كان ألبرتو، الفتى ذو الستة عشر عامًا، يعمل في مكتبة "بيجماليون" أحد أبرز الأماكن التي تستهوي المهتمين بالأدب في الأرجنتين، عندما مر بورخيس عليه في طريق عودته من عمله كمدير للمكتبة الوطنية، وبعد اختياره، كزبون، لعناوين من الكتب، سأل بورخيس ألبرتو إن كان لديه شيء آخر يفعله، وما إذا كان يستطيع أن يحضر إلى بيته ويقرأ على أسماعه في أوقات المساء.
بورخيس الذي كان فقد بصره في تلك الأيام كان في حاجة شديدة إلى من يقرأ له، لأن أمه، التي كانت تقرأ له لسنوات طويلة، لم تعد قادرة على ذلك بعد أن بلغت التسعين من عمرها.
لا يوجد من يضاهي خورخي في شغفه بالكتب، لكن القارئ الفذ والكاتب والشاعر الأرجنتيني العظيم، قضى ثلثي عمره تقريبًا كفيفًا، أو كما اعتاد أن يسمي عجزه "سخرية الله".
فقدَ خورخي لويس بورخيس بصره تدريجيًا، فبدأ نظره يضعف في عمر الثلاثين، ثم صار غير قادر على تمييز الألوان كلها إلا الأصفر، لونه المفضل، ولون النمور التي ولع بها، حتى أنه أهدى إليه لاحقًا كتابه "ذهب النمور"، وكان أصدقاءه يهاودنه بربطات عنق صفراء في عيد ميلاده، ثم استقر عماه الأبدي في الثامنة والخمسين، ولم يكن ذلك مفاجئًا، حيث أنه كان يتوقع فقدان بصره في يوم ما، بسبب تاريخ عائلته مع العمى، فجده وجدته كانا أصحاب بصر ضعيف، وماتا كفيفين، ووالده أيضًا أصيب بالعمى وهو في سنه، ولأنه كان ثالث مدير للمكتبة الوطنية الأرجنتينية يصاب بالعمى! أما وإن كانت تلك مصادفة فهي ليست كذلك في عرف بورخيس المفتون بالخرافة وروح الأساطير.
شاب يقرأ وقصص أخرى
كان عرض بورخيس لألبرتو يتضمن زيارته ثلاث إلى أربع مرات في الأسبوع، وهو الروتين الذي ظل الصبي الصغير يُداوم عليه من عام 1964 حتى 1968، حيث يزوره في الشقة الصغيرة التي يتقاسمها بورخيس مع أمه وخادمة اسمها فاني.
منذ زيارات ألبرتو المبكرة جدًا بدت له شقة بورخيس كأنها وُجدت خارج الزمن، أو بالأحرى في زمن تشكل من تجاربه الأدبية، زمنًا صيغ من إيقاع خاص بخورخي، عندما رن جرس الباب أول مرة، ففتحت له الخادمة، ثم ظهر بورخيس من وراء ستارة، محتفظًا باستقامته إلى أبعد الحدود، وبدلته الرمادية مزررة، ياقته البيضاء وربطة عنقه المخططة غير متناسقتين قليلًا، متثاقلًا بعض الشيء وهو يتقدم نحوه. يتحرك بحيرة بسبب عماه، حتى في مكان يألفه كبيته.
تمتد يده اليمنى وهو يرحب بالفتى بقبضة ذاهلة رخية. لا مزيد من الشكليات. يستدير ويتقدمه إلى غرفة الجلوس ويجلس باستقامة على الأريكة في مواجهة المدخل. يجلس ألبرتو على الكنبة إلى يمينه ويسأله بورخيس بخطابية "حسنًا، ألن نقرأ كيبلينج الليلة"؟
ليس في استطاعتي أن أقدم إليكم مع ذلك إلا شكوكًا
في البداية لم يعِ ألبرتو، المراهق المتغطرس في تلك الأيام، الفرصة العظيمة التي جاءته بالصدفة، أن يرافق بورخيس ويقرأ له، فلم تعد تلك الأمسيات شيئًا استثنائيًا، ولكن عمته كانت بالذكاء الكافي لتنصحه، فهي كانت معجبة ببورخيس للغاية، وارتعبت من لا مبالاة ألبرتو، وراحت تحثه وتشجعه لا على اغتنام الفرصة فحسب، وإنما على تدوين ملاحظات والاحتفاظ بدفتر يوميات للقاءاته به أيضًا، غير أن ألبرتو لم يأخذ بنصيحة عمته، ولم يدون الملاحظات واليوميات، لا لكونه تمادى في أن يرى مصاحبة بورخيس ليست شيئًا استثنائيًا يستحق التدوين، بل لأنه كان يشعر خلال تلك الأمسيات بأقصى درجات الامتلاء.
ومع الأيام سيتضح للفتى أن أحاديثه مع بورخيس، هي ما يجب أن تكونه الأحاديث دائمًا: حول دقة الكتب، واكتشاف كتب لم يقرأها من قبل، وأفكار لم تكن لتخطر له على بال؛ أفكار، بصوت بورخيس، تألقت والتمعت بكل إشراقها الثري جلي الوضوح.
صنعة القراءة
ورغم ذلك الحب للقراءة، وما استطاع تحصيله من المعارف المتعددة، أو ربما بسبب تلك المعرفة العظيمة التي حازها، فإن ما استخلصه بورخيس من سنينه كان الشك وليس اليقين.
ففي خريف 1967 ألقى كاتب الأرجنتين الأبرز ست محاضرات عن الأدب بجامعة هارفرد، امتلأت، كما كل كتاباته، آمالًا عميقة، وتذوقًا حساسًا، ونبرة ساخرة، وشك! كان حينها بورخيس في عمر السبعين، وقد كرس الشطر الأكبر من حياته للأدب، لكنه أخبر تلاميذه في ذلك اليوم أنه "ليس في استطاعتي أن أقدم إليكم مع ذلك إلا شكوكًا".
اللافت أن تلك المحاضرات القيمة ظلت منسية لأكثر من ثلاثين سنة على أشرطة التسجيل الممغنطة التي حُفظت عليها، في قبو إحدى المكتبات قبل أن تكتشف وتجد طريقها للنشر، وإلى اللغة العربية على أيدي صالح علماني الذي ترجمها في كتاب بعنوان صنعة الشعر.
ومن المذهل ضمن أشاء كثيرة مذهلة في بورخيس، أنه قدم المحاضرات الست دون الاستعانة بملاحظات مكتوبة نسبة لعماه مما ينم عن ذاكرة فذة في حفظ الشعر، والأعمال الأدبية من كل الحضارات، والأسماء والاقتباسات.
أحب بورخيس الروايات البوليسية، وكان يجد في بنائها فسحة لكاتب القصة أن ينصب حدوده الخاصة ويصب تركيزه على كفاءة المفردات والصور المركبة منها
من يقرأ بورخيس يعرف نبرته في التقليل من قيمة نفسه والتأكيد من حين لآخر أنه رجل مغمور، وذلك من تواضعه فحسب، شاء بورخيس أم أبى؛ فهو من أهم وأشهر كتاب العالم في كل العصور، وعلى الرغم من ذلك لم يكن يعد الكتابة وظيفته الأساسية؛ بل القراءة، واصفًا نفسه بأنه "قارئ تجرأ على الكتابة".
القراءة عند بورخيس "عادة اكتشاف"، فما قرأه كان أهم لديه بكثير مما كتبه، ويُبرهن ذلك حين يُذكّر معشر الكتاب بحقيقة قلة حيلتهم الأبدية "المرء يقرأ ما يرغب فيه، لكنه لا يكتب ما يرغب فيه، وإنما ما يستطيعه".
وفقًا لبورخيس فإن متعة القارئ بالكتاب أكثر من متعة مؤلفه نفسه "إن القارئ غير مضطر إلى الإحساس بالقلق والغم، إنما يتطلع إلى السعادة وحسب"، ويضيف في محاضراته ليُعلي من شأن القارئ وسلطته فيقول إن "الكتاب في حد ذاته هو شيء مادي في عالم أشياء مادية يحوي مجموعة من الرموز الميتة، لكن ما يبعثه إلى العالم هو أن يمسكه في يده القارئ المناسب، فحينها تظهر الكلمات للحياة".
ينقل ألبرتو الصغير، الذي صار فيما بعد الصحفي والكاتب الأرجنتيني المؤثر ألبرتو مانجويل، بعضًا من أسرار بورخيس، مثل أنه لم يُرغم نفسه أبدًا على قراءة كتاب لم يحبه حتى الصفحة الأخيرة، فكان يقرأ للمتعة الخالصة، وكانت مكتبته تعكس إيمانه بالصدفة وقوانين الفوضى "أنا قارئ ينشد المتعة: لم أشأ أن يكون للشعور بالواجب يد في شأن شخصي كشراء الكتب".
أحبَّ بورخيس الروايات البوليسية، وكان يجد في بنائها فسحة لكاتب القصة؛ أن ينصب حدوده الخاصة به ويصب تركيزه على كفاءة المفردات والصور المركبة منها. ورغم أنه القائل "تحيك الآلهة للإنسان المِحن لكي يكون للأجيال القادمة ما تغني عنه"، ويبكيه الشعر الملحمي، فإنه في الوقت نفسه لم يكن متعاليًا على الميلودراما، فكان يبكي لمشاهدة أفلام الغرب الأمريكي ورجال العصابات، ومرة أجهش بالبكاء في نهاية فيلم ملائكة بوجوه قذرة، وأخرى وهو يشاهد فيلم "واقفًا على حدود البامباس" في مشهد تدحرجت دمعة على وجنته وتمتم "Carajo، la patria" أي "بعد الله، يا وطني"!
كان بورخيس يرى أننا لكي نقرأ كتابًا، يجب أن نؤمن به، فرغم كونه متيمًا بدون كيخوتي، لم يكن واثقًا تمامًا من مغامراته، لكن عدم تصديق الأحداث ليس شيئًا ذا أهمية في رأيه؛ فما يهم حقًا هو إيمانه نفسه، "أنا أؤمن بالفارس نفسه، وحتى إذا ما قال لي أحدهم إن هذه الأشياء لم تحدث قط، فأنني سأواصل الإيمان بدون كيخوتي مثلما أؤمن بشخصية صديق".
المصادر
(1)مع بورخيس، تأليف ألبرتو مانجويل – ترجمة أحمد م. أحمد – دار الساقي – نسخة تطبيق أبجد.
(2)صنعة الشعر. تأليف خورخي لويس بورخيس – ترجمة صالح علماني - دار المدى للنشر.