فليكر- رخصة المشاع الإبداعي- Jennifer
أكثر من نصف الرياضيات قد تعرضن لشكل أو أكثر من أشكال التحرش الجنسي أو الإساءة سواء داخل الرياضة أو خارجها.

في الرياضة النسائية.. "رأس النعامة" تحمي المتحرشين

منشور الثلاثاء 9 يناير 2024

عثرت مها طُلبة أخيرًا وهي في المرحلة الثانوية على اللعبة الرياضية التي تستهويها، وبدأت في ممارستها ضمن أنشطة مدرستها بمحافظة الجيزة، لكنها اضطرت إلى التخلي عنها سريعًا بسبب المدرب.

انضمت لفريق الكاراتيه، وتميزت فيه بشهادة مدربتها، لكن بعد فترة تركت المدربة الفريق، ليتولى المسؤولية بدلًا منها مدرب شاب يبلغ من العمر 22 عامًا، تقول مها "كنا فتيات تتراوح أعمارنا ما بين 15 و17 سنة، وبدأت تعليقاته في البداية على أجسادنا، ثم تطورت إلى تلميحات جنسية وإيحاءات غير مريحة، ثم وصلت الأمور إلى لمسنا بشكل مريب بحجة تعديل أوضاع الحركة".

شعرت مها، وباقي زميلاتها في الفريق، بعدم الراحة تجاه لمسات المدرب، وتوجه بعضهن للأخصائية الاجتماعية للشكوى، وحين تحدثن معها، فصلت إدارة المدرسة المدرب. لكن عندما وصلت الأخبار لأولياء أمورهن، منعوهن من الاستمرار في الرياضة. وفيما بعد انتهت إدارة المدرسة إلى حل مريح؛ إلغاء الكاراتيه من الأنشطة المدرسية من الأصل.

أسلوب طرد الجاني هو ما تعتمده إدارات النوادي والمدارس في تعاملها مع حوادث التحرش، خوفًا على سمعة المكان، في مجتمع لا يشجع فتياته على ممارسة الرياضة. 

الرياضة ليست للنساء

 لا يرى المجتمع في الفتيات أبعد من أنثى ذات جسد مُغرٍ، ولا يعتبر وصولهن لمكانة رياضية عملًا يُحترم، ولا لملابسها الرياضية إلا ملابس ارتدتها خصيصًا من أجل الرجال الذين يشاهدونها، كما حدث مع بسنت حميدة العداءة المصرية، ما اضطر والدتها للرد عنها.

توري بينسو حكم كرة قدم أمريكية تلقت نصيبها من النظرة الذكورية بسبب طبطبة على كتف محمد الشناوي حارس مرمى النادي الأهلي قبل المباراة التي جمعته مع نادي أوراوا الياباني في 22 ديسمبر/كانون الأول الماضي ضمن بطولة كأس العالم للأندية، كما انتشرت فيديوهات جمعت نظراتها إليه لتضفي عليها بعدًا آخر. 

أثار هذا خيال الجمهور والمشاهدين، بل وبعض الإعلاميين الذين تجاهلوا مهارتها في تحكيم مباراة مهمة هي ورفيقاتها، ليروها مجرد امرأة "تتودد" للشناوي.

توري بينسو للمصادفة هي الحكم الدولية التي أدارت مباراة نهائي كأس العالم للسيدات 2023 بين المنتخبين الإنجليزي والإسباني، التي انتهت بفوز منتخب إسبانيا 1-0، وشهدت واقعة القبلة الشهيرة. 

صغيرات السنّ أكثر عرضة للاستغلال

قبّل لويس روبياليس، رئيس الاتحاد النسائي لكرة القدم الإسباني، المهاجمة جيني هيرموسو على شفتيها فجأة خلال تسليمها ميدالية الفوز. أثار التصرف استهجان الكثير من الرياضيين حول العالم، ودفع روبياليس إلى الاستقالة. حدث هذا في احتفال منتخب إسبانيا لكرة القدم النسائية ببطولة العالم، التي أقيمت في أستراليا. 

يعتمد المدرب المتحرش على أساليب التلاعب العاطفي في التعامل مع الضحايا

توصلت دراسة أوروبية إلى أن أكثر من نصف الرياضيات تعرضن لشكل أو أكثر من أشكال التحرش الجنسي أو الإساءة، سواء داخل الرياضة أو خارجها. وكلما كانت اللاعبة أصغر سنًا كلما كانت أكثر عرضة للاستغلال وضحية مثالية للتحرش.

كما أن العديد من الفتيات يقفن عاجزات مصدومات، فيقرر بعضهن الصمت خوفًا من العقبات، التي قد تؤدي لاستبعادهن من الفرق، وخشية من وصمهن بالتساهل أو بالتراضي، مثلما حدث مع جيني هرموسو.

مدرب حنون ومتحرش.. من أمريكا إلى مصر

عام 2016، نشرت IndyStar مقالًا بعنوان "التعامي عن التحرّش الجنسي: كيف تمكّن الاتحاد الأمريكي للجمباز من حماية المدربين على حساب الأطفال"، تحدث عن الإجراءات غير القانونية التي اتّبعها كبار التنفيذيين في منتخب الجمباز الأمريكي على مدار سنوات، لتجاهل ادّعاءات التحرّش الجنسي، عبر عدم إبلاغ السلطات عنها، ما لم تصدر مباشرةً عن الضحية أو أهلها. 

فتح المقال الباب لاعترافات اللاعبات، التي بدأتها رايتشل دانهولاندر، بإرسالها إيميلًا إلى الصحيفة تُفصح فيه عن اسم الدكتور لاري نصار، الذي عمل لحساب الاتحاد الأمريكي للجمباز بين عامَي 1996 و2014. ما شعرت به وهي في الـ15 من عمرها لم يكن خيالًا، كان تحرشًا. 

ما حدث مع لاعبات الجمباز الأمريكيات حدث أيضًا مع العشرينية هبة إبراهيم، وهي في فريق الكرة الطائرة بالمدرسة الثانوية، كان الفريق يتدرب في مركز شباب قريب من المدرسة، وكان المدرب الثلاثيني لطيفًا ومحبوبًا يتحدث معهن بود يختلف عن طريقة المدرسين والآباء.

كان يعلق على أجسادهن، ويلمح بتلميحات جنسية، تقول هبة لـ المنصة "كان ذكي في اختيار كلماته. مقدرناش نشتكيه لأنه ببساطة لم يتجاوز، هو فقط علق بجمل تحمل معنيين، فليه ناخد المعنى السيئ؟ هو بريء". 

لم تستطع هبة، كما الفتيات في مرحلتها، التأكد مما إذا كان ذلك حقًا تحرشًا، "ما اشتكيناش وما بلغناش أهالينا".

تكمل هبة "ما كناش مرتاحين لتعليقاته ونظراته وإحنا بنجري ونلعب"، تتذكر "كنت لسه جاية من الخليج، مجتمع مقفول، وما بعرفش أتكلم مصري كويس، حاولت أعبر لقيت زميلاتي بيكملوا كلامي، اتأكدت إني مش لوحدي"، قررت هبة ترك الفريق.

التغاضي وإغماض العينين عن حالات التحرش، على طريقة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال حين تواجه الخطر، هي سياسة متبعة ليس فقط من الاتحاد الأمريكي للجمباز، ولا اتحاد كرة القدم النسائي الإسباني، لكنها سياسة مُريحة تتبعها كذلك الإدارات، من بينها إدارة مدرسة مها.

يتعامل المجتمع مع اللاعبات باعتبارهن إناثًا في المقام الأول

الأمريكي لاري نصار ومدرب الكرة الطائرة المصري في فريق هبة كانا محبوبين من الجميع داخل الاتحاد والفريق وخارج الاتحاد والمدرسة، كانا يُجيدان رسم صورة المدرب الأب الحنون، وكانا يعرفان كيف يتحدثان للفتيات الصغيرات وأمام الإدارتين/المدرسة والاتحاد، ما يبدو وكأنه نمط "ليلى والذئب". 

يرتكن المدرب المتحرش على أساليب التلاعب العاطفي في التعامل مع الضحايا، التي تعتمد على استراتيجيات عديدة، أولها اكتساب ثقة المتدربين، حسب ما تذكر الدراسة الكندية. 

تحرش إلكتروني

لا يقتصر التحرش على داخل الملعب بل يمتد إلى الفضاء الإلكتروني. في شهر ديسمبر 2020 طال لاعبات منتخب مصر لكرة القدم للناشئات، عقب مباراة ودية مع نظيره اللبناني انتهت بفوز فريق مصر، لم يلفت فوزهن النظر إليهن كلاعبات ماهرات، بل اتجهت تعليقات الرجال إلى ملابسهن وأجسادهن. 

تكرر ذلك أيضًا مع لاعبة الاسكواش نور الشربيني عام 2016، حين انصرف جمهور الرجال عما حققته من فوز ببطولة العالم، ليقيسوا مقدار ما أبرزت من ساقيها، في كم كبير من التعليقات غير السوية.

لماذا لم يعترضن؟

يتركز دفاع المتغاضين عن التحرش على سؤال برز في قضية نصار، إذا كانت الفتيات لم يشعرن بالراحة أثناء الفحص الطبي أو جلسات العلاج فلماذا لم يعترضن وقتها؟

يُفسر موقع مايو كلينيك أن ذلك يعود إلى أن الطفل المُعرض للإيذاء قد يشعر بالذنب أو الخجل أو الارتباك، قد يخاف من إخبار أحد بشأن التحرش أو العنف الجنسي الممارس عليه، خاصة لو كان المتسبب في إيذائه أحد والديه أو الأقارب أو صديقًا للعائلة. 

ويُعرّف مايو كلينيك الانتهاك الجنسي للطفل بأنه ممارسة أي نشاط جنسي معه. ويشمل هذا الاتصال الجنسي أو التلامس المقصود، كما يشمل الانتهاك دون تلامس، مثل إطلاع الطفل على نشاط جنسي أو مواد إباحية، أو مراقبته أو تصويره بطريقة جنسية، أو التحرش المباشر به، أو إجباره على الممارسة أو الاتجار بغرض الجنس.

آية يحيى(*) أم أربعينية لفتاة في الثانية عشرة من عمرها تقول لـ المنصة "بنتي بتدرس باليه في مكان حكومي، من سنتين كان فيه مدرب شاب، تحرش بالبنات الأكبر في السن". 

تكمل آية "بنتي كانت وقتها لسه في فريق الصغيرين، شافته بيلمس زميلاتها الأكبر منها بحجة تعديل وضعتهم على البار (قضيب التمرين)، كمان كان بيناديهم بألقاب دلع زي عسولة وقمر، ومرة باس بنت على خدها". 

وصلت التجاوزات لأمهات الطالبات، واشتكين المدرب لإدارة المؤسسة، وكالعادة كانت الطريقة المثلى للتعامل مع الشكوى، كما تقول آية، "استبعدوا المدرب، وما سمعناش عنه بعد كده". 

عقوبات رادعة

في يوليو/تموز 2017، أقرّ لاري نصار بالذنب في ثلاث تهم فيدرالية باستغلال أطفال في صنع مواد إباحية، وبعد أربعة أشهر، أقرّ بالذنب في تهم عدّة بالاعتداء الجنسي، وفي يناير 2018 حُكم عليه بالسجن لـ175 عامًا. وبعدها بشهر، فُرضت عليه عقوبة إضافية بالسجن لما يتراوح بين 40 و125 عامًا، بعد اعترافه بالتعرّض جنسيًا لثلاثة أطفال دون الـ16.

فقد لويس روبياليس رئيس الاتحاد النسائي لكرة القدم الإسباني منصبه، كما أنه يواجه تهمًا بالاعتداء الجنسي على جيني هيرموسو. لا يعد ذلك انتصارًا لجيني فحسب، لأنه يشجع أخريات ممن يمارسن ألعابًا رياضية على التحدث، حتى لا ينتهي الأمر بمجرد طرد المدرب، الذي لا يعد عقوبة رادعة بقدر ما هو وسيلة لنقل المشكلة إلى مكان آخر. 

تقول مها "ما لعبتش تاني أبدًا، لا في مدرسة ولا نادي، كل علاقتي بالرياضة انتهت من وقتها".

مها اليوم متزوجة ولديها ابن، وتؤكد أنه عندما يصبح لديها ابنة، ستكون حريصة على أن تمارس ألعابًا رياضية، ولكنها ستكون يقظة بشكل كافٍ لاكتشاف المتعدين جنسيًا وحينها لن تهرب، ولن تسمح له بالهرب. 


(*)اسم مستعار بناء على رغبة المصدر