من الحكايات الغريبة في حياتي، لقائي بذلك الشحاذ الذي وقف على باب الجاليري الذي أعمل به ذات صباح صيفي منذ عشرين سنة تقريبًا. لم يكن شحاذًا بالمعنى المتعارف عليه، كان رمزيًا، مثل شحاذ نجيب محفوظ يمكن تحميله بدلالات وطاقة أكبر من العادي.
وقتها، ولا زلت ربما، لم أحسم موقفي من تلك المدارات اللامرئية التي ترسم أقدارنا. كان ذلك الشحاذ البسيط يسكن مدارا منها، ويطلع على تلك النفوس التي تسكنه من دون أن تدري هي الأخرى.
من فرط غرابة ما حدث، كان يمكن بعد مضي تلك السنوات، أن أشعر بأن تلك الحكاية حلم محض، أو وهم، لولا أني دونتها في نص طويل، وأخبرت زوجتي عنها، حتى يكون هناك شاهد عليها فلا تخدعني ذاكرتي.
لعب ذلك الشحاذ بعمامته البيضاء وجلبابه المتسخ، وسنوات عمره التي جاوزت الخمسين، دور الصوفي "صاحب الخرقة"، المطلع على بواطن النفوس، الذي يمكنه أيضًا التلاعب بها، فيجبر أصحابها على الانصياع لأوامره مهما كانت غريبة.
لم يستغرق لقائي به غير ساعة أو يزيد قليلًا، كنت خلالها مسحورًا، أو قل مُنومًا أسير في مسارات نفسية، لا أقبل عليها إلا تحت سيطرة اللاوعي. كان يمكن لذلك الشحاذ أن ينجح في لعبته حتى النهاية، لولا خطأ بسيط وقع فيه، ولم يستسغه ذلك الآخر داخلي، الذي كان يريد أن يرى فيه معرفة وثراء يتعديان مظهره الرث.
بعد هذه المقدمة، يمكن الآن سرد الحكاية من البداية.
البعد الثالث للزمن
بعد أن فتحت الجاليري في العاشرة والنصف صباحًا، وأديت بعض الأعمال اليومية المكررة، جهزت فنجانًا من الشاي، وجلست في انتظار الرزق. سمعت صوتًا قويًا لرجل يقف على الباب، مثله مثل الكثيرين الذين يطلبون إحسانًا، ولكن بمجرد سماعي صوته وكلماته، التي كانت خليطًا من الأدعية المرتجلة والآيات القرآنية؛ أخذني بعيدًا بحثًا عن ذلك الزمن الضال الذي جاء منه ذلك الرجل. لقد جسد بصوته وكلماته البعد الثالث للزمن، ونسيت تمامًا الزمن المسطح الذي أعيش فيه، تمامًا كما يفعل الفن في نفوسنا.
كانت تلك الخلطة من الأدعية وآيات القرآن نشيده الخاص الذي صار تعويذة سحرية ينشدها أمام الأبواب المفتوحة والمغلقة، فيفك بها مغاليق القدر. كنت أريد أن أصرفه سريعًا، حتى لا يعكر من صفو اليوم، ويُخمد فتيل الرزق المتوقع.
خلال عملي في الجاليري، كنت دائمًا أخشى، داخليًا، من الكسب الكثير، وأنتظره في آن. علاقة مركبة نشأت مع العمل الحر. تريد أن تقف في المنتصف بين الحرية والكسب. كنت أخشى أي إسراف يقلب المعادلة النفسية لحياتي. كان يعجبني مفهوم الشخص "الكسِّيب" بمعناه الشعبي، أي الكسب الذي تؤطره مسؤولية اجتماعية، أو إنسانية، سواء تجاه آخرين أو تجاه نفسك والحياة، أو تجاه الفلوس نفسها. ربما لم أكن جريئًا بما فيه الكفاية، لأقلب معادلتي النفسية رأسًا على عقب.
معجزة الماء
بمجرد أن سمعت صوته فتحت الصندوق الخشبي الذي أحتفظ فيه بالنقود بجوار المكتب، وسحبت جنيهًا ورقيًا، كان له قيمة وقتها، ودسسته في يده. شعرت بيده متصلبة ترفض الإحسان، وانزلق من عليها الجنيه الورقي. بعد تلك الحركة الافتتاحية القوية، التي تلت نشيده، سبقني، دون دعوة، إلى داخل الجاليري، ودون أدنى مقاومة مني. كأن شحضًا آخر داخلي يُملي علي ما أفعل. ربما سمحت له بالدخول بسبب ندمي لأني جرحت مشاعره، كونه يرى نفسه أكبر وأرفع من ذلك الإحسان الضئيل؟ ربما.
لاحظتُ سحابتي مياه بيضاء على عينيه. لم ير وجهي جيدًا، لكنه سيخبرني بعد أن جلس على الدكة الخشبية أمام مكتبي، بأنه رآني في المنام. أخيرًا هناك رسالة من العالم الآخر، انتظرتها طويلًا، تصل، لا تضل الطريق. بدأت سلسلة طويلة من التنازلات، توقف خلالها عقلي عن الشك، وتحولت إلى كتلة صدق، يحركها ذلك الشحاذ كما يشاء.
تكرار المعجزة يفقدها ندرتها وتأثيرها، تتحول إلى لعبة متقنة
أمرني بأن آتي له بقلم. لم أسال عن السبب، وأتيت بقلم رصاص من فوق المكتب، أمسكه في قبضته، كسكين، سنه إلى أسفل، وضغط عليه بقوة. أمرني أن أفتح يدي، وإذا بقطرات من الماء تتساقط من سن ذلك القلم. رأيتها بأم عيني، نقطة بعد أخرى، وانهارت تمامًا أي نية للمقاومة، أصبحت مثل العجينة الطيعة في لحظة فوضاها.
أمرني بأن أمسح رأسي بنقاط المياه، فشعرت ببرودة وانقباض غريبين، ثم تبخر الماء تمامًا سواء في يدي أو على شعري.
عرض مسرحي مفتوح
خلال ذلك العرض المسرحي المفتوح، أمرني بالوقوف في إحدى زوايا الغرفة، وترديد بعض تعاويذه التي كان يكررها على مسامعي. كان يشغل بجسمه على الدكة الخشبية رأس المثلث، بينما أطوف بالزاويتين الأخريين من الغرفة مرددًا كلماته. أصبحت طوافًا حول معنى أو رمز على وشك أن يتجسد في تلك الغرفة، وينتقل من المدار اللا مرئي إلى النور.
طلب مني الجلوس أمامه. جئت بكرسي صغير وجلست. زادت سطوته باقترابه تلك المسافة مني. وضع يده فوق رأسي وأخذ يقرأ بعض الآيات. كنت أنتظر تلك المعجزة التي تغير حياتي، سألته مرة أخرى كيف عرفت مكاني، أجاب بأنه رآني في المنام. تيقنت ساعتها بأنها زيارة مقصودة، ورأيت في كل ما يحدث علامات تلك المعجزة، بكل مفارقاتها وتناقضاتها.
طلب مني أن أجلب قطعة قماش من أثري. فكرت في الفوطة الصفراء التي أنظف بها المعروضات، ثم وقعت يدي على الأخرى التي أنشف بها يدي. فوطة بيضاء بها خطوط زرقاء طولية وعرضية تحصر بينها مربعات كبيرة.
أمسك بالإطار الرفيع للفوطة ومزقه فاصلًا إياه عن جسمها. ثم طوى الفوطة عدة طيات، فعقد ذلك الشريط القماشي، عقدة، اثنتان، ثم طلب مني أن أمسك بأحد طرفيه، وهو في الطرف الآخر حتى نحكم متانة العقد. قبل أن يدس الشريط في إحدى طيات الفوطة، وأمرني بحملها من الشريط والوقوف بعيدًا.
جاءت وقفتي أمام الفاترينة الزجاجية التي تطل على الشارع. لم أفكر وقتها ماذا كان سيحدث لو دخل أحد الزبائن من الأجانب، ربما كان سيشاهد عرضا شرقيًا شديد الخصوصية يتجسد فيه ذلك العالم اللا مرئي الذي نعيشه.
طلب مني ترديد الآيتين الأخيرتين من سورة الفلق "ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد" ثلاث مرات، ثم أنفخ بين طيات الفوطة. ثم طلب مني أن أفردها فإذا بالشريط المعقود يخرج سليمًا دون عقدة واحدة. أصبح ذلك الشريط القماشي، في تلك اللحظة، رمزًا لحياتي. ثم طوى الفوطة، بالشريط، مرة أخرى عدة طيات، وأمرني ألا أفتحها إلا بعد صلاة العصر.
من المياه وإليها
ثم جاءت الخطوة الأخيرة، وطلب القلم الرصاص مرة أخرى، وأمرني بفتح يدي، فإذا بقطرات من الماء تنفرط وتتجمع في تجويفه. ولكنه هذه المرة غير اتجاه القطرات، وطلب مني أن أمسح بها على مكان النقود التي احتفظ بها في الجاليري، طبعًا أطعته ووضعت قطرات الماء على ذلك الصندوق القديم، الذي لم يكن يعرف مكانه، حتى الآن، فعاد إليه لونه الأحمر القديم.
عندها أحسست بنداء دنيوي في كلامه، نداء شخص جائع ولا يقدر أن يُخفي جوعه. طلب في البداية أن يبارك ما في داخل الصندوق، فأخرجت ذلك المظروف الأبيض، الذي كان يحتوي على 8 ورقات من فئة الخمسين جنيهًا، وسلمته له. أخذ يفحص تلك الورقات تحت ضوء السحابة البيضاء، ويشم رائحتها، وطلب مني إحداها، قائلًا: هل تسامحني فيها؟ رددت عليه بقوة بعد أن بدأت أستعيد وعيي، بأنها أمانة وأنا لست إلا حارسًا عليها، ولا يمكن أن أفرط فيها. ومازلت حتى الآن أتساءل، هل أخفى إحداها في ذلك الكهف الذي يأتي منه بالماء في يده؟ ربما.
لكي أرفع عنه إحباطه برفضي، أخرجت عشرين جنيهًا من جيبي، وقلت له: هذه مني. برم العشرين جنيهًا كلفافة تبغ، كادت أن تشتعل من تلقاء نفسها، وأمرني بأن أفتح كفي، قام بعصر هذه اللفافة، فإذا بقطرات الماء تسقط مرة أخرى، دون اندهاش مني، هذه المرة، فتكرار المعجزة يفقدها ندرتها تأثيرها؛ تتحول إلى لعبة متقنة.
طلب مني أخيرًا أن أمسح بالماء مرة أخرى على هذا الصندوق، وتنبأ لي بأن النقود سوف تتكاثر بين يدي، ثم سألني: هل ستتكبر وقتها؟ لا أتذكر بماذا أجبته، ولكن فهمت المغزى من السؤال.
بدأت معجزته بالمياه وانتهت بالمياه، وخرج سريعًا من الباب، وأنا غير مصدق أنه كان موجودًا. عدت للظرف الأبيض، وشككت في أن إحدى الأوراق من فئة الخمسين جنيهًا ناقصة، ولم أحسم حتى الآن هل كانوا ثمانٍ أم سبع ورقات، فكل رقم يحمل دلالة تفسر ما حدث.
حتى ماحدث نفسه، تحول إلى حلم، أو وهم عقلي مثل فيلم العقل الجميل، شككت في حدوثه بالفعل وشقيت منه بعد ذلك. يومها سألت جاري المكوجي، فقال إنه بالفعل رأى رجلًا بجلباب يمر أمام دكانه.
عدت بالفوطة للبيت، وحكيت القصة لزوجتي، وأنا أرتجف نفسيًا، كأني أقول لها: زمليني زمليني. فطلبت مني أن ننتظر ولا نفتح الفوطة المطوية إلا بعد صلاة العصر كما أمرني ذلك الشحاذ.
وبالفعل فتحت الفوطة بعد الصلاة، فتخيلت أن بها ثقوبًا مثل عيون صغيرة تنظر لي من العالم الآخر. ولأيام تالية أفتح الفوطة، لأجد تلك الثقوب تكبر وتتسع العين التي تراقبني أو ترعاني.
ظللت تحت تأثير ذلك الرجل والرجفة التي سببها لي لشهور، حتى نسيت الفوطة تمامًا في ظلام دولاب الملابس، ثم تاهت وسط أشياء كثيرة، وتاه معها الدليل على تلك المعجزة التي انتظرتها طويلًا.