في عام 2008، دخلت متحف التعذيب في أمستردام، الموجود في إحدى الكنائس التي ازدهرت سلطتها في زمن محاكم التفتيش قديمًا. ورأيتُ كيف يمكن أن يبلغ الإبداع الإنساني مبلغًا من الشر يعجز أمامه خيال مؤلفي أدب الرعب.
يضم المتحف أدوات التعذيب والإعدام الأصلية، التي استُعملت بالفعل في الكنيسة. وفوق كل أداة عُلِّقت لوحة توضح كيفية استعمالها. بعضها لم يكن يُستعمل إلا في الميادين العامة أمام الجماهير المحتشدة؛ لإرهابهم وضرب المثل والعبرة بالضحايا.
عُرفت محاكم التفتيش في القرون الوسطى؛ في زمن هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على أوروبا، ليس فقط كتجربة إنسانية قاسية ومفرطة في الشر، بل كان أهم ما يميزها شيئان: الشر المقدس ذو الطابع الديني المبارك، والمحتوى العبثي.
كان الغرض الرئيسي منها كشف البروتستانت المهرطقين لمعاقبتهم، ثم توسعت مهامها لتشمل اصطياد كل من هو غير كاثوليكي، من يهود ومسلمين وربما بعض بقايا الوثنيين، باتهامات عبثية وغير عقلانية، التحقيقات فيها دون أي مستوى من الجدية أو المنطقية. وكثيرًا ما أحرقت النساء أحياء بسبب اتهامهن بممارسة السحر.
وفي 2015 عندما زرت أحد المتاحف الوطنية في برلين، شاهدت جدولًا زمنيًا/timeline معروضًا يؤرخ للمحطات الفارقة في تاريخ ألمانيا الحديث، يعتبر التاريخ الذي أُحرقت فيه آخر امرأة أدينت بالسحر في القرن الثامن عشر، علامة فارقة على التحول للحداثة. وهي ليست فقط حداثة على مستوى فصل الميتافيزيقي عن الملموس، أو تطوير مؤسسات العدالة وآليات تحقيقها، بل أيضًا على مستوى عقلانية التفكير والتوقف عن محاكمة الضمائر.
الكاثوليك لم يحتكروا التفتيش!
ربما تكون التجربة مرتبطة دومًا بالكنيسة الكاثوليكية بسبب مأسستها رسميًا، واستمرارها لقرون متعاقبة، وإنتاجها تراثًا ضخمًا وبشعًا من الإجرام ومن التنظير له. لكن الحقيقة أن ظلال محاكم التفتيش ونسخًا مخففة منها وُجدت في تجارب إنسانية متعددة على مر التاريخ واتساع الجغرافيا.
العجيب أنه في زمن الحداثة لم تتوقف محاكم التفتيش بالمعنى المجازي
حوكم بعض الصوفيين المسلمين من ذوي الشطحات المجازية في أشعارهم، وأدينوا بالزندقة وقتلوا بطرق بشعة، ذبحًا أو إحراقًا. وكان القتل بسبب الاشتباه في الولاء السياسي أو القبلي شائعًا في تجارب يصعب حصرها في عصور ودول ما قبل الحداثة، وكل ذلك دون تحقيقات جدية أو اعترافات، بل بالشبهة وتغليب سوء الظن من باب الاحتياط.
العجيب أنه في زمن الحداثة، حيث شعارات العقلانية والعلم التجريبي والرشادة المنهجية، لم تتوقف محاكم التفتيش، بالمعنى المجازي الذي صار مصطلحه يستعمل للدلالة على جوهر الممارسة التفتيشية، وليس على التجربة الكاثوليكية الأوروبية التاريخية.
أعدمت الدول الأوروبية الحديثة، أو المدعية للحداثة، عشرات الآلاف من معارضيها "المحتملين" بعد إدانة ضمائرهم؛ بما لم يقم عليه دليل مادي ملموس من تشكيك في ولائهم للنظام الحاكم. والحقيقة أن أي تحقير من مدلول كلمة "الشمولية" يجب أن يُذكِّرنا بأن الشمولية منتج حداثي بامتياز، وليد الثورة الصناعية والدولة الحديثة التي أنتجتها التجربة الأوروبية.
فإذا أخذنا التجربة السوفييتية كإحدى تنويعات الشمولية الأوروبية الحديثة، فإن عدد ضحايا محاكم التفتيش العلمانية قد يفوق عدد ضحايا نظيرتها الكاثوليكية، وربما يفوقهم من حيث النسبة إلى السكان، أو من حيث العدد والنسبة معًا.
تفتيش الراقصين على سلم الحداثة
في بلداننا العربية تجارب تندرج تحت ما يسميه باحثو العلوم السياسية بدول/أنظمة التحرر الوطني من الاستعمار، التي ارتبطت، للأسف، بالانقلابات وحكم العسكريين.
حاولت الأنظمة العربية العسكرية التحول إلى التصنيع، بحسب الفكر السائد في أواسط القرن العشرين بأن التصنيع هو السبيل الوحيد إلى التقدم ومواكبة العالم. وبالفعل، لا يمكن إنكار أن توطين صناعات ثقيلة وكثيفة العمالة، مثل الحديد والصلب في مصر، تطلب تحديثًا في التنظيم والإدارة.
ومع ارتفاع شعارات "الاشتراكية العلمية"، ساد ظنٌّ ساذج أن المجتمعات العربية عمومًا، والمصري خصوصًا، في الطريق إلى تجاوز التفكير الغيبي وتغليب العقل كأحد لوازم العلم "التجريبي".
ادّعت الجمهوريات العربية التحول إلى الحداثة لتستغني عن المحتل، لكنه كان ادعاءً يفتقد العقلانية
لكنَّ "التجربة" أثبتت أن المجتمع، بنخبته الحاكمة، لم يتخلَّ يومًا عن تفكيره الغيبي الذي يصل إلى درجة الإيمان بما ليس له وجود، أو ما لم يقم دليلٌ على وجوده. والمزعج في الأمر أن الإيمان المعنيّ هنا ليس المعتقد الديني الذي هو خارج نطاق العقل، كما يقول فيلسوف الحداثة المؤمن إيمانويل كانط، وإنما هو الإيمان الذي تعبر عنه أدبيات العدالة في المؤسسات الحديثة بقول القضاة "وقد استقر في يقين المحكمة أن المتهم مدان بكذا وكذا"!
المقصود ليس إدانة هذه العبارة في سياقها، وإنما تأمل كيف يمكن أن يُقتبس مفهومها ومنطوقها خارج نطاق المحاكم، لتكون لسان حال السلطة، ومسوّغًا لقراراتها المستبدة.
فالجمهوريات العربية، وليدة مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار، التي لم يحكمها سوى العسكريين، ولم تحكم بغير الحديد والنار، ادَّعت التحول إلى التصنيع وإلى الحداثة، لتستغني عن المحتل الذي كان يروج لشرعية الاستعمار بأنها جاءت إلى بلداننا بشعلة التنوير والتحديث. لكن هذا الادعاء كان فارغًا من محتواه العقلاني الذي هو جوهر الحداثة، ومنبع مشكلاتها في الوقت نفسه.
ولأسباب تطول يمكن تناولها في مقام آخر، لا أستسيغ اقتباس الزملاء لنقد الحداثة والدولة الحديثة؛ من منظور ما بعد الحداثة النابع من قلب التجربة الحداثية بعد الحربين العالميتين. لأنَّ واقعنا لم يتحول إلى الحداثة أصلًا، لكنه أيضًا ليس في القرون الوسطى، بل مزيج مختلف في نسيجه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي عن التجربة الأوروبية في أي مرحلة من تاريخها.
ومما التصق بمجتمعاتنا من التفكير ما قبل الحداثي؛ الإيمان بالغيب إيمانًا علمانيًا، أي متعلقًا بالعالم الذي نعيش فيه بحواسنا، ويترتب عليه اتخاذ إجراءات ضد آخرين من غير دليل مادي ملموس. كلُّ ذلك خارج نطاق المعتقد الديني، إلى الحياة المدنية.
محاكم تفتيش السوشيال ميديا
خلال يومين متتاليين، دخلتُ في جدال مطول مع صديقين، كلّ على حدة، أصرَّ أحدهما على تصنيف شخص بعينه كإسلامي، وتشبث الآخر بتصنيف الشخص نفسه كتنويري حداثي. الأول مسيحي علماني يرى فيه إسلاميًا مقنعًا بقناع البحث العلمي، مع علاقات جيدة بالوسط المدني محليًا ودوليًا. ولا يرى فيما يقوله سوى التفاف حول دوافعه الأيديولوجية "الأصلية الكامنة" فيه تحت سطح اللغة غير الدينية.
أما القرين/النقيض فهو مسلم سلفي مقيم في أوروبا ومندمج مهنيًا حتى حصل على الجنسية، لكنه ممن اصطحبوا الصراع (الحقيقي أو المتخيّل) حول تمسكهم بنمط تدينهم فكريًا وسلوكيًا، وممن يعيشون دائمًا رافعين شعار "غرباء ولغير الله لا نحني الجباه .. غرباء وارتضيناها شعارًا للحياة"!
صارت السوشيال ميديا ساحات للصراخ الرافض للحوار الجاد
ويُصر هذا الصديق على رؤية الشخص المذكور في هيئة المراوغ الملتف، الذي لا يريد أن يجاهر بتخليه عن معاييره الدينية، داعيًا إياه أن يعلن بصراحة أنه "تنويري" و"حداثي"، بأسوأ ما في جعبة هذين المصطلحين من مدلولات؛ أي ليس بالمعنى العقلاني في شؤون الحياة، وإنما بالمعنى اللائكي، وليس فقط العلماني، المعادي للدين وطاردًا له من كل أمر ذي بال.
لا يمكنني تصور علاقة تنشأ بين هذين الطرفين، لكنهما متفقان، لدرجة التطابق، في الإصرار العجيب على تصنيف المتحدث وفق القوالب النمطية الراسخة في ذهنيْهما، والمعدة سلفًا لــ"تسكين" الأفراد في إحداها.
بالنسبة إلى السلفي؛ أي رفض أو تحفظ على فعل محرّم دينيًا دون إعلان الشريعة كمرجعية لذلك الرفض، يعدُّ منازعة لسلطة الله في التحليل والتحريم، والتحسين والتقبيح. أما حديث الصحة العامة أو المصلحة الاجتماعية، أو حتى العرف الأكاديمي والتقاليد المؤسسية، كأرضية يمكن أن يلتقي عليها المتدين وغير المتدين، في رأي السلفي، مراوغة للتنصل من مرجعية الدين.
وبالنسبة للصديق العلماني؛ فأي موافقة للمحافظين دينيًا في أي موقف عارض على أرضية اجتماعية جامعة، لا تعني غير التقنّع بأقنعة مدنية لإخفاء الانحيازات الأيديولوجية القديمة "الكامنة" وراء وجود مزيف.
وحين وصل النقاش إلى حارات مسدودة، حيث لم يبقَ مجال للجدل العقلاني، واجهتمها، كلًا على حدة، بأنهما وجهان لعملة واحدة مسكوكة في خزانة محاكم التفتيش. فلم يظهر في مناقشتهما أي دليل ملموس على اتهاماتهما المتضادة في وقت واحد، لكن ما يجمعهما هو رفض الاعتراف بأن هناك آحادًا من الناس لا ينضوون تحت رايةٍ مما يعرفون!
فهل تكون مفاجأة أن أقول إن ذلك الجدل المزدوج دار كله على السوشيال ميديا؟
لا أظن ذلك. فكل من يتعامل مع السوشيال ميديا، يعرف جيدًا أنها صارت ساحات للصراخ الرافض للحوار الجاد، وربما تكون المساحات الاجتماعية فيه آمنة من الملاحقة الأمنية، نسبيًا، فتوفر حدائق خلفية للعب المهزومين في المعارك الكبرى.
يخشى كثير من مستخدمي السوشيال ميديا أن يصفوا النظام الحاكم في بلدانهم، هذا استبدادي عسكري، أو ذاك نظام سلطوي قمعي نازع إلى الشمولية، أو هذا دستور للوصاية العسكرية. يترددون في انتقاد الإدارة المالية والاقتصادية، وأحوال العدالة الجنائية، والأمن العام والفساد المستشري، وتزاوج السلطة المطلقة بالمال المجبي والدوار بين شلل المنتفعين.
لا يقولون شيئًا عقلانيًا من ذلك، مما تقوم عليه الأدلة جهارًا نهارًا، لكنهم يستسهلون الأحكام القيمية على مقموعين مثلهم، ويفتشون في ضمائرهم، ويصدرون عليهم أحكامًا تصنيفية "مما استقر في يقين محكمة التفتيش"!
وليهنأ الطغاة بانشغال المقهورين بعضهم ببعض، وتصنيفهم بعضهم بعضًا!