لم يعد المنتَج الفني المستفيد من عالم الصوفية، بدرجةٍ أو أخرى، يخطو مترددًا وهو يزاحم بقية الأشكال الراسخة أو سريعة الرواج، بل صارَ خلال السنوات الأخيرة أقرب إلى خط إنتاج متواصل ومنتعش، في الأدب والدراما، ومن قبلهما بالطبع في الموسيقى والغناء. لم يصل الأمر إلى درجة الظاهرة، لكن اللافت وجود جمهور عريض ومتنوّع لهذا الخط الجديد، وخصوصًا بين الشباب، هؤلاء نفسهم الذين ينشرون عبارات الرومي وابن عربي على صفحاتهم الافتراضية، ويشربون قهوتهم في أقداح عليها صور راقصي المولوية.
قبل شهور قليلة، وفي العدد الخامس من مجلة "فنون"، التي تصدر عن الهيئة العامة للكتاب، نشرت تحقيقًا من إعداد صوفيا إسماعيل، حول الفن الصوفي، وهل هو موضة وإدعاء أم بحث عن التطهّر والصفاء الذهني؟ السؤال الذي ظلّ يتردد، بصيغةٍ أو أخرى، من قبل التحقيق ومن بعده، والذي طُرحَ في المجلة على بعض الفنانين والمتخصصين المشتغلين بالمسرح والموسيقى، سواءٌ ممن أسهموا في هذه الموجة أو ممن أدلوا بآرائهم حول (الظاهرة). لم يتوجّه التحقيق للأسف إلى بعض الشباب من عشّاق ومُتلقي هذا النوع، وربما كان أضاف إليه وأثراه.
لا أفترض بالطبع أن هناك نمطًا ثابتًا يجمع كل المولعين بتلك الأعمال، فحتى الفئة العمرية التي نتحدّث عنها واسعة النطاق، كما أنّ مشاربهم وخلفياتهم تتنوّع للغاية، ومن بينهم الطلّاب والعمال وممارسو الفن بطبيعة الحال. نتحدّث عن أعضاء جروبات من نوع "اللا محتجب"، من يحجزون تذاكر في حفلات الإنشاد الديني، وآخرين مهووسين بالتصوّف الشعبي وأجواء الموالد وقد يترددون على بعض الفرق الصوفية إن لم يكونوا قد انضموا إليها بالفعل. لذلك كله، لا بد من الانتباه إلى التنوّع الشديد في صفوفهم، وأيضًا إلى التباين البالغ في الأعمال الفنية المستلهمة من الصوفية، من حيث درجة الأصالة والجودة والقيمة. نتحدّث إذن عن هذا الخط الوهمي الواصل ما بين الشيخ ياسين التهامي ومسلسل "الخواجة عبد القادر" وفرقة الإخوة أبو شعر ورواية (ثم مسرحية) "قواعد العشق الأربعون"، وما شابه ذلك.
في تحقيق مجلة "فنون" تنوّعت الآراء للغاية حول سر إقبال الشباب على ذلك النوع من المنتجات الفنية، وجاء بعضها عمليًا وواضحًا للغاية من نوع تأسيس أوّل نقابة للإنشاد الديني في مصر، ودور أعضائها في نشر هذا النوع، أو وفود بعض الفنانين من سوريا وتركيا إلى مصر. وكان لا بدّ أن تتكرر وسط كل تلك التفسيرات نغمةٌ متوقعة لم تخزلنا قط عند طرح توجّه الشباب إلى دنيا التصوّف أو فنونه على الأقل، وهي نغمة حالة الإحباط والارتباك التي يعيشها الشباب بعد ما آلت إليه ثورة 25 يناير من انكسارات، وبحثهم عن ملاذٍ روحي آمن، وسط الصراعات السياسية المبتذلة والدنيئة.
والحقُّ أنَّ هذه نغمة قديمة، أقدم من 25 يناير ومن أي ثورات أخرى في العصر الحديث، ترى في كل نزوعٍ روحي عميق سبيلًا للهروب، بطريقةٍ ما. حتّى عند بعض الكتّاب الذين استعانوا بالتصوّف وعالمه أكثر من مرة في رواياتهم، نجيب محفوظ مثلًا، فهو عندما يُسأل صراحةً عن رؤيته للتصوّف، في حوار أجرته معه الباريس ريفيو صيف 1992 وترجمه حديثًا أحمد شافعي، نجده يقول :
"أنا أحب الصوفية مثلما أحب الشعر الجميل، ولكنها ليست الإجابة. الصوفية مثل السراب في الصحراء، يناديك، أن تعال، فاجلس، واسترح قليلًا. إنني أرفض أي طريق يرفض الحياة، ولكنني لا أملك إلّا أن أحب الصوفية لجمالها الشديد. إنها لحظة راحة في خضم معركة.. لي أصدقاء مصريون كثيرون يستشيرون شيوخ الصوفية باحثين عن حلول... ربنا يوفقهم، الحل الحقيقي لمشكلاتهم في البنك الأهلي".
ليس من الصعب أن نلمس هذه الرؤية مجسّدة بكل وضوح في بعض أعمال محفوظ، رؤيته للتصوّف كمهرب من جحيم الواقع، مهرب غير عقلاني ولا عملي، لكنه قادر على تصفية النفس بقدر ما تفعل الموسيقى أو الشِعر. يمكن الرجوع مثلًا إلى إحدى قصصه القصيرة، بعنوان حُلم، في مجموعة "خمارة القط الأسود"، وهي صياغة درامية بارعة لهذه الفكرة، وكيف يكون الهرب إلى التصوّف، الإسلامي أو حتّى البوذي، مجرد رد فعل لا إرادي عند جميع الناس كلّما طحنتهم الظروف أو أصبح أمانهم مُهددًا. وبالطبع لا ننسى الشيخ الجُنيدي في "اللص والكلاب" الذي يحدّث سعيد مهران بالألغاز العُلوية بينما سعيد غارق في المظالم والخيانات وطلب الثأر.
لم يكن هذا هو الحال دائمًا، رغم ذلك، لدى محفوظ، فأعمالٌ أخرى له تناقض هذه الرؤية تمامًا، وتؤكد أن طلب الإنسان للمعنى وكدحه في سبيله ينبعان من احتياجٍ أصيل فيه، وليس مجرد مرض برجوازي للمترفين، وفي روايتيه "الشحّاذ" و"الطريق" مثلان ساطعان.
بطبيعة الحال، تستطيع أوراق البنكنوت أن تحل مشاكل لا أوّل لها ولا آخر، ولعلّ هذا أوضح ما يكون في مجتمعاتنا التي تعاني درجاتٍ غير معقولة من الفقر والتخلّف والحرمان العام والشخصي، ولكن هل معنى هذا أن أبناء هذه المجتمعات لا يحق لهم التطلّع لما وراء الاحتياجات الأساسية، وهل معناه أيضًا أن كل مسعى روحي من جانبهم ليس إلّا عملية تعويض نفسي مكشوفة، مجرد إعادة توجيه لطاقة الحياة المقيدة بأغلال العوز والقهر؟ أليست هذه رؤية ميكانيكية للغاية تفرطُ في تبسيط علاقة الإنسان بالدين والحياة الروحية عمومًا، ربما بتأثيرٍ من بقايا نزعة مادية فجّة بحاجةٍ ماسة إلى مراجعة وتجديد؟
إذا كان من المفهوم أن أزمنة الاضطراب والانكسار تدفع الناس عمومًا إلى الاحتماء بجدران الدين، بحثًا عن كيانٍ أكبر، ذي طبيعة مطلقة وقاطعة، حتّى يستعيدوا شعورهم بالأمان والمعنى، فإن هذا لا يفسّر كثيرًا خيار التصوّف بالتحديد، إلّا إذا أضفنا إلى المعادلة عوامل أخرى، ربما يكون من بينها الوجه المشوّه الذي تتخذه الأديان السماوية في صراعها على السماء وعلى التكلم بلسان الله، الصراع الذي يصل كثيرًا إلى سفك الدماء. في المقابل يتسع رحاب التصوّف لجميع الأديان بسماحةٍ وأريحية ويبحث عما يجمع ولا يفرّق، ويفتح بابًا للمحبة في مقابل أبواب الكراهية والجدال والعنف.
إذا بالغنا قليلًا لقلنا إنّ مستهلكي الفن الصوفي هؤلاء متعطشون لدينٍ جديد، وأن تعطشّهم هذا ليس مجرد فعل عصبي وعابر على انهيار حُلم ووطأة كابوس الواقع اليومي، بقدر ما هو تعبير عن احتياج أصيل وعميق لدى كل إنسان في كل زمن ومكان، احتياجٍ يزدادُ ضراوة في أوقات الأزمة ولم تعد المؤسسات الدينية التقليدية تلبيه أو تخاطبه من الأساس.
الدين الجديد لا يحتاج إلى مسجد ولا كنيسة، بل يشعُ ساطعًا بين يدي الفن، في قطعة موسيقية أو أبيات شعر أو عمل درامي أو رواية، يتجاوز ثنائية الحلال والحرام والخطأ والصواب، وفي المقابل يقبل كل شيء وكل إنسان انطلاقًا من المحبة في الأساس.
ومع ذلك، فقد يتحوّل هذا السعي إلى مجرد وسيلة للتميّز على الآخرين، على الناس العاديين ممن ما زالوا يعبدون ربهم بالطريقة المعهودة في المساجد والكنائس، يصبحُ مجرد حِلية يتزيّن بها البعض مثل مسبحة خشبية الحبات تفوح بالعبير أو سجادة اليوجا مركونة في الغرفة أو الحرص على زيارة الأضرحة والتقاط صور السيلفي في مولد السيدة والعدرا. شارات التميز يمكنها أن تسيء استغلال كل شيء، حتّى التصوّف وكلمات المحبة، ومع رواج الفن الصوفي ينتشر دراويش السوشيال ميديا، بتصوّفهم منزوع الدسم وعديم التجربة والأصالة الفكرية.
ومع ذلك، فمن الجائز أيضًا أن يتحوّل هذا النزوع عند البعض الآخر إلى انشغالٍ حقيقي ومسعى عميق، يشكّل نفسه بنفسه في أسئلة وقراءات وجدل، والأهم منها كلها في خبرة شخصية مباشرة، التي دونها يبقى كل هذا مجرد كلام حُلو عن الحب دون فعل حُب، بسخونته وصدقه. قد يصيرُ هذا الوَلعُ المبدئي إلى حركةٍ في الواقع، حركة تجمع ولا تفرّق، حركة تتجاوز الاستهلاك السطحي للخطاب الديني نحو إنتاج فردي وشديد الخصوصية، بالفن أو بسواه، لطرحٍ جديد، قد لا يكترث عندئذٍ أن يسمّي نفسه فنًا أو دِينًا أو علمًا، فلن يكون للأسماء عند ذلك أي أهمية ما دام المُسمّى واضحًا وجميلًا.