نشر المقال بالإنجليزية في صحيفة ميدل إيست آي
بداية أسبوع العمل في واشنطن حملت معها لقاء بين "رجل رائع" ومن يصف نفسه بكونه "صانع اتفاقات استثنائي". والنتيجة: ولادة "ترامبيسي"
اللقاء بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس دونالد ترامب، كان لقاءً بين عقلين متشابهين، على الرغم من قله خبرتيهما؛ إلا أنهما ممتلئان بالثقة في ذاتيهما المتضخمة.
هذه هي الزيارة الأولى لرئيس مصري في واشنطن منذ 2009، بعدما حاولت إدارة أوباما إبعاد نفسها أولا عن الرئيس الأسبق حسني مبارك، ثم عن السيسي، ويحاول محللون غسل وجه إدارة أوباما بمقارنة موقفها بالموقف المؤيد للسيسي الذي تتخذه إدارة ترامب.
لم يسم أوباما ما حدث في 3 يوليو/ حزيران 2013 انقلابًا. وأعطى السيسي ما أراد من أموال. أما الموقف الكاشف فعلاً؛ فهو أن أوباما لم تكن له ردة فعل قوية على مذبحة رابعة التي خلفت – وفقًا للتقديرات الرسمية- أكثر من 800 قتيل.
ولكن رغم حقيقة أن جبهاتهما المحلية والدولية ملطخة بالنواقص والمشاكل؛ إلا أن لقاءهما كان استكمالاً لـ"الحب من النظرة الأولى" الذي نشأ بين الرئيسين عندما التقيا العام الماضي، خلال أنشطة الحملة الانتخابية لترامب.
كما يرى البعض، فإن وجود رئيس ذي أيدولوجية مرحبة في البيت الأبيض، يعد منجمًا من السعادة للسياسة الخارجية المصرية، التي تقف في مربع صعب تحتاج فيه بشدة إلى الدعم. فهل يمكن لترامب – على سبيل الاستثناء النادر- أن يكف عن التفاخر بنجاحه كرئيس ويتصرف فعلا كرئيس؟ هل يمكن لتلك العلاقة الوليدة بين ترامب والسيسي أن تصحح مسار العلاقات المصرية الأمريكية التي تعرضت لضرر بالغ خلال عهد أوباما؟
في عيني ترامب
صاحب القبضة الحديدية في نظر أحدهم، هو ديكتاتور في نظر آخر. الصورة الأولى للحاكم القوي هي التي يرى بها السيسي مؤيدوه، أما غالبية المتابعين في الغرب، فلا يرونه إلا على ضوء الصورة الثانية.. مجرد ديكتاتور.
هؤلاء النقاد الغربيين ليس من بينهم ترامب، الذي أعلن عندما قابل نظيره المصري يوم الاثنين الماضي أنهما "سيعملان معًا عن قرب فيما يتعلق بالإرهاب"، في إعجاب رد عليه السيسي بالحديث عن "الشخصية الفريدة" لترامب.
ولكن تحت السطح، ربما لا يختمر التعاون بينهما، بما يكافئ النجاح الظاهري لحملة العلاقات العامة التي قام بها "مخلوق الترامبيسي".
رجفة سرية
الرئيسان كلاهما ينزف من شعبيته الداخلية. فأعلى معدلات قبول لترامب منذ خطا للبيت الأبيض لم تتعد 46%، وانخفضت انخفاضًا حادًا في مارس الماضي لتبلغ 37% فقط، ويعود هذا التراجع في الغالب إلى شكوك في تعاونه مع روسيا، ثم فشله في تمرير الخطة الجمهورية للرعاية الصحية، ومحاولتيه الكارثيتين لمنع مقدم المسلمين للولايات المتحدة.
في المقابل، انتخب السيسي بنسبة موافقة بلغت 97%، بمشاركة حوالي 47% فقط ممن لهم حق التصويت، وذلك على خلفية الصورة المظلمة التي كان عليها الوضع السيساسي الداخلي.
في أغسطس/ آب 2016 كانت معدلات شعبية السيسي 82% وخلال شهرين اثنين انخفضت لتبلغ 68%. أي أنها انخفضت 14% دفعة واحدة خلال 60 يومًا فقط. وهذه – بمقاييس معظم الديكتاتوريات- نسبة انخفاض مقلقة.
كان هذا قبل أيام فقط من إقدام نظام السيسي على أكبر مخاطرة اتخذها حتى الآن بخفض قيمة الجنيه أمام الدولار، لينفجر التضخم من 14% ويصل إلى 30% بنهاية فبراير/ شباط المنقضي.
وبينما يأخذ الاقتصاد طريقه نحو المسار الأسوأ، لم يعد من المُجدي حقًا أن نسأل كم من المصريين يوافقون على خطة التقشف المُستلهمة من صندوق النقد الدولي، والتي تسببت في ارتفاع أسعار الأغذية بنسبة 40%. ليس من الغريب إذن أن استطلاعات بصيرة التي كانت تجرى كل شهرين لقياس شعبية الرئيس، صمتت تمامًا منذ نوفمبر/ تشرين ثان الماضي.
على هذه الخلفية المؤسفة، يكون لاجتماع ترامب والسيسي -ذوا الثقة المفرطة بالنفس- دلالة هامة. فرغم ثقتهما البادية للعلن، لابد وأن الرجلين يرتجفان خلف الأبواب المغلقة.
محادثات قتالية
هزيمة الإسلام المتشدد محور مركزي لعمل الزعيمين، ونقطة تلاقٍ هامة على المستويين الأيدولوجي والسياسي.
يشيد ترامب بالسيسي باعتباره المحارب العربي المسلم ضد تنظيم الدولة الإسلامية وأتباعه في المنطقة. بينما يتطلع السيسي لنظيره الأمريكي كي يدرج جماعة الإخوان المسلمين على قائمة المنظمات الإرهابية. لكن الوصول لاتفاق فيما يتعلق بتلك المسألة لا يبدو شيئًا مؤكدًا، وقد مر لقاء الاثنين دون ذكر للإخوان المسلمين.
ربما يسهب السيسي في الحديث عن قتاله ضد الميليشيات المتشددة، لكن الحقيقة أنه يخسر معركته في الداخل، بينما يسرد إنجازاته فيها. في شمال سيناء يعمل تنظيم تابع لـ"الدولة الإسلامية" كان يعرف سابقًا باسم أنصار بين المقدس وينفذ بالفعل العديد من عمليات الترويع بشكل يومي، حتى أنه شن هجومًا واسعًا خلف 10 ضحايا قبل عشرة أيام.
بالنسبة للعديد من المحللين، فإن الربط بين قمع السيسي والقفزة في العمليات المسلحة لا يمكن إنكارها. يقول عمر عاشور المحاضر في جامعة إكستير:"عقب ما حدث في رابعة، كان هناك تغير واضح في حدة الاضطرابات وحجم العمليات".
عائد متواضع
في القتال ضد الإرهاب، لا يقدم السيسي إلا الكلام. ابحث عن ميادين القتال في سوريا والعراق حيث تدور حرب حقيقية ضد تنظيم الدولة، ولن تجد أبعد مما وجده توم ميلانويسكي المساعد السابق لوزير الخارجية الأمريكية الذي قال: "آخر مرة بحثت فيها عن أخبار الحرب ضد التنظيم لم أجد مقاتلات F16 مصرية تساعدنا في العمليات في سماء الرقة والموصل".
دون مقابل لهذا الاستثمار، لماذا يخاطر ترامب بالمواقف الأمريكية في العديد من العواصم العربية، بإعلان "الإخوان المسلمين" منظمة إرهابية؟
فخلف عقد الصفقات، قال مختصون في وزارة الخارجية إن مثل هذه الخطوة ضد الجماعة - خاصة بعد فشل محاولتي ترامب لحظر دخول المسلمين للولايات المتحدة- سينظر إليها باعتبارها دليل إضافي على أن الولايات المتحدة تحارب المسلمين ومساجدهم ومنظماتهم الإنسانية وتجمعاتهم، لا باعتبارها تحارب "الإرهابيين". ما سيكون له عواقب محلية ودولية غير هينة.
يقول ميلانويسكي: " هذا سيشير إلى أنهم [إدارة ترامب] يولون اهتمامًا لخلق المشاكل مع طابور خامس خيالي عماده المسلمين في الولايات المتحدة".
ووفقًا لهذه الرؤية، فقد غادر السيسي البيت الأبيض دون الحصول على مكسبه الكبير: وصم الجماعة بكونها منظمة إرهابية.
عوضًا عن هذا، تلقى ربتة على الظهر تظهر التعاطف والتأييد لأساليبه القمعية التي تبدو – بشكل مخيف- جذابة بالنسبة لترامب، وتلطخ سمعة الرجلين.
سجناء مصر
هناك مسألتان أخريان ناقشهما الرجلان في سرية خلف الأبواب المغلقة بعناية: أولاهما قضية آية حجازي، وهي شابة مصرية أمريكية تدافع عن حقوق الأطفال بلا مأوى، وقضت أكثر من 1000 يوم في الزنازين المصرية بسبب تهم اخترعتها الدولة، تصمها فيها بانتهاك هؤلاء الأطفال. والقضية الثانية هي المساحة الملتهبة في ملف حقوق الإنسان المصري، حيث يقبع 60 ألف مواطن في سجون السيسي بسبب قضايا سياسية.
الأسبوع الماضي نشرت "الأهرام" تقريرًا قصيرًا عن معتقل سياسي شاب يدعى أحمد الخطيب، أصيب بمرض قاتل خلال تواجده بسجن مصري شديد الحراسة، وهناك تكهنات بحصوله على إفراج صحي كي يحصل على حقه في العلاج. لكن هذا الشاب لن يجد اسمه طريقًا للطرح خلال لقاءات ومحادثات ترامب والسيسي، كما أن ترامب لن يسمع عن المصري الصحفي الفائز بجائزة رفيعة محمود شوكان، المعتقل منذ مذبحة رابعة في 2013 والذي يعاني الآن من حالة متقدمة من فقر الدماء وفقدان الوزن.
لن تسمع عن مثل هذه القضايا في عالم "ترامبيسي"، فحقوق الإنسان ليست على الرادار. غاية هذين الرجلين هي القضاء على الصيغة الجهادية من الإسلام، ففي رأس ترامب صورة خيالية عن حملة صليبية جديدة يقودها عبر علاقته بالسيسي، هذه الغاية تبرر لهما الوسيلة. وغالبًا فإن مقاصدهما تتسبب بالفعل في انهيار حالة حقوق الإنسان وفقًا لوثيقة غير مكتوبة، تستمد شرعيتها من الموافقة والتأييد الأمريكيين، ممهورة بحبر الصمت.
الدولة التي تقدم لكاتب هذه السطور حرية التعبير، تقف صامتة أمام سجن صحفيين آخرين منهم إسماعيل الإسكندراني الذي يذوي في السجن منذ أكثر من 16 شهرًا، لأنه يمثل الخطر الأكبر على نظام السيسي: تحدي الخرس ونشر المعلومات عن حقيقة ما يحدث في سيناء.
ترامب الذي قدم أوضح صورة لكراهية الصحافة المعارضة، لا تضايقه مأساة من هم مثل الاسكندراني وشوكان، ففي النهاية، الاعتراف بمأساة شوكان والحديث عنها، سيكون بمثابة اعتراف بقمع السيسي الذي سجن صحفيًا لأكثر من 3 سنوات، فقط لأنه ارتكب جريمة ممارسة عمله الصحفي وتوثيق الجريمة ضد الإنسانية التي وقعت في رابعة.
مذبحة الاقتصاد المصري المستمرة لابد وأنها طُرحت بقوة خلال لقاء الاثنين، غالبًا كان ترامب متساهلا مع السيسي. لن يتهم ترامب السيسي بما وصفه أحد الأكاديميين بكونه "استغلال اتفاقية صندوق النقد الدولي لسحق الطبقات الأدنى ومراكمة ثروات شريحة الجنرالات السابقين".
وفي الغالب، فإن الرئيس الأقوى في العالم، والذي سحق نصيبًا من الطبقات الأدنى في طريقه للقمة، يشيد بشجاعة السيسي في تطبيق إجراءات قاسية كي يحول مصر إلى دولة أكثر ريعية.
مظاهرات خبز وأسعار ملتهبة الارتفاع، وملايين بلا وظائف وديون تتكاثر كالفطر حتى تصل إلى 67 مليار دولار بزيادة 41% في عام مالي واحد؟ لا بأس.. هذا لا يزعج مخلوق الترامبيسي.
بذلات خاوية
كي نلخص بوضوح: لقاء الترامبيسي كان مجرد خدعة ضخمة. الغاية منه أن يدعي ترامب أن لديه حليف في حربه "ضد الإرهاب"، وفي المقابل يحصل السيسي على ختم الشرعية الترامبية.
لكن هل سيكون السيسي قادرًا على الوفاء بتوقعات صديقه الجديد متقلب المزاج؟ الرئيس المصري استطاع بالفعل أن يغضب العديد من حلفائه الخليجيين بتراجعه عن تنفيذ تعهداته في الصفقات التي عقدها معهم. ففي النطاق الذي يعني السيسي، لا يبدو أن حلفاءه السابقين سيعيدون استثماراتهم الاقتصادية. اسأل السعودية والإمارات العربية المتحدة كي تتأكد من هذا.
كل الأمور جيدة إذن، أو رائعة وفقًا لتعبير ترامب الذي لا يدري شيئًا حقًا عن الوضع الاقتصادي لمصر، أو قضاياها الأمنية والحقوقية. فالسيسي يطمح إلى تعهد بمساندته في القمع خلال مواجهة العواصف المنتظر أن تهب على القاهرة.
ففي النهاية، ترامب والسيسي ليسا رفيقي سلاح، لكنهما محبان مخلصان لنظريات المؤامرة التي تحكم نظرتهما للعالم، هما لا يعتدان بعدسة الدبلوماسية، ولكن بشاشة الذكورة، يخوضان حروبهما بالصورة التي ترسمها اللقاءات العلنية، لا بالتخطيط والاستعداد.
لكن قيادة الدول بالطبع، ترتبط بحسن التخطيط والدراسة. إذا ما فشل رجلا الدولة هذين في اتباع المنهج السليم، فإنهما يخاطران بأن يصبح استمرارهما في القيادة مجرد "أخبار كاذبة".