من بين عديد تعريفاتها التي ما تزال تتناسل إلى الآن، يميل الكاتب منتصر القفاش إلى تعريف يحيى حقي للقصة القصيرة بأنها "فن المقدمات المحذوفة"؛ يراه تمثيلًا ليس فقط لفريضة التكثيف، وحيوية الإيقاع، وتبئير الحدث، وإنما أيضًا لخلق صلة مع القارئ بجعله مباشرة جزءًا من عالم النص، دون حاجة إلى شرحٍ أو تمهيد.
بلغ ذلك ذروته في كتابه القصصي الأحدث "بصورة مفاجئة"؛ بسبب طبيعة نصوص الكتاب التي جمعتها -جنبًا إلى وحدة العالم- صفات مثل العادية والمألوفية وإنسانية التفاصيل وحساسيتها بصورةٍ بدت معها كل قصةٍ للقارئ كأنها قصته هو، فقط انتبه إليها أحدهم وكتبها، أو كأنما هي قصة الجميع.
تدور المجموعة في عالم عائلي في حكاياته وأسراره والعلاقات بين أفراده في مراحل زمنية مختلفة وإن غلب عليها الطفولة وبواكير الشباب، حيث الدهشة وطزاجة الاكتشافات الأولى ودأب البدايات، والافتتان بما يعده الآخرون عاديًا ومهملًا.
كان ياما كان
العادي هو المنطقة الأثيرة لمنتصر القفاش، يراه "أهم منابع الإلهام"، ووسيلة لتفادي وصفات الكتابة السائدة محسوبة التأثير ومتوقعة الإثارة، أو هو وصفته الضد التي استلهمها من كتابة اليوميات، "من خلال كتابة اليوميات تفهمت كيف تكتب تجربة تبدو عادية مجردة من كل الإغراءات الفنية، تجربة تكاد تكون ملقاة على الطريق بالفعل، وفي الوقت نفسه تستطيع أن تكشف أن هذه العادية هي مجرد تمويه أو ستار يخفي وراءه مستويات أخرى أكثر عمقًا".
يتألف الكتاب من سبعة عشرة قصة من بينها " كان يا ما كان.. تلك الحرب"، "وفي يوم من ذات الأيام"، "فتح الصندوق"، "حكي الأحلام"، "أماكن الكنز"، "تلك الأوقات"، و"تلك الظلال"، وهي عناوين ذات حمولة ضمنية تهيئ القارئ وتشحذ حواسه، إذ تبدو أقرب إلى الاستهلالات الشفاهية للسير الشعبية بموتيفاتها المعروفة.
غير أن الأمر هنا مختلف تمامًا؛ فلا قضايا معضلة ولا هموم غائرة ولا أبطال خارقين، وإن لم يعدم الشخوص أساطيرهم الشخصية.
تنبني النصوص على استنطاق العادي وتقشير طبقاته تقصيًا لمفاجآت ستنتخبها الذاكرة فيما بعد، وإفساح المجال لبطولة الأشياء وإعادة توظيفها ضمن سياقات مغايرة، وشحنها بتواريخ ماضوية ثرية، تبدو ضمن عالمها أشبه بملاحم صغيرة.
"أمتلك سرًا لم أقرر بإرادتي أن يكون سرًا، لكنني أصارح نفسي أنه هكذا يكون السر: شيء لا يمكن أن تفصح عنه حتى لو أردت. ولا يقبل القسمة على اثنين. ولا تقدر على إقناع أحد بوجوده أصلًا".
كلمة السر
خلال مسيرته الأدبية كأحد أبرز كتاب السرد بجيل التسعينيات، صدر لمنتصر القفاش ثمانية أعمال، تساوى فيها عدد المجموعات القصصية "نسيج الأسماء"، "السرائر"، و"شخص غير مقصود"، مع عدد الروايات "تصريح بالغياب"، "أن ترى الآن"، و"مسألة وقت"، بواقع ثلاثة لكل فن، فيما اختار لعمليه الأحدث "في مستوى النظر" (التنوير 2012)، و"بصورة مفاجئة" (الكتب خان 2023)، تصنيف "كتاب قصصي"، وهو بحسبه شكل يقع في منطقة وسطى بين القصة والرواية، وله جماليات خاصة به تسمح بقراءة كل قصةٍ على حدة، وبإمكانية ترابط القصص مع بعضها البعض لتكون عالمًا واحدًا.
ضمن هذا النوع الأدبي هناك دائمًا قصة مفتاحية، أقرب إلى كلمة السر، التي بمجرد العثور عليها تبلور أمامه مشروع الكتاب، وتتوالد في إطارها القصص، وتظل سيّارةً في فلكها، مشكِّلة مايمكن اعتباره العالم الكلي للنص أو الجو العام.
على أن مركزية هذه القصة المفتاح لا تعني بأي حال تصدرها للكتاب القصصي، فقد تصادف في العمل الحالي "بصورة مفاجئة" أن جاء ترتيبها في نهاية الكتاب، رغم أسبقية زمن كتابتها، وهي القصة التي حملت عنوان "صوت ما".
في "صوت ما" يُختص الراوي وحده بسماع صوت رجل يتلو مناجاةً مستمرة لحبيبته التي هجرته، متوسلًا إليها أن تعود إليه، وذلك بلغة شبه شعرية، أو أقرب للغة الكلاسيكية لكتابة الرسائل.
يظل الراوي مطاردًا بذلك الصوت طالما لم يبرح غرفته، لا يقدر على إيقافه ولا إسماعه لآخرين، ولا حتى إفشاء سره الذي لا يملك التدليل عليه "كنت سأتفهم الأمر لو كان الصوت لأبي، فهذه غرفة مكتبه التي كان يحب الجلوس فيها طويلًا، وقراءة أحد الكتب التي جلّدها بنفسه، وختم الصفحة الأولى منها بختم صغير محفور فيه اسمه بالخط الثلث".
بتلك الكلمات يدحض الراوي/الكاتب التأويل الوحيد الذي قد يلجأ إليه القارئ لتفسير لغز الصوت، بناءً على ما تخلل قصص الكتاب من ذكرٍ لوجود أب مثقف، مولع بكتابة الشعر والرسائل، وتقض نومه ذكرى حبيبة فارقها بسبب وشاية حاقد، طالما فكر الأب في قتله انتقامًا، لكنه في المقابل يمنحه في نهاية الكتاب مفاتيح قراءته، أو معاودة قراءته بعين جديدة، تبدو إزاءها القصص المختلفة كفقراتٍ متباينة الطول ضمن نصٍ واحدٍ.
يتعمد الكاتب إزاحة ذلك التأويل، فيما يبدو محاولةً منه لكسر الإيهام، أو للإبقاء على سمت النهايات المفتوحة التي تميز كتابته أو لا نهائية الدلالات، لكن يظل الأب صوتًا ورمزًا مركزيًا، ليس فقط لهيمنة حضوره السردي عبر غالبية النصوص، بل لأن قراءةً أخرى لذلك النص الكثيف تجعله يبدو أقرب إلى مرثيةٍ باسمة، أو سياحة ذهنية بين صور الماضي، تمتزج خلالها الضحكات والدموع، ولا تدري إن كانت تستهدف الاستعادة للمحو أم للخلود، لكن الجلي أنها مدفوعةٌ بحنينٍ جارفٍ، وبافتقادٍ جاهد الكاتب ألا يكون ميلودراميًا.
ما انقضى زمنه
في النصوص ثلاثةُ أجيالٍ من الآباء: الجد، الأب، والراوي. يجمعهم النبش في الماضي، في إعادة تذوق ما انقضى زمنه، أو انطفى بريقه بفعل العادة، كظل شجرةٍ مورقة، أو صخب تلاميذ المدارس أثناء طابور الصباح، أو ابتسامات الوجوه على فاترينة استوديو تصوير، ولعب الصبا وألاعيب المرايا.
ولصعوبة استعادة الماضي نقيًا، يضطلع الفن بترميم فجوات الذاكرة بالخيال، واستنفار ذاكرة الحواس لرسم صورةٍ مشذبةٍ، أو أيقونات مصوغة بعنايةٍ، وإن تجاوزت سقف الواقعي أحيانًا إلى ما هو فوق الحياة قليلًا، بسلاسةٍ وبلا عثرات تفقد الأحداث منطقها، في تماسٍ مع كتابات كافكا، التي طالما توقف منتصر عند قدرتها على "أن تحكي غير المألوف دون أن تحتاج إلى تبريره، ودون أن تحتاج إلى تأكيدات مستمرة على أنه مفارق لما اعتدنا عليه".
لقاء تلفزيوني مع منتصر القفاش عن "بصورة مفاجئة"
لا ينتمي نص القفاش إلى الواقعية السحرية، ولا يمكن وسمه بالعجائبي أو المفارق لقوانين الواقع، وإنما إلى "ما لا نستطيع تصنيفه ووضعه فى خانة من الخانات المتعارف عليها"، فما الغريب في الحديث مع أحبةٍ راحلين وإنكار غيابهم كما يفعل الخال مع زوجته المتوفاة في قصة "دور شطرنج"؟، أو في الاحتكام لرسائل الأحلام والاهتداء بشفراتها في متاهة الواقع، كما في قصة "حكي الأحلام"؟، أو في تجسد مخاوف طفلٍ في كلبٍ بثلاثة رؤوس ينفرد برؤيته وتربية ظله إلى أن يرثه أولاده كما في قصة "تلك الظلال"؟، أليس ذلك تناصًا مع رباعية صلاح جاهين: سهِّير ليالي وياما لفيت وطفت/ وفي ليلة راجع في الظلام قمت شفت/ الخوف كأنه كلب/ سد الطريق/ وكنت عاوز أقتله بس خفت؟
أليست تلك الغرائبية -إن جاز اعتبارها كذلك- متماسة مع بعض أو كثيرٍ من سيرة كلٍ منا؟، فضلًا عن دورها ضمن مراحل إنتاج النص، حيث تجعل بحسب الكاتب "رحلة الكتابة أكثر إمتاعًا لأنك تصل إليها من خلال مشهد عادي".
لطالما كانت الغرائبية المختلسة من العادي معادلة أصيلة في كتابات صاحب "السرائر"، أو هي إحدى معادلاته التي شكلت عبر أعماله بصمته الأسلوبية وصوته الخاص من خلال عوالم نصوصه، التي يجمعها الاحتفاء بالمدينة كمكان، وبمفردات حياة الطبقة الوسطى المتعلمة وهمومها وشواغلها، والاهتمام الكبير بالبناء الفني والتطوير داخل إطار الشكل، وجعله شريكًا رئيسيًا في إنتاج المضمون، فضلًا عن الانشغال باللغة كأداة وظيفية مشحونة بالأفكار والدلالات والمشاعر دون نتوءاتٍ أو زوائد.
وهو في اشتغاله على اللغة يؤكد ضمنيًا أصالة انتمائه للنادي الذي أسسه الراحل الكبير يحيى حقي وجعله وقفًا على "من لمسه الفن بعصاه السحرية، أيًّا كان عصره أو لغته أو دينه أو جنسه أو لونه"، واشترط لعضويته ما وصفه بـ"توقير الكلمة" مع الحرص على "ألا يبدو على الكلام أثر من عرق الكاتب وجهده، بل لا بد أن يختفي هذا كله حتى ليبدو الأسلوب شديد البساطة".
وتجدر الإشارة إلى أن حقي هو موضوع الكتاب المقبل لمنتصر القفاش، الذي يعمل عليه منذ سنوات، ونشر مقتطفات منه في بعض الدوريات الثقافية، ويقدم مفاتيح لقراءة عالم صاحب القناديل وأعضاء ناديه وأولهم مؤلف الكتاب.