منشور
الاثنين 28 أغسطس 2023
- آخر تحديث
الاثنين 28 أغسطس 2023
رغم مرور نحو أسبوعين على خبر احتجاز السلطات الزامبية لطائرة خاصة أقلعت من مطار القاهرة، تحمل 5.6 مليون دولار وأسلحة خفيفة وسبائك معدنية، وعلى متنها 10 أشخاص منهم 6 مصريين تم إحالتهم للتحقيق، فإنه حتى كتابة تلك السطور لم تصدر أي جهة مسؤولة في مصر أي بيان يحمل إجابات للأسئلة التي أثارها ذلك الخبر المُلغز.
مساء 15 أغسطس/آب، نقلت وكالات الأنباء ومواقع أجنبية وعربية ومصرية الخبر عن السلطات المسؤولة في زامبيا، وبمجرد نشره طُرحت العشرات من علامات الاستفهام، فما جاء في المتن لم يقدم إجابات أسئلة الخبر الأساسية، لمنح الرأي العام حقه في المعرفة، وهو ما صاعد من درجات الإثارة والفضول لدى الجمهور المصري الذي لم تطالعه أي جهة رسمية بالتطورات التي من المتفرض أن يكون على دراية بها.
وأمام تلك الحالة الملتبسة والغامضة، انتشرت في تلك الليلة اجتهادات على المجموعات الخاصة المغلقة بالسوشيال ميديا، لا يرقى معظمها إلى مستوى المعلومة، إذ يدخل كل "مجتهد" ليدلي بدلوه ويضيف ما يدعي أنه خبر أو معلومة مسبوقة بتعبير "بيقولوا"، وقبل منتصف الليل صارت هناك عشرات القصص المثيرة المريبة، معظمها منقوص أو متضارب، لكن أغلبها يحمل بين طياته اتهامات مبطنة لشخصيات وجهات محلية وإقليمية.
إعلام صامت
ما زاد من تصاعد الشكوك، أن مواقع الصحف المصرية التي نشرت الخبر الأول سارعت بحذفه من على منصاتها، ما فتح بابًا أوسع للاجتهاد ولخلط المعلومات المتاحة من مصدرها الزامبي، بالكثير من التأويلات والتفسيرات التي لا يدعمها المنطق، بل بدا أن أكثرها مُحمل بمواقف أصحابها المسبقة من السلطة المصرية.
في صباح اليوم التالي 16 أغسطس، وبعد حالة الخرس التي أصابت جل منصاتنا الصحفية لما يقرب من 18 ساعة، وبعدما تكشف للرأي العام أن الخبر الوحيد الذي نُشر نقلًا عن السلطات الزامبية رُفِع بتعليمات مباشرة من جهات يعلمها الجميع، تمخض الجبل فولد بيانًا لا يسمن ولا يغني من جوع، إذ صرح مصدر مطلع لوكالة الأنباء الرسمية أن الطائرة الخاصة التي تم ضبطها في زامبيا لا تحمل الجنسية المصرية وأنها خضعت للتفتيش.
المصدر المطلع، المُجهل، الذي لم تُشِر الوكالة حتى إلى الجهة التي يتبعها، أراد أن يؤكد للجميع أن مطاراتنا "زي الفل"، فقال لزميلنا محرر وكالة أنباء الشرق الأوسط إن "الطائرة استوفت كافة قواعد السلامة والأمن التي يتم تطبيقها على أعلى مستويات داخل كافة المطارات والمواني المصرية".
وبعد نشر المواقع الصحفية المصرية ما نقلته الوكالة الرسمية عن المصدر المطلع، كَفت على الخبر ماجور كما يقال، وكأن شيئًا لم يكن وكأن العديد من المنصات الإقليمية والدولية وحسابات السوشيال ميديا لم تُشِر بأصابع الاتهام إلى شخصيات وجهات كان أولى بمؤسسات الدولة الرسمية أن تُخلي ساحاتها وتبرئ ذمتها، أو أن يصدر عنها على الأقل ما يفيد أنها تتابع القضية مع سلطات التحقيق الزامبية وأنها ستوافي الرأي العام المصري بكل المستجدات.
هذه الحالة من الصمت المريب قابلها نشاط متزايد من مواقع وصفحات اشتهرت خلال السنوات الأخيرة بتدقيق الأخبار وتتبعها، يعمل بها عدد من الصحفيين المتخصصين في صحافة البيانات لديهم خبرة ودراية كافية بتتبع المعلومات من مصادرها وهو ما أكسبهم ثقة غابت عن غيرهم لأسباب أسهبنا في شرحها مرارًا.
إن لم يُفتح الباب أمام الصحفيين المصريين للقيام بدورهم، سيظل كل ما ينشر في وسائل الإعلام المصرية محل شك، وستنعدم الثقة فيمن يحركونها
لجأ الرأي العام المصري إلى منصات مثل "صحيح مصر" و"متصدقش" وغيرهما، من التي قام صحفيوها بما كان يتعين على زملائهم بالصحف والمواقع المصرية القيام به، من تتبع خط سير الطائرة "The Bombardier Global Express" التي تحمل رقم التسجيل T7-WSS في جمهورية سان مارينو، إلى أن حطت في مطار كينيث كاوندا الدولي بالعاصمة الزامبية لوساكا وتم توقيفها في 13 أغسطس.
وتتبعت تلك المنصات أيضًا من مصادر البيانات المفتوحة خريطة تحركات الطائرة داخل مصر وخارجها، ثم نقلت ما ينشر في وسائل الإعلام الزامبية والدولية من بيانات وإفادات عن التحقيق الجاري، وكشفت عن أسماء ركاب مصريين كانوا على متن الطائرة وتم توقيفهم وإحالتهم إلى جهات التحقيق، وصولًا إلى التحقق مما نشرته الوكالة الرسمية أو رددته أبواق إعلامية مصرية على السوشيال ميديا أو في بعض الشاشات المملوكة لجهات رسمية.
نتائج عكسية
تخيل من يديرون الإعلام المصري أن القبض على أحد الصحفيين بمنصة "متصدقش"، الذي أطلق سراحه لاحقًا، سيغلق باب الاجتهاد، أو أن إعلان فريق تحريرها عن الدخول في إجازة قصيرة لـ"التقاط الأنفاس" سيدفن قضية الطائرة الزامبية في مقابر التضليل والخداع، ما حدث هو العكس تمامًا فالجمهور صار أميل لتصديق الاتهامات التي تناثرت هنا وهناك، إثر إصرار الجهات الرسمية المسؤولة على التعتيم وتعاملها بخشونة مع من أشار إلى جانب من الحقيقة.
لم يهدأ الغبار الذي صاحب محاولات تكفين ولحد وقائع طائرة زامبيا، حتى فوجئ الرأي العام بمحاولة أخرى لدفن خبر مهم بميزان الصحافة، إذ غاب عن الصحف الورقية ومعظم المواقع والمنصات الإعلامية، خبر حبس رئيس نادي الزمالك المعزول مرتضى منصور 6 شهور مع النفاذ، في واقعة التعدي على موظفة بالجهاز المركزي للمحاسبات.
عدم نشر الخبر تم تفسيره أن الرجل الذي أفسد على مدار سنوات طويلة النادي العريق، وحوَّله هو وأولاده إلى عزبة، "مسنود" كما يتردد، وقد يعود إلى صدراة المشهد مجددًا ليقوم بدروه المعهود في إلهاء الناس من خلال فقرته اليومية التي يمارس من خلالها السب والتشهير والخوض في الأعراض.
خبر آخر لا يقل أهمية عن خبر طائرة زامبيا وبالطبع عن خبر حبس مرتضى تم إهالة التراب عليه، فحتى الآن لا يعرف الرأي العام ماذا حدث بالضبط في مقر الأمن الوطني بالعريش مطلع الشهر الجاري، وباستثناء ما نشرته وكالات أنباء أجبنية وللأسف بعض منصات الإعلام العبرية، لم يكشف أي مصدر رسمي حقيقة ما جرى.
يظن المسؤولون عن إدارة الإعلام في مصر أن التعتيم على الرأي العام ودفن الأخبار والمعلومات وتغييب المواطن عن المعرفة يصب في صالح السلطة ويدعم سياستها وخططها، لا يعلم هؤلاء أن العكس تمامًا هو ما يحدث، فكلما أغلقت بابًا للمعرفة أو حجبت خبرًا عن الناس بحثوا عنه في مصادر أخرى تشبع شغفهم. قد تمنحهم بعض تلك المصادر معلومة موثوقة أو منقوصة، وبعضها ينشر شائعات وأكاذيب، والبعض الآخر يلجأ إلى خلط الخبر الصحيح بالرأي الذي يناسب سياسته التحريرية.
إن لم يُفتح الباب أمام الصحفيين المصريين للقيام بدورهم في إجلاء الحقائق وكشفها أمام الجمهور، سيظل كل ما ينشر في وسائل الإعلام المصرية محل شك، وبالتبعية ستنعدم الثقة فيمن يحركونها.
حجب الحقائق وتغييب المعلومات عن وسائل الإعلام المصرية التي تحول معظمها خلال السنوات الماضية إلى واجهات تُنشر فيها النفايات من أخبار موجهة وآراء معلبة، والاستخفاف بالجمهور الذي من المفترض أن الصحافة هي عينه التي تراقب مؤسسات الدولة، لن يحمي سلطة ولن يصنع استقرارًا، بل سيقودنا جميعًا إلى فوضى محققة.