قبل أيام وصفَ ضابطٌ في جيش الاحتلال، العمليات التي تشنها إسرائيل في جنين، بالفيلم الأمريكي سقوط الصقر الأسود؛ "تحول كل اعتقال بسيط في جنين إلى وضع يشبه بلاك هوك داون"، في استدعاء إلى الكمين الكارثي الذي يستعرضه الفيلم، ودخلت فيه قوة أمريكية في مقديشو، عاصمة الصومال في التسعينيات.
يكشف التصريح الذي أدلى به الضابط الكبير، ما يمكن أن نسميه بعقدة جنين في العقلية الأمنية الإسرائيلية. إذ يظهر المخيم كـ"عاصمة للرعب"، مما دفع دولة الاحتلال في الفترة بين 3 إلى 5 يوليو/تموز الجاري إلى القيام بأكبر هجمة أمنية في الضفة الغربية منذ اقتحام جنين نفسها في 2002. تلك العملية التي سببت عقدة جنين الأولى في الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، وذلك بعد سقوط 23 عسكريًا إسرائيليًا، 13 منهم قُتلوا في يوم واحد وفي شارع واحد. تبدو جنين غزة مصغرة لكن بالقرب من قلب إسرائيل.
في العملية الأخيرة، نشرت إسرائيل مئات من وحدات النخبة في المدينة ومخيمها، ونفذت لأول مرة منذ عقدين حوالي 10 غارات جوية في الضفة على ما قالت إنه غرف للقيادة والسيطرة لقوى المقاومة الفلسطينية، وجرفت الطرق للكشف عن أي مفخخات في الطريق.
القراءات الخاطئة تؤدي إلى استنتاجات خاطئة
تفاقمت عقدة جنين الأمنية لدى إسرائيل رغم كل محاولات دمجها مع الاقتصاد الإسرائيلي، وذلك لأسباب عدّة منها تنامي ما يسمى بالهوس الإيراني. ووفقًا لمصادر أمنية إسرائيلية، فإن جزءًا كبيرًا من الاضطرابات في الضفة يرجع إلى استخدم إيران للفلسطينيين في حربها بالوكالة ضد إسرائيل. وبناءً على لهذه العقيدة، فإن أغلب المقاومة في جنين هي امتداد لمحاولة إيران كسب أرض جديدة في حربها منخفضة التكلفة مع إسرائيل.
تبدو السلطة الفلسطينية غائبة بأجهزتها عن المخيم وهذا استنتاج إسرائيلي صحيح
تختلف نظرة إسرائيل للضفة عن نظرتها لغزة، ففي حين ترى الثانية كجيب معزول نسبيًا يمكن احتواء خطره الأمني حتى ولو بتكلفة كبيرة، فإنها تنظر للضفة كحديقة خلفية مباشرة قريبة من القلب النابض لها، وأطلقت إسرائيل اسم كودي على العملية الأخيرة وهو "بيت وحديقة".
وفقًا لهذا التصور، فوجود إيران في الضفة يعتبر خطرًا وجوديًا لا ينبغي التسامح معه. وتصاعد هوس تل أبيب بطهران بعد عملية تفجير المدرعة الإسرائيلية في 19 يونيو/حزيران التي أحدثت تحولًا نوعيًا في الصراع، وأثبتت أن هناك تطورًا على مستوى التسليح الذي أصبح يعتمد على المفخخات شديدة الانفجار، وعلى مستوى التكتيكات علقت المدرعة في كمين نيراني فلسطيني مما اضطر الجيش للتدخل الجوي لإجلاء طاقم المدرعة الجريح.
القراءة الإسرائيلية للموقف في الضفة موجهة بالأمنيات أكثر منها بالوقائع، وترتكز على لوم عوامل خارجية بدلًا من البحث عن الأسباب الموضوعية
غذت هذه العملية أسطورة الهوس بإيران وقدراتها على إمداد المقاومة بأسلحة أكثر تعقيدًا، كما حسمت القرار الإسرائيلي بضرورة إطلاق عملية موسعة للبحث عن صندوق إيران الأسود في جنين وتفكيك شبكاتها المزعومة.
وهذه الشبكات تقع فقط في خيال صانع الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، فإيران لا وجود لها في الضفة مقارنة بالعواصم الموالية لها، والضفة ليست في مجالها الحيوي بالمعنى الاستراتيجي كما يذهب لذلك محللون إسرائيليون، لكن هناك تنسيقًا تجمعه المصالح بين بعض فصائل المقاومة الفلسطينية وإيران. لذا فإن محاولة إسرائيل تفكيك الوجود الإيراني في الضفة تبدو مثل محاولة لتفكيك الفراغ.
وينظر البعض لغياب السلطة الفلسطينية عن جنين وضعف قدراتها على أنها أحد أسباب الاضطرابات. تبدو السلطة التي أضعفتها إسرائيل أولًا، فضلًا عن فسادها ثانيًا، غائبةً بأجهزتها عن المخيم، وهذا استنتاج إسرائيلي صحيح. لكن فلسطين ذاتها كقضية حاضرة بقوة، ولا تُجدي الحلول الأمنية إذا ما تم إطلاق الرصاص على الحلول السياسية.
القراءة الإسرائيلية للموقف في الضفة موجهة بالأمنيات أكثر منها بالوقائع، وترتكز على لوم عوامل خارجية بدلًا من البحث عن الأسباب الموضوعية، وتُتهم إيران حينًا، وهشاشة السلطة الفلسطينية حينًا، وانتشار دعاية فصائل المقاومة في أحايين أخرى، بحيث ترصد كل العوامل إلا العامل الأساسي الذي يسبب الأزمة. وهو الممارسات الإسرائيلية ذاتها واستبدال حل الدولتين بحل الدولة المهيمنة بقوة الأمر الواقع.
لذا فإن تضخيم العوامل الخارجية يمنح الحكومة الإسرائيلية ذريعة متخيلة تخلق حلًا متخيلًا.
توازن الأذى.. وتوازن الفزع
على الرغم من اختلال توازن الأذى لصالح إسرائيل، وقدرتها على إلحاق الضرر بالفلسطينيين لا تقارن بقدرة الطرف اﻷخير، فإن ما تسعى إليه المقاومة هو توازن الفزع، أي قدرتها على إقناع إسرائيل بأن هناك ثمنًا كبيرًا سيتم دفعه مع كل ضرر كبير يلحق بالفلسطينيين.
تحاول المقاومة خلق منطق ردع مضاد للمنطق الإسرائيلي. وهو ما نجحت فيه حتى في عملية جنين. فبخلاف استخدام تكتيكات حروب العصابات ضد جيش نظامي، والتي ألحقت ضررًا بآليات مدرعة إسرائيلية حتى اليوم الأخير للقتال، أظهر الفلسطينيون قدرة على القيام بعمليات منسقة وليست مجرد أفعال فردية عشوائية.
لم تحدث الردود الفلسطينية توازنًا في الأضرار دون شك، لكنها أحدثت توازنًا ولو مؤقت في الفزع
كان هناك هجوم طعن في بني براك وعملية دهس وطعن في تل أبيب، وهجوم لم يسفر عن إصابات في نابلس، بخلاف إطلاق صواريخ استهدفت مستوطنات غلاف غزة، في يوم إعلان جيش الاحتلال انسحابه من جنين.
وسع الفلسطينيون نطاق عملياتهم حتى شملت الخط الأخضر لمقاومة محاولات إسرائيل لعزل وتقطيع المناطق الفلسطينية أمنيًا، كما هدد تنويع مناطق الاستهداف بخروج الأمور عن السيطرة الجغرافية وتحول العملية إلى مواجهة شاملة مكلفة، تضيف مزيدًا من التحديات على حكومة اليمين الإسرائيلي، المضغوطة بتحديات داخلية بسبب صراعها مع المعارضة والشارع على إثر قانون السلطة القضائية، ومواجهات خارجية مع حلفاء إسرائيل المتوجسين من التوجه اليميني للحكومة.
من الفائز ومن الخاسر؟
عملية جنين هي تصادم إرادات طرفين يهدف كل منهما إلى الحفاظ على معادلة الردع الخاصة به. فالطرف الإسرائيلي يؤسس معادلته الأمنية على أن الوضع سيتحسن باستخدام مزيد من القوة وإلحاق مزيد من الضرر والتنكيل بنموذج للمقاومة لمنع بؤر جديدة من الظهور.
وهي المعادلة التي أثبتت فشلها على مدار العام الماضي، الذي يعد أكثر الأعوام دموية في الصراع في الضفة منذ عقد من الزمن. فالمواجهة النشطة لم يتم احتوائها، بل انتقلت من غزة إلى جنين ونابلس والخط الأخضر نفسه. والفصائل التي كانت تتحرك فرادى، شكلت غرفًا مشتركة للقيادة والتنسيق مدعومة بوسائل اتصال حديثة.
نجحت إسرائيل على المستوى العملياتي في جنين وفقًا لـرواية الجيش الإسرائيلي في تفكيك ستة منشآت لتصنيع المتفجرات وثلاث غرف عمليات، وصادرت كميات كبيرة من الأسلحة. رفع نتانياهو شعار "إذا عادت جنين إلى الإرهاب - سنعود إلى جنين". لكن تبدو الأمور أكثر تعقيدًا من رفع الشعارات. فالأسباب الموضوعية للمقاومة لم زالت قائمة، كذلك قدرة الفلسطينيين على إلحاق الضرر بإسرائيل.
لم تحدث ردود المقاومة توازنًا في الأضرار دون شك، لكنها أحدثت توازنًا، ولو مؤقتًا، في الفزع وصدرته خارج حدود العملية وأحبطت هدفًا إسرائيليًا آخر هو عزل وتحييد الضفة عن غزة.
نحن أمام صراع إرادتين لكل منهما أهداف استراتيجية يحاولان الوصول إليها. ففي حين تحاول إسرائيل إرغام الخصم على الإذعان الكامل عن طريق ردع قائم على منطق "إني قادر على إلحاق ضرر بك لا يمكن تحمله". تقوم استراتيجية المقاومة على منطق مضاد له ثلاث رسائل: الأولى أيًا ما كان الضرر فنحن قادرون على تحمله. والثانية، قادرون على الرد عليه بضرر أقل منه، لكنه موجع ومكلف. والثالثة، إن هذا الرد سينتشر جغرافيًا بحيث لا يتم عزل مكان في فلسطين التاريخية عن الآخر.
لذا فإن البحث عن إجابة من الفائز ومن الخاسر في عملية جنين الأخيرة مرتبط بمن القادر على تثبيت منطق ردعه واستدامته لأطول فترة ممكنة.