تبْني وسائل الإعلام والسوشيال ميديا نسخًا افتراضيةً من الواقع، قد تشبهه وتقترب منه، وغالبًا ما تختلف عنه تمامًا. وتشغل الانحيازات المسبقة والأهواء وقلة المعرفة تلك المسافات المتخيلة، المفترضة، عن الواقع.
تتذكرون مهرجان "الجونة"، وما كان يُنشر منه وعنه من صور تُستهدف بها الدعاية السياحية والاقتصادية للمنتجع/المدينة، ما صدّر انطباعًا بأن المهرجان عبارة عن سجادة، وفي خيال البعض غرفة حمراء يسير عليها الفنانون عرايا، مع أن السجادة وفنانيها ومساحاتهم العارية لم تكن تشغل أكثر من 10% وربما 5% من فعاليات المهرجان الثقافية المتعددة، من عروض أفلام عالمية، وبرامج دعم للشباب وندوات ومحاضرات.. إلخ.
منذ سنوات نزل إلى دور العرض المصرية فيلم "تجاري" من نوعية أفلام موسم العيد، كان يحمل، على ما أذكر، بعض مشاهد لراقصة شهيرة مُثيرة، أثارت غضب بعض الناس، وانقلبت السوشيال ميديا ووسائل الإعلام، ومقر البرلمان، وسلالم المحامين، على السينما المصرية يتهمونها، كالعادة، ومنذ ظهرت، بتخريب الأخلاق والعقول.
استضافني مذيع صاحب شعبية وتأثير للحديث عما أصاب السينما المصرية من انهيار، متخذًا من الفيلم المذكور مثالًا. كانت الفرضية جاهزة: أن السينما المصرية انهارت، وأن هذا الفيلم يمثل انهيارها. وبدلًا من أن أجيب على المذيع سألته عما إذا كان سمع عن فيلم مصري آخر يُعرض في إحدى القاعات الصغيرة وقتها، فأجاب أنه لم يسمع به. فأردفت ما إذا كان يعرف أن ذلك الفيلم شارك في عشرات المهرجانات الدولية وحصد عشرات الجوائز وتم توزيعه في أوروبا وبلاد أخرى، فأبدى دهشته الكبيرة.
قلت: هل تعرف ما الذي أصيب بالانهيار، وما الذي يتسبب في ذلك الانهيار؟ إنه الإعلام والسوشيال ميديا التي تشن حملة على فيلم تافه، فترفع من قيمته وشعبيته، وتقدم له دعاية مجانية، بينما تجهل أو تتجاهل الأفلام الجيدة التي يُفترض أن نحيّيها ونقوم بالدعاية لها. ولو أن القنوات التي تُهاجم الفيلم التافه خصصت ذلك الوقت للجيد، الذي يعرض وحيدًا بائسًا لا يعلم بوجوده أحد، لساهمت في رفع الذوق العام. أما الكلام فقط عن الأعمال التافهة فهو شيء يعزز ويضخم هذا "الانهيار".
مدن النحاس
يجري شيء مشابه منذ فترة تجاه ما يقام في السعودية من فعاليات فنية، إذ يهاجم رواد السوشيال ميديا، بمعدل "تريند" كل أسبوع أو اثنين، نجمًا مصريًّا أدلى بتصريح ما، أو مسؤولًا أو مواطنًا سعوديًّا كتب على صفحته عبارة ما، ويوحي كل ذلك بأن "موسم الرياض الغنائي" هو الفعالية الوحيدة التي تقيمها المملكة، بل لا يرون من ذلك الموسم سوى ما يتعلق بالفنانين المصريين: من واتاه الحظ وذهب، ومن رفض، ومن قال ماذا، ومن لم يقل.
ورغم أن حفلات موسم الرياض واقع موجود بالفعل على الأرض، ورغم أن بعض التصريحات من هنا أو هناك يمكن أن تكون مستفزة للبعض، لكن تلك الحفلات وذلك الموسم ليسا سوى جزء صغير للغاية من حقيقة ما يحدث في المملكة، التي ظلت لما يقرب من أربعين سنة أشبه بجزيرة منعزلة عن العالم، مثل حكاية مدينة النحاس في "ألف ليلة وليلة"، لكنها تخرج من القمقم اليوم كالجني في حكاية علاء الدين والمصباح.
سأكتفي فيما يلي بالحديث عن الشيء الذي أعرف من "التجربة السعودية"، وهو السينما. وقد قيضت لي الظروف أن أتابع مسيرة السينما في السعودية منذ بداية الألفية، بالتحديد منذ 2006، عندما حضرت مهرجان معهد العالم العربي، الذي كان يعقد كل عامين في باريس.
شهدت تلك الدورة عرض فيلمين سعوديين؛ أحدهما روائي طويل هو ظلال الصمت للمخرج عبد الله المحيسن، الذي يعدّه الكثيرون أول فيلم روائي سعودي، وفيلم تسجيلي قصير لفتاة شابة اسمها هيفاء المنصور، سيقدر لها أن تصنع بعد سنوات أفلامًا تُعرض في أكبر المهرجانات الدولية وتُرشح للأوسكار.
هذه السنوات الأولى من الألفية الجديدة شهدت مستجدات حاسمة؛ انتشار أجهزة الكمبيوتر ودخول الإنترنت، وتوفر الكاميرات الرقمية الصغيرة، ثم الهاتف المحمول المزود بالكاميرا.
شهدت تلك الفترة أيضًا إطلاق أربعة مهرجانات سينمائية متتالية في دولة الإمارات؛ مسابقة أفلام من الإمارات، التي توسعت بضم أفلام من الدول الخليجية المجاورة، ومهرجان دبي السينمائي الدولي، ومهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون، ومهرجان أبو ظبي الدولي. هذه المهرجانات شهدت عرض عدد كبير من الأفلام السعودية والخليجية الأخرى، منبئة ببدايات نهضة سينمائية للمرة الأولى في تلك المنطقة من العالم.
ورغم أن المهرجانات الأربعة توقفت فيما بعد، لكنها ساهمت بدور هائل في تأسيس وتشكيل السينما الخليجية، وربطت صناع الأفلام ونقادها ومحبيها في تلك البلاد بنظرائهم في بقية البلاد العربية. كما أن الشرارة التي أطلقتها انتقلت إلى مدن إماراتية وخليجية أخرى، ولا يوجد بلد خليجي الآن يخلو من مهرجان سينمائي أو أكثر.
من زاوية أوسع
تابعت مسيرة بعض هؤلاء الشباب ومحاولاتهم على مدار سنوات. في السعودية تعرض معظمهم لاتهامات وحصار وأحيانًا إلى اعتداءات وسجن. بعضهم أحبط وترك المجال ليتفرغ لمهنة أخرى، وبعضهم استمر. وعندما قررت الدولة أخيرًا أن تفتح الأبواب والنوافذ المغلقة، وأن تنقل البلد إلى آفاق المدنية الحديثة، كان هؤلاء الشباب، وقد أصبحوا رجالًا ونساءً ناضجين، في طليعة المبدعين والمنشطين في مجال السينما.
ربما يتوجه موسم الرياض الغنائي والمسرحي وعروض مصارعة المحترفين إلى جمهور بسيط لا يسعى سوى إلى دغدغة مشاعره بالضحك أو الشجن أو الأكشن، وهذا في حد ذاته مطلب مشروع ولا يعيبه شيء. من حق الناس أن تستمتع وتضحك وتغني وترقص وتهتف. هذا أمر صحي للنفوس والعقول. ورغم أننا نعيد ونزيد بأن الفن الترفيهي التجاري ليس كل شيء، وأن له سلبياته، لكن الأذواق لن تتطور بالهجوم والسخرية والسباب على صفحات السوشيال ميديا، وإنما بإنتاج الأعمال الفنية الأكثر رقيًّا وجدية، والتعريف بها والترويج لها، وإظهار جمالياتها وقيمها الكامنة.
من زاوية أوسع، لا يرى البعض من السينما الأمريكية والهندية سوى أسوأ إنتاجاتهما، كما أن البعض لا يرى من السينما المصرية سوى بيومي فؤاد! وهذا للأسف لا يشكل غير نصف أو ربع الحقيقة، ومن ثم يؤدي إلى الفهم الخاطئ للأمور.
البوليفار، الشارع الكبير في مدينة الرياض المخصص للترفيه عن المواطنين، خاصة العائلات والأطفال، يضم نماذج من أشهر معالم العالم، منها نموذج للأهرامات وأبي الهول يأتي الناس ليمرحوا ويلتقطوا الصور جانبه. لكن بالنسبة لبعض مستخدمي السوشيال ميديا، باتت الأهرامات وأبو الهول تعبيرًا عن الرغبة السعودية في "سرقة" الأثر المصري، وعن عقدة النقص تجاهه.
البوليفار يعج بنماذج من آثار العالم الأخرى، كما أن الميادين الكبرى في كثير من بلاد العالم تعج بالمسلات والآثار المصرية، ومتحف "اللوفر" في باريس يتصدره هرم زجاجي، وأكبر مسرح يقام فيه حفل الأوسكار في هوليوود مشيد على الطريقة الفرعونية، وكل هذا تعبير عن الحب والإعجاب، ولكن الجهل حين يجتمع بنظرية المؤامرة ينتجان تركيبة انتحارية قاتلة!
الجمهور العادي في السعودية، مثلما هو في مصر، يحب النجوم الشعبيين؛ مغني "المهرجانات"، كما يحب أم كلثوم وعبد الوهاب وبليغ حمدي. وفي مجال السينما يحبون محمد رمضان وبيومي فؤاد.
والمثقفون المتعلمون في السعودية، كما هي الحال في مصر، يعشقون أفلام يوسف شاهين ومحمد خان وبقية مبدعي السينما الفنية الجادة. وقد كرم مهرجان البحر الأحمر في دورته الأولى خيري بشارة ورمم كل أفلامه، فيما عدا قشر البندق الذي لم يُعثر على نسخته النيجاتيف وقتها، وهي الآن موجودة وسيجري ترميمها قريبًا. كما أن مهرجان البحر الأحمر هو الذي رمم خلي بالك من زوزو وغرام في الكرنك لصالح مهرجان القاهرة في العام الماضي.
عندما قامت محطتا إيه آر تي، ثم روتانا، بشراء أصول السينما المصرية في تسعينيات القرن الماضي انطلقت حملة هائلة ضدهما بتهمة أنهما تريدان شراء ذلك التراث وحرقه كراهية في الفن ومصر. ورغم أن السعودية وقتها كانت بالفعل تموج بجماعات ومؤسسات متطرفة تحرم السينما، وتسعى لهدم وتحجيب السينما المصرية، فإن ذلك لم يحدث. وبعد مرور سنوات يقول البعض الآن إن أفضل شيء حدث للسينما المصرية هو قيام تلك المحطات بشراء الأفلام والحفاظ عليها من التلف والضياع كما حدث لمعظم الأفلام الأخرى. وذلك مثال آخر على نظرية المؤامرة القاتلة.