسرى داخل سجن بشري مفتوح ومحاصر اسمه قطاع غزة. أما سكانها من اليهود، فمنقسمون على أنفسهم بحدة في صراع لم تشهده دولة إسرائيل منذ تأسيسها.
منذ شهور قليلة، كان الصراع محتدمًا في الشارع الإسرائيلي بشأن مستقبل الدولة والأُطر القانونية التي تحكمها، إلى حدود الدهس المتبادل بالسيارات بين أنصار تيارات الصهيونية الدينية ومعارضيهم من الصهاينة الليبراليين. وفي سياق ذلك الصراع اليهودي - اليهودي، تأثَّرت أجهزة الدولة الأمنية والسيادية بما سهَّل على الفلسطينيين إنجاح الاختراق الكبير في السابع من أكتوبر.
ولكن ما أهمله الصراع اليهودي - اليهودي داخل إسرائيل هو الوجود الفلسطيني الخاضع لسلطة احتلالهم عبر الحصار في غزة، أو في قبضة شرطة السلطة الفلسطينية العميلة في الضفة، أو داخل إسرائيل بالنسبة لفلسطينيي 48. هؤلاء جميعًا لم يكونوا في حسابات الأزمة الإسرائيلية باعتبارهم كمًّا مُهملًا أو هدفًا للهجوم القادم، فإذ بالطرف الغزاوي يقلب الطاولة على الجميع.
غزة جزء مهمل من سلطة الاحتلال الإسرائيلي، حيِّزٌ جغرافيٌّ خاضع لسيادة إسرائيلية منقوصة بقرار فك الارتباط الأحادي عام 2005، لأنه حين فشلت إسرائيل في إخضاعه وفقًا لصيغة الحكم الذاتي العميل في الضفة، قررت التعامل معه كمعسكر اعتقال جماعيٍّ، وإمداده بالماء والكهرباء والطاقة والاتصالات بمقادير محسوبة.
وغزة وهي تقرر التمرد على ذلك الوضع الشاذ، نفذت هذا بأشدِّ الطرق قسوة وجسارة، لدرجة سبَّبت لإسرائيل إصابةً لا شفاء منها. لقد أدمى الإقليم الأفقر والأكثر تخلفًا جسد الدولة وجيشها وأمنها، بعنفٍ أهليٍّ ومنظم شرس وكاسح.
المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة حالة تنظيمية من داخل النسيج الفلسطيني وحواضنه الاجتماعية، لا تُعبِّر عن إرادة أو رغبة منفصلة عنه. حالة تنهل من مزيجٍ يختلط فيه الوعد بالاستقلال بالتحرر الوطني بالنقمة الاجتماعية بالحماسة الدينية بالافتتان بالسلاح بالأخذ بالثأرات، وما أكثرها.
الحرب هربًا من الأسئلة
منذ السابع من أكتوبر لا تزال إسرائيل في حالة انتقام أعمى، ولا يبدو أن مخططًا واضحًا يحكم تصورات قادتها، بل ربما الإشكالية عدم وجود مخططٍ فعليٍّ قابلٍ للتنفيذ، مهما كان شريرًا، سوى استعراض القدرة على إبادة السكان وارتهان الفلسطينيين وإعمال القتل فيهم، لتنتهي المقتلة بنسب خسائر من الطرفين لا يشعر الفلسطينيون بعدها بالانتصار أو الفخر.
على أرض فلسطين لن تتغير المعادلة لن تنتهي دولة إسرائيل الآن ولن يُنزِل الفلسطينيون بنادقهم مستقبلًا
كسر المقاومة الفلسطينية المسلحة يحتاج وقتًا طويلًا جدًا وخسائر فادحة تتكبدها إسرائيل بالفعل، لذا فإنها تراهن على كسر الفلسطينيين وجوديًا وماديًا ومعنويًا ونفسيًا. إسرائيل تعرف أنَّ ثمن هذه المحاولة كبير على المستوى الدولي، لكنه خيارها الأسهل الذي تمارسه منذ عام 1948.
لذلك فإنَّ حرب العقاب والإبادة الحالية موجَّهة ضد الإرادة السياسية والصمود الشعبي الفلسطيني، أكثر مما تستهدف البنى التحتية للمقاومة الفلسطينية المسلحة، لأنها حرب بلا نتائج جيوسياسية طالما تدور على أرض فلسطين، وعلى أرض فلسطين لن تتغير المعادلة؛ لن تنتهي دولة إسرائيل الآن، ولن يُنزِل الفلسطينيون بنادقهم مستقبلًا.
لكنها أيضًا حرب على مرأى ومسمع الجميع وبحضورهم، وهي كحرب مشهودة، تدفع المشهد الكليَّ للتورط فيها، لأنَّ من لن يبادر بوقف الإبادة سيصبح شريكًا فيها، ولن يمكن التحجج باتباع إسرائيل سياسة الثور الهائج، والتهديد المستمر بإشعال حرب إقليمية وبعث رسائل مختلفة تشير إلى جدية هذا الخيار.
خطورة الطور الحالي من دولة إسرائيل أنها تجبر العالم على التطبع مع تلك الإبادة من موقع العاجز عن وضع حدٍّ لها، وخطورة إسرائيل إقليميًا أنها تسيد ذلك المبدأ بحيث يصبح عنوانًا لقمع كلِّ تمرد سكانيٍّ محتمل على أيِّ سلطة من السلطات. وفي التحليل الأخير، عبَّر بنيامين نتنياهو أكثر من مرة عن أنه يخوض حربًا نيابة عن الأنظمة العربية التي لا تصرح بذلك في العلن.
لكن تظلُّ أهم معضلات إسرائيل هي اليوم التالي للحرب. تدرك إسرائيل جيدًا أنَّ ذلك اليوم سيكون يوم استئناف صراعاتها الأهلية على وقع كل ما حدث في أعقاب السابع من أكتوبر. يدرك قادتها جيدًا أنْ لا حلَّ لتجنب استحقاقات اليوم التالي للحرب سوى الاستمرار فيها. والاستمرار في الحرب وفقًا لتلك الصيغة يعني استمرار إبادة الفلسطينيين، واستمرار شبح تمدد الصراع إقليميًا حتى ولو رغب الجميع في تجنبه، فبالنسبة لإسرائيل يظلُّ تماسكها العضويُّ مُقدمًا على كلِّ شيءٍ، مستندة في ذلك على الدعم الغربي المفتوح.
ولكن في النهاية هناك حدٌّ للأمور، لن تستطيع إسرائيل إدارة قطاع غزة، وكلُّ الخطط المتوهمة لإدارته عبر قوات إقليمية أو دولية، هي أشبه بوعود خارجية لتهدئة الثور الإسرائيلي الهائج، لأنها فعليًا مسألة غير ممكنة وسط هذا الخراب الرهيب الذي يشهده القطاع.
هُزمِت إسرائيل، والإشكالية أنها ترفض الاعتراف بالهزيمة، لأنَّ ما تفعله في غزة الآن ليس انتصارًا، بل أحد توابع هزيمتها، أما المقاومة المسلحة فهي شجرة فلسطينية ستظل تنبت، بالرغم من كلِّ ما نشهده الآن من فظاعات.