نسيت أن أكتب هذه الجمل في بداية مقالي الأول، فعذرًا: ما أكتبه هو في الأصل خطأ يحتمل أن يصادف صوابًا داخلك، وما أخطه هو لكي يُقرأ فلا يخلو بالتأكيد من ادعاء، وما أنا إلا أعمى يتتبع ظلال الضياء، عسى ألا يكون وهمًا.
كل إنسان يرى الله بمرآة ذاته، فالرحيم يرى الله رحيمًا، والغضوب يرى الله غضوبًا، والحسي يرى الله حسيًا.
أهدى الله لنا صفاته، كي نراه بمرايا ذواتنا، وغلَّب الرحمة والمغفرة، كي نصقل تلك المرايا بالرحمة والمغفرة، كي نُغلِّب الرحمة والمغفرة داخلنا على ما سواهما، لأنه عز وجل. "وربك الغفور ذو الرحمة للو يُؤَاخذهم بما كسبوا لَعَجَّلَ لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه مَوئلًا" (الكهف 58).
وهنا الدرس المهم؛ أن صبر الله يسير مع مغفرته ورحمته، لأن البشر متغيرين، ومن يكفر اليوم يمكن أن يؤمن غدًا، ومن يؤمن اليوم يمكن أن يكفر غدًا.
وأن مع المغفرة والرحمة التي نتعلمها، لابد أن نتعلم الصبر؛ الصبر على الآخرين والصبر على أنفسنا، فكل شيء متغير ولا شيء ثابت، وأن كي نؤكد الرحمة لابد من تثبيتها بالصبر.
فالصبر هو المحك الحقيقي لكل ما ندعيه، من رحمة أو مغفرة أو تحمل أو غيره. أن نتعلمه، فالصبر من الفضائل التي تأتي بالتعلم والممارسة، فالرحمة موجودة بداخلنا ننكرها أو نظهرها، لكنها موجودة لدى أغلب البشر. لكن الصبر هو فضيلة يفتقدها أغلب البشر، خاصة الذكور منهم.
في المقال السابق، قلت إن المغفرة والرحمة ليسا من داخلنا إلى خارجنا، بل منا إلينا، وما البشر الذين نرحمهم أو نغفر لهم إلا انعكاس لذواتنا، فمغفرتنا ورحمتنا لهم، ليست تفضلًا عليهم، بل شفقة بنا نحن.
نحن مرايا متحركة لبعض، ننعكس في أعين وأرواح بعض، عندما نغضب يكون الغضب منا، وعندما نحزن يكون الحزن علينا، وما الآخر إلا سببًا وليس الحقيقة.
نهرب من أنفسنا دائمًا، ولا نفهم لِمَ لا نستقر؟ لِمَ الحزن الدائم، والغضب الذي لا يتوقف، وينفجر بلا داعٍ، لِمَ الغليان الذي لا يتوقف، ولِمَ الخوف الذي لا نستطيع ترجمته؟
لِمَ كل ذلك؟
لم أنشر كلمة منذ عامين، وقبلهما سنوات نشرت فيها بشكل متفرق، تلك الفترة فقدت فيها تماما قدرتي على التعبير، لا لعدم مقدرة، بل لعدم تصديق.
أعوامٌ كثيرة مضت، كنت أمارس فيها فعل النشر بشبق، أحاول الإعلان عن أفكار تتلاعب في مخيلتي، أحلام تتراقص على لهيب تزيده الأحداث اشتعالًا، كنت أحاول كثيرًا، لم أيأس أبدًا من المحاولة، ولم أتوقف عن الأحلام.
مضت عليَّ أعوامٌ كثيرة، حاربت فيها الانكسار، تشبثت بكل ذرة صلبة داخلي، بكل أفكاري عن الذكورة والرجولة، غير القابلة للكسر أو التحطُّم، لم يكن الأمل بالنسبة لي سوى الوقود، الذي استهلكته بضراوة.
رفض الانكسار كان بالنسبة لي عقيدة، إيمان، تعريفي الشخصي لذاتي، ومصدر فخري الأساسي، والأهم.
لم أهتم أبدًا بالنجاح أو الفشل، أحب النجاح بالطب، لكن الأهم من الاثنين بالنسبة لي دائمًا، ألا أهزم، حتى وإن نُكِست كل الأعلام، وأعلن كل البشر الهزيمة، فأنا وبكل اعتزاز لا أنكسر، خوفي من الانكسار كخوف باقي البشر من الموت، والمرض والفقر، ذلك المثلث الذي لم يعنِني في يوم من الأيام ولم أهتم بها، تعرضت للموت كثيرًا وسخرت منه، مرضت، وشفيت، لم أجد قوت يومي مرات عديدة، وضحكت في وجههم كثيرًا، وهزأت منهم.
أقنعت نفسي كثيرًا أني في احتياج لتلك اللحظة التي حدثوني وقرأت عنها كثيرًا، تلك اللحظة التي تنقشع فيها أمام عيني حقيقة العالم، وتنزاح عن كاهلي أوزاره. عشت الوهم كثيرًا إلى أن أدركت بكل بساطة، أن قبل أن نفهم، لا بد أن نقبل بشيء بسيط، يسمى الانكسار.
أن تستسلم تمامًا أمام تلك اللحظة، تتخلى عن قوتك الحقيقية والمُدَّعاة، حوائط دفاعك اللا متناهية، أن تعترف ببساطة أنك ضعيف. وتقبل الهزيمة حقًا، لا بادعاء، فحتى الهزيمة هناك ادعاء فيها، منا نحن، قبل الآخرين، نحن من ندَّعي دائمًا، لا لأننا أي شيء، سوى أننا ضعفاء غير قادرين على تصديق ضعفهم. أدركت أني لا شيء، وأني مهما بَلَغت درجة قوتي، ومهما بلغ إصراري، وعزمي، فهو هواء.
أنا الذي لم أقبل يوما ضعفي، خبأته في بئر عميق، في دهاليز لا وعيي، ونسيت الطريق إليه، ومارست كل طرق التضليل، كي لا أتذكره، ولا أستدّل عليه.
كنت أمارس عمدًا فعل محو الذاكرة، كي لا أتذكر. لا يهم الفعل الذي أوصلني لتلك اللحظة، وليس المسبِّب للانكسار بمهم، ولا الأسباب، لا القشة ولا البعير. فعند تلك اللحظة أدركت أن لا شيء أو شخص، قشة أو بعير هو من أوصلني، فأنا الفاعل وأنا كل شيء، كل المسببات. لا يوجد أحد ألقي عليه اللوم، ولا ظلم، احتياج، فقد تشابهت كل الأشياء، وسقطت كل الأشياء، وكنت أنا فقط.
قديمًا كنت أضحك كثيرًا عند قراءة مثل تلك الكلمات، وكنت أسخر من قائليها، قليل من قائليها كانوا صادقين، قليل منهم مروا بها حقًا، لا قرأوها في كتاب، أو استمعوا لها في حديث لأحد ممن يدعون بالملهِمين أو عندما يرتقون يصبحون معلمين.
لا يوجد معلِّم ولا ملهِم، هم مجرد أشكال أخرى للسُلطة، كالشيوخ والرهبان والساسة والجنود.
ندرك في هذه اللحظة تلك الحقيقة البسيطة" هي أننا نحن ضعفاء. "ويريد الله أن يخفف عنكم, وخُلق الإنسان ضعيفا" النساء28، هنا ندرِك الرحمة. هنا ما أقصده برؤية ضعف رفاقنا، الذي هو انعكاس لضعفنا، وهنا ندرك رحمة الضعف الذي تتشارك فيه كل البشر، غنيهم وفقيرهم أشدهم عتيًا وأرقهم حالًا، القذر فيهم والمتطهِّر..
يعلم الله خائنة الأعين وماتخفي الصدور (صدور لا تعني المكان الذي بداخله الرئتين والعضلة القلبية، بل تعني صدر الرأس، أي الجبهة) فالله يعلم ما نفكر فيه، بمجرد التفكير فيه، يعلم بنِيتنا النفسية والعقلية، وبني الإنسان وإن كانوا شديدي الاختلاف والتميز، لكن هناك طيف واسع من المشترك بينهم، وهو رؤيتهم لذواتهم..
سنجد من يرون أنفسهم أقوياء، ومن يرونها رحماء، ومن يرون أنهم جبارين، ومنتقمين الخ. إن قسَّمنا البشر على صفات الله، ستجد أن تلك القسمة في غالبها تصح. فالله تعالى، أورد صفاته في آيات تنزيله الحكيم لأسباب كثيرة، أعتقد أن سبب منها، أن يتواصل مع كل صفة (اسم) أصحابها. لكن البشر، أو في هذه الفترة من الوجود البشري على الأرض، علت قيم القوة، والانتقام، والمادة، علت القيم الحسية.. على الرغم من أن صفات الله المرتبطة بالقوة والانتقام والعقاب هي أقل الصفات ذكرًا في التنزيل الحكيم أكثر الصفات ذكرًا هي الرحمة، والمغفرة، وهي ما أراد سبحانه أن نتشبّه بها. كررها كثيرًا، كي نرى ذلك ونتشبث به، وندرك أن تلك الصفة كلما اقتربنا منها كلما رضينا، وكلما ابتعدنا عنها، كلما سخطنا وغضبنا ودمرنا، و كلما ذكَّرنا الله بها من حولنا.
"وقل الحمدلله سيريكم آياته فتعرفونها، وما ربك بغافل عما تعملون" (93 النمل). وهو ما يحدث، وسيستمر حدوثه، وإن تغيرت الأسماء، والظروف. كلما ابتعدنا أُبعِدنا، وكلما اقتربنا قُربنا.
لا أدري أشرًا أريد بنا، أم أريد بنا خيرًا، أميل إلى الإيمان بأن ما يحدث هو خير لنا، على الرغم من الغلاف القاسي والمميت الذي يحيطه، لكن سواء خير أو شر، فهو درس لا بد لنا جميعًا من تعلمه، وكما كل الدروس التي تُحفر في وجداننا، لا بد أن تكون قاسية، كي نتذكرها، ونتعلم منها.
الضعف هو ما يحركنا، هو ما نرفضه بداخلنا. نبني قصورًا، نشيد حصونًا، نحصن جيوشًا، ونستعد لحروب، نخلقها خلقًا، كي نهرب من اعترافنا بضعفنا لأنفسنا. لكن إن كان هناك شيء يجب تعلمه من مأساتنا الحالية، فهو أن نقر بأننا ضِعاف جدًا، بأقوى الجيوش، وأعتى الأسلحة، نحن ضِعاف. أو كما قالت الفنانة سناء جميل رحمها الله"إحنا غلابة أوي يا سيد".