إذن "تيران وصنافير مصرية"، وبحكم محكمة نهائي، وليس فقط بملايين الصيحات في الشوارع والمقاهي والمكاتب والبيوت. هكذا ضاع "الرز" على رئيسنا المحبوب، أو يبدو ذلك. كان يقال إن ثمن بيع الجزيرتين مليارات، ولكن المارشال بلا معركة خسر الصفقة، أتى المارشال ليقنع المصريين ببيع أرضهم في بلد تنتشر فيه الخلافات العائلية المتعلقة بالميراث، وأغلبها يكون على قطعة من الأرض. هل يبدو هذا غريبًا؟
لا، ففي الحقيقة راقب المصريون رئيسهم، أو على وجه الدقة "رئيس سلطة الأمر الواقع" وهو يطالبهم بالتخلي عن العملات الصغيرة المتبقية من تعاملاتهم المالية في البنوك من أجل مصر. لم يذكر الرجل حتى بواقي التعاملات المالية الكبيرة الخاصة بالشركات، بل ضرب مثلاً بمبلغ الألف وثمانمائة جنيه، أي ما يعادل الاثنين وخمسين دولارًا تقريبا بسعر ما تبقى من الصرافات.
ساعتها لم يفكر الرجل في حل المشكلة الاقتصادية بفرض ضرائب تصاعدية على الأغنياء، أو اللجوء إلى مؤسسات الجيش المتحكمة في قطاعات بحالها في الاقتصاد المصري، بلا ضرائب أو ساعات عمل أو أجور؛ وإنما طلب من جموع المنسحقين أنفسهم بالدفع بدون حتى أن يحدد آلية بعينها. لم يكتف الرجل بهذا، إنما أعقب طلبه بأن هدد بالجيش، الذي يستطيع الانتشار في مصر "في ست ساعات"، مستعيدًا أمجاد حرب أكتوبر، ولكن في هذه المرة في مواجهة بني جلدته، وأضاف إنه إذا تعرضت مصر للاهتزاز فلن نكون في حال "ينفعنا" أو "ينفع غيرنا".
الجيش الذي شاهدنا تسريبات لقادته الذين يحاولون إقناع جنوده بسعودية تيران وصنافير. هو نفس الجيش الذي فشل في حماية مواطنيه الأقباط في شمال سيناء.
والآن هو لا يقدر على فرض ضرائب على البورصة، رغم مطالبة صندوق النقد الدولي بها، أسد على الفقراء، ونعامة خجلى على القطط السمان.
إذن فمن الطبيعي أن يطالب رئيس كالسيسي أهل مصر ببيع الجزيرتين
في الحقيقة الموضوع لا يكمن في السيسي، ولا في نظامه فحسب، إنما يكمن في ذات الدولة المصرية نفسها. هذه الآلة الصماء التي صُنعَت فعليا عقب العام 1954، واستقرت دستوريًا في العام 1971، كمسخ شائه عن الجمهورية الفرنسية الخامسة.
يمكنك أن تنظر إلى خريطة العالم، وتحدد القوى الفاعلة فيه، لا تندهش عندما تكتشف أن دول الشمال الأوروبي التي تأخذ بالنظام البرلماني؛ أقوى وأكثر تطورًا من جنوبه. يقترن النظام البرلماني بأخلاق العمل البروتستانتية، حتى الدول التي أخذت بالنظام البرلماني في الجنوب مثل أسبانيا والبرتغال، لجأت إليه بعد خبرتها مع ديكتاتوريات رئاسية مؤلمة، وكان النظام البرلماني حلاً لهذا الاستبداد.
وحتى عندما تبرز الولايات المتحدة كقوة عظمى ديمقراطية تتبع نظامًا رئاسيًا، فسوف تكتشف تعديلاً فريدًا من نوعه: الرئيس هو رئيس الوزراء أيضًا. هذا ليست رئاسة فرنسا، ولا مصر، ولا جمهوريات الموز المعتادة.
ولكن في حالة مصر، فبالإضافة إلى المسخ الفرنسي الذي أثبت قصوره، هناك اتفاق علني على مباديء لن تدخل "حفل الجيش الساهر "بدونها: الشعب غير مجهز للديمقراطية التي ستأتي بالتيار الديني، الجيش هو عامود الخيمة، الرئيس يجب أن يكون من أبناء "القوات المسلحة"، والدولة لا بد وأن تكون رئاسية. هناك معارضة للدولة، لكنها عبارة عن أسماء نعرفها جميعًا، والتي من الممكن أن تشتبك علنًا مع رأس النظام، لكنها ستبقى وفية دائمًا وأبدًا لمبادئ الدولة الحاكمة: "لا يعجبنا هذا الجنرال، آتونا بآخر".
هكذا غُلب الثوار الليبراليون والإخوان المسلمون الذين تم الضغط عليهم بواسطة الجيش وصبيانه من اللائكيين (معتنقي العلمانية كديانة، أتباع مدرسة فرنسا العلمانية المتشددة) للتخلي عن مطلب تطبيق دستور 1954. لقد بدأ الثوار من نقطة عالية، وهي تغيير العربة، ليجبرهم الجيش على إبقائها، ثم يصل الحال إلى التعارك على من يقودها، بينما يمسك الجيش بذات المفاتيح التي حفظها غيبًا منذ ستين عامًا.
فحتى بواقي الاتساق مع الأصل الفرنسي؛ تعرض للتشويه. يبقى دستور 2014 محافظًا على ازدواجية السلطة ما بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، وإن بتفصيل أقل عن نظيره الفرنسي، مع اختلاف مهم عن دستور 2013: إذ لم يعد حامل الأغلبية البرلمانية مؤهلًا أوتوماتيكيًا لتشكيل الوزارة.
لكن الجيش لم يكتف بذلك؛ بل يلتف على المبدأ الدستوري بوسيلتين، أولاهما: تغيير الحقائق علي الأرض، بهيمنته علي الاقتصاد وهي القوة الحقيقية، وتشجيع الحملات ضد الحكومة المدنية والترويج لكون الحل هو تولي العسكريين لمناصبها. ثم تأتي الوسيلة الثانية بتشجيع خطاب معارض يرى في العزوف عن الاشتباك الانتخابي، تصويتا ومراقبة، نصرا سياسيا. هكذا تهيمن المؤسسة العسكرية على النص في نهاية الأمر.
ونحن في غمرة شائعات عن عزوف السيسي عن الترشح من جهة، أو جهود تعديل الدستور لتولية الرئاسة مدى حياته فعليًا من جهة أخرى؛ فبدون تغيير مثل هذه البنية، ونزع شروط الولاء سابقة الذكر، فغالبًا سوف نبقى مع هؤلاء البلهاء الخسيسون، الذين نتجوا عن دولة شائهة ونظام لا يدين بالولاء إلا لنفسه. فبدون تداول حقيقي للسلطة أو إعادة ترشيد مساراتها وآلياتها؛ قد نرى مثل هذا العبث يتكرر مرة بعد أخرى، ربما ليس بالتصريحات الحمقاء التي نشهدها حاليًا، لكن عبر كلام منمق وأنيق ولكنه مجوف وسطحي، وهي في الحقيقة ذات الطريق التي قادتنا للسيسي: سنبقى مع رؤساء البواقي والفُضل.