الأيام ثقيلة، تشبه بعضها. يحاوطها القلق، ويملؤها انتظار جلسة أخرى في المحكمة، ,تتخللها امتحانات شهادة الثانوية العامة. رحلة بدأتها أمل عبد الحميد في سن صغيرة، ولم تكتب لها النهاية بعد.
أمل واحدة ممن وقعن ضحية جريمة اغتصاب، ومن القليلات اللاتي تشجعن للإعلان عما حدث لها عام 2018، عندما اعتدى عليها أحد زملائها بقريتها، انتظرها حين عودتها من أحد الدروس الخصوصية، وتهجَّم عليها وضربها حتى فقدت الوعي ثم اغتصبها؛ كانت النتيجة طفلة تبلغ اليوم 4 سنوات، تكافح أمها من أجل نسبها لأبيها.
رحلة شاقة وحبال طويلة
أمل، التي لم يتجاوز عمرها العشرين سنة، لم تعرف للراحة طريقًا منذ تلك اللحظة التي غيرت حياتها، من فتاة تتلخص حياتها في المدرسة والدروس الخصوصية، إلى أم تقضي أيامها بين رعاية طفلتها چودي، وبين أروقة المحاكم في محاولة لإثبات نسبها لوالدها، واستخراج شهادة ميلاد لها، لتتمكن من ممارسة حياتها الطبيعية. "البنت أخدت تطعيماتها لكن إلى الآن متسجلتش والموضوع ده قاهرني أوي؛ لإني عاوزاها تدخل مدرسة وتكون زي بقية الأطفال"، تشكو أمل.
تمكنت أمل على مدار السنوات الماضية من الحصول على حكم بالحبس للجاني، بعد الطعن على حكم تبرئته في الدرجة الأولى من تهم الخطف والاغتصاب.
ساعد سحب عينة DNA من المتهم على إثبات أبوته للطفلة، وقضت محكمة النقض في أكتوبر/تشرين الأول 2022 بحبسه سنة مع الشغل. تتساءل أمل "ليه واحد اتحكم عليه بثبوت التهمة، والعينة كمان متطابقة، والقاضي ميرضاش يثبت نسب الطفلة ليه.. إيه ذنبها وهل هتعيش طول عمرها من غير اسم ولا مستقبل خلاص.. ولا مطلوب مني دلوقتي إني أتخلص منها؟!".
لا يوجد حرج في استخدام البصمة الوراثية لإثبات النسب، كيلا يُفلت الجاني بجريمته
لكن "حبال القضاء طويلة"، هذا ما يؤكده عبد الفتاح يحيى، محامي بمؤسسة قضايا المرأة المصرية، ويضيف "تتمثل المعضلة الرئيسية في قضايا نسب أبناء المغتصبة في عدم اعتراف القضاء بأبناء الزنا والاغتصاب، وعليه فلا ينسب الطفل لوالده". تعتمد المحكمة في نظرها لقضايا النسب القاعدة الشرعية "الولد للفراش"، والتي تستند إلى الحديث "الولد للفراش وللعاهر الحجر"؛ أي أن الزاني لا حق له في الولد، ولا يُعترف به عمومًا إلا في ظل العلاقة الزوجية.
جاءت تعديلات قانون الطفل، متضمنة المادة 4 في قانون 126 لسنة 2008، والتي تنص على أن للطفل الحق في نسبه إلى والديه الشرعيين والتمتع برعايتهما، وله الحق في إثبات نسبه الشرعي إليهما بكافة وسائل الإثبات، بما فيها الوسائل العلمية المشروعة، غير أنه عند رفع دعوى لإثبات النسب بمحكمة الأسرة يتم العمل بالفتوى الشرعية السابقة، حسبما يوضح عبد الفتاح.
ويستطرد عبد الفتاح إن "عدم الأخذ بالتحليل يعني حرمان الطفل من حمل اسم أبيه، وللأسف بالنسبة للمحكمة الاغتصاب مثل الزنا، فكلاهما لا يُثبت نسبه لوالده؛ لأنه لم يولد في ظل علاقة زوجية، وهو ما أراه خللًا تشريعيًا واضحًا، قوانيننا في مسألة الأحوال الشخصية تستند في الرأي الشرعي إلى المذاهب الفقهية المعروفة، والتي من بينها ما يراعي حفظ حق هذا الجنين الذي لا ذنب له، ويمكن الاستناد إليه".
الأمر نفسه يؤكده عضو جبهة علماء الأزهر، عصام تليمة، إذ يرى عدم وجود حرج في استخدام البصمة الوراثية لإثبات النسب، كيلا يُفلت الجاني بجريمته، فإذا ثبت بطريقة قطعية لا تقبل الشك أن الجنين ولده فإنه يُنسب إليه. والمصلحة هنا هي الأَولى بالتقديم، وهي مصلحة الطفل، والمجتمع معًا.
لكن المحكمة لا تزال تتمسك بفتوى دار الإفتاء المصرية التي تنص على أنه "عند عدم وجود الفراش الصحيح؛ بأن يكون الولد ثمرة زنًا (سواء باغتصاب أم بغيره)، فلا يثبت بذلك نسبٌ؛ فماء الزنا هدَرٌ، وفي هذه الحالة يثبت النسب إلى الأم فقط، وعليها إسكانه وحضانته ونفقته وكل أوجه الرعاية التي تستلزمها تربيته، وفي الميراث يحصل التوارث بينه وبين أمه وأقاربها فقط؛ لأنه ولدها يقينًا ومنسوب إليها".
تتمحور حياة أمل حول قضيتها، وتشاركها العديد من الفتيات والنساء الهم ذاته، إثبات نسب أطفالهن. إذ بلغ عدد جرائم العنف المُبلغ عنها، والتي ارتكبت ضد النساء والفتيات في مصر 1006 واقعة عنف خلال 2022، حسب تقرير لمؤسسة إدراك كان من بينها 40 جريمة اغتصاب.
طاقة أمل
في ظل العمل بقانون يحرم الطفل من أول حق له في الحياة، وهو أن يحيا باسم أبيه بين الناس ويُعرف نسبه، أصدرت محكمة الاستئناف بشبين الكوم حكمًا فريدًا فجّر جدلًا فقهيًّا خلال العام الماضي، في قضية اغتصاب رقيب شرطة لفتاة لم يتعد عمرها 12 عامًا، في إحدى المؤسسات العقابية.
وما حدث أنه بعد اغتصابها، حُرر محضرًا ضده بشهادة الجميع، وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات. وبعد إكمالها أشهر الحمل ووضعها المولود، توجهت إلى مكتب الصحة لاستخراج شهادة ميلاد له؛ إلا أن المسؤولين رفضوا ذلك لعدم وجود قسيمة زواج، ونُصحت برفع دعوى أمام محكمة شبين الكوم.
وفوجئت بالحكم الابتدائي يرفض إثبات نسَب الطفل، وقدمت حافظة مستندات، منها حكم المحكمة العسكرية بحبسه، وكذلك التقارير التي تؤكد تطابق الحمض النووي للطفل معه، وبعد تداول القضية قضت المحكمة بإلغاء حكم أول درجة وإثبات نسَب الطفل لوالده.
وهو ما عزز الأمل بنتيجة مماثلة لدى فتاة الدقهلية، إذ تنتظر جلسة استئناف موعدها 26 أغسطس/آب الجاري، وتقول "هو ده أملي الوحيد والفرصة الأخيرة لإثبات نسَب بنتي".
تحليل البصمة الوراثية في حالة الزواج يُلزم الزوج بالتوجه لإجراء التحليل وفي الاغتصاب يُنسب لأبيه الفعلي
يطمئنها محاميها باستمرار، وتوضح أمل"سألت كذا محامي قالولي إن القاضي في المرحلة السابقة الخاصة بمحكمة الأسرة مش بيكون فاهم حيثيات القضية أوي، لكن فيه أمل في قاضي الاستئناف إنه يقدر يستوعب القضية، أتمنى آخد حقي وحق بنتي وأرتاح أنا ووالدتي من التعب اللي احنا فيه".
ترتب على ما تعرضت له أمل من عنف، دخولها العناية المركزة وإجرائها عددًا من العمليات الجراحية، بالإضافة للحمل والرضاعة والآثار النفسية السلبية، كل ذلك أثر في تحصيلها الدراسي، وتقول "كان المفروض أتخرج من سنة فاتت".
تتحمل أمل مسؤولية الطفلة بشكل كامل، "مع المذاكرة، والدروس الخصوصية كنت بوديها حضانة فترة مسائية، عشان ألحق دروسي" تضيف أمل.
ومع ذلك لا تنكر وجود دعم عائلي وحقوقي، وتوضح "أمي بتساعدني في مسؤوليتها، وأنا بتعامل معاها كأنها أختي مش بنتي". وعن التعامل مع المحكمة وإجراءاتها تجد أمل دعمًا حقوقيًا يُسهل عليها التعامل مع القضاة "المحامين واقفين معايا وفيه كتير بيتطوع يحضر الجلسات مع المحامي بتاعي السيد بدرة".
مُقترح قانون
ما تعانيه أمل وزميلاتها في المأساة، من السهل اختصاره في حال تم الاعتماد على تحليل البصمة الوراثية.
في كتابه المُعنون بـ"حجية البصمة الوراثية في الإثبات الجنائي" يشير الدكتور سالم خميس إلى أن تحليل البصمة الوراثية DNA يعتبر من أقوى وأدق الطرق العلمية لمعرفة هوية الأشخاص من خلال خصائصهم الوراثية، ويجب الأخذ به كقرينة قوية في العديد من القضايا، ومنها إثبات النسب.
لن يكون ذلك ممكنًا إلا بتعديلات في القوانين غير المنصفة للحقوق المعمول بها حاليًا. "القانون ده مخالف لما جاء في الاتفاقيات الدولية والدستور المصري اللي أكدوا على أن للطفل الحق في نسبه، وجاء في المادة السادسة من الدستور المُعدل لسنة 2019 أن الاعتراف القانوني به ومنحه أوراقًا رسمية تُثبت بياناته الشخصية، حق يكفله القانون وينظمه"، كما يؤكد عبد الفتاح.
كانت مؤسسة "قضايا المرأة المصرية" تقدمت بمُقترح قانون قامت بإعداده إلى البرلمان، يسعى لـقانون أكثر عدالة للأسرة ويتضمن مادة تغلق باب المأساة.
تنص المادة (73) من الباب الخاص بالنسَب بالقانون المُقترح على أنه يثبت نسَب المولود/ة من واقعة اغتصاب لوالده إذا ثبت ذلك بالوسائل العلمية. "هذا المُقترح فيه حل جذري لمعظم قضايا النسَب، وفي حالة الزواج يلزم الزوج بالتوجه لإجراء التحليل وفي الاغتصاب يُنسب لأبيه الفعلي، وغير ذلك، احنا عاملين كل التبعات الخاصة بوقائع الاغتصاب حتى لو الشخص مجهول، وتطبيق هذا القانون يضمن الصحة النفسية للطفل"، وفق ما يؤكده عبد الفتاح.
ترك العنف الذي تعرضت له أمل آثاره على جسدها ونفسيتها وحياتها، أثر لن تمحوه الأيام رغم محاولاتها المستمرة التخلص منه، بذلت أمل جهدها في امتحانات الثانوية هذا العام، وتقول "نفسي أمسك شهادة في إيدي علشان بنتي تفتخر بيا وأقدر أشتغل وأكمل مشواري".
ورغم صعوبة السنة التي مرت بها أمل، فإنها تحمل معها وعودًا براحة البال، والبداية الجديدة، "كان مكتوب كتابي ومأجلة الزواج؛ لكن بسبب سفره وطلبه نتجوز بسرعة؛ اتجوزنا خلال أجازة نص السنة، شهر فبراير اللي فات، وده زود عليا مسؤولية بيت إضافية".
تنتظر أمل نتيجة الاستئناف لحصول ابنتها على شهادة ميلادها، وعلى التوازي، يُنتظر صدور قانون جديد للأحوال الشخصية، يتضمن تعديلات تُساهم في إنهاء مآسي قضايا الأسرة.