قبل أيام من مثوله، أمس الثلاثاء، أمام محكمة فيدرالية بمدينة ميامي الأمريكية ليدفع بأنه غير مذنب في 37 اتهامًا جنائيًا، تتراوح عقوبات أغلبها بين الحبس خمس سنوات إلى خمس عشرة سنة؛ أكد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لأحد الصحفيين أنه لن ينسحب من الترشح للرئاسة في انتخابات العام المقبل، حتى ولو حكمت المحكمة بإدانته جنائيًا. وأعرب عن أسفه أنه طوال حياته لم يُتهم أو يُدان من أي محكمة، لكن بعد أن رشح نفسه للرئاسة من جديد، أصبحت النيابة والمحاكم توجه له اتهامات جنائية أو تصدر في حقه أحكامًا مدنية، كل شهرين أو ثلاثة.
يقصد ترامب بذلك توجيه الاتهام الجنائي الرسمي ضده، قبل الاتهام الفيدرالي الأخير بفلوريدا، باتهام سابق من ولاية نيويورك في مارس/آزار الماضي، بتهم تزوير أوراق شركته لإخفاء دفعه أموالًا لممثلة إباحية، حتى لا تفضح للصحافة في سنة انتخابه رئيسًا 2016، عن علاقتهما الجنسية قبل عشر سنوات. كما حكمت عليه بعدها محكمة أخرى في نيويورك بتعويض مدني بملايين الدولارات لصحفية رفعت ضده قضية بالاعتداء الجنسي عليها قبل ربع قرن، وتشهيره بها.
إضافة إلى خطورة ما أخذه ترامب من وثائق وهو يغادر البيت الأبيض، فإنه رفض تسليمها على مدى نحو عامين من خروجه
رفع المئات من أنصار ترامب الذين احتشدوا خارج محكمة ميامي لافتات، وهتفوا ضد "الدولة العميقة" التي تتعقب مرشحهم المفضل، الذي كشف السياسيين التقليديين في واشنطن وشبكات المصالح السياسية التي لا تهتم بالمواطن الأمريكي (الأبيض) الغيور على بلده، الذي يريد "جعل أمريكا عظيمة من جديد"، وهو شعار واسم الحركة التي يتزعمها ترامب بالأحرف الأولى لها، Make America Great Again/MAGA.
وتُظهر استطلاعات الرأي ازدياد نسبة مؤيدي ترامب بين الجمهوريين الذين يعدونه مظلومًا، وضحية انتقام سياسي، بأغلبية كبيرة. بينما يرى المستقلون والديمقراطيون، بنسبة أكبر من الجمهوريين المحافظين، أن التقاضي عادل وأنه مواطن عادي، ويجب ألّا يُعامل بأفضلية عن غيره، فلا أحد فوق القانون.
هل يحاسبون ترامب لأنه جمهوري؟
يقارن أنصار ترامب، وحتى بعض منافسيه من الحزب الجمهوري، بين معاملة القانون للسياسيين الديمقراطيين الذين أساءوا التعامل مع الوثائق السرية دون توجيه أي اتهام قضائي ضدهم أو محاسبتهم، وبين ما يحدث للجمهوري ترامب.
ويضرب هؤلاء مثالًا بوزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون، التي كانت مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة عام 2016، وانتُقدت كثيرًا لحذفها آلاف الإيميلات والرسائل من بريدها، بدعوى أنها أخفت بذلك معلومات تدينها، بينما كان يجب عليها أن تقدمها للأرشيف القومي الأمريكي، ورغم ذلك لم توجه ضدها اتهامات جنائية.
كما أن الرئيس جو بايدن لم يُوجه ضده أي اتهام، بغض النظر عن حصانته حاليًا، للعثور بمنزل عائلته وبمكتب سابق له على بعض وثائق سرية من فترة أوباما، لم يسلمها لأرشيف الدولة عقب تركه منصب نائب الرئيس.
لكن الفارق بين الحالتين، وكذلك في حالة الجمهوري مايك بنس نائب ترامب، الذي عثر على وثائق سرية لم يكن قد أعادها، أن بنس وبايدن سلما الوثائق مباشرة بمجرد العثور عليها وأبلغا بوجودها بحوزتهما، وأنه لم يطلب أحد من هيلاري تسليم الوثائق قبل إعدامها.
أما في حالة ترامب، فبالإضافة إلى خطورة ما أخذه من وثائق وهو يغادر البيت الأبيض، فإنه رفض تسليمها على مدى نحو عامين من خروجه. وحتى حين لجأ مسؤولو الأرشيف القومي لوزارة العدل، لطلب الحصول على الوثائق منه، رفض ترامب وتشاور مع مساعديه ومحاميه بشأن كيفية تخبئة الوثائق أو التخلص منها، بل وأطلع صحفي ومحام ومساعدين، ليس لدى أي منهم صلاحية الإطلاع على أسرار الدولة، على فحوى بعضها بشكل أو بآخر.
خطورة وثائق ترامب
من بين عشرات الصناديق المليئة بالوثائق والمستندات التي نقلها ترامب معه من البيت الأبيض إلى منتجعه بولاية فلوريدا، وظل يتابع نقلها وتخزينها مع أحد مساعديه، الذي تم اتهامه بالتواطؤ في القضية بالمثل، توجد نحو ثلاثين وثيقة في غاية السرية.
من ضمنها وثيقة عن الأسلحة النووية الموجودة في الترسانة الأمريكية، وأخرى بها معلومات تم الحصول عليها بالتصوير والتنصت عن بعد، ووثيقة عن الأهداف التي يمكن ضربها في إحدى الدول إذا شنت أمريكا حربًا عليها، وغير ذلك من الوثائق التي أقر ترامب في تسجيلات له مع صحفي حاوره بعد خروجه من البيت الأبيض بأنها معلومات سرية للغاية، وقال "كان بيدي أن ألغي سرية أي منها حين كنت رئيسًا، لكن لم يعد ذلك بيدي الآن".
هاجم ترامب المحقق التابع لوزارة العدل ووصفه بالمهووس والمختل عقليًا
والغريب في الأمر، أن أغلب تلك الوثائق كانت في صناديق بغرفة نومه أو بحمامه. لكن التهم الموجهة لترامب لاتتعلق بالتجسس أو محاولة بيع هذه الأسرار لدولة أخرى، رغم شكوك بعض منتقديه، ولكنها تهم "بمخالفته القانون في حيازته للوثائق بعد تركه الرئاسة، والتحايل والتواطؤ مع غيره لعدم تسليمها للدولة، رغم علمه بأنه يخالف القانون".
أين الدولة العميقة؟
المحقق الخاص الذي يتولى الادعاء ضد ترامب في قضية الوثائق السرية، هو جاك سميث. وقد يرفع عليه قضية جديدة يحقق فيها بالمثل بتحريض ترامب أنصاره على اقتحام مبنى الكونجرس لتعطيل التصديق على انتخابات الرئاسة بفوز بايدن في يناير/كانون الثاني 2021.
وقد هاجم ترامب ذلك المحقق، التابع لوزارة العدل، ووصفه بالمهووس والمختل عقليًا. لكن سميث متخصص كمحقق منذ عقدين في قضايا استغلال السلطة من قبل السياسيين، وسبق له توجيه اتهامات بالفساد لسياسيين من الحزب الديمقراطي، مثل السناتور بوب منينديز في قضية سابقة برشاوى من أحد الأطباء، لكن هيئة المحلفين لم تتفق بالإجماع على إدانة السناتور، فتمت تبرئته. وهناك تحقيقات جديدة معه لها صلة بمصر، كما ذكرت في مقال سابق.
أما القاضية الفيدرالية في ميامي، التي اختارتها وزارة العدل لمحاكمة ترامب في هذه القضية، فهي إيلين كانون (42 سنة)، وتُعد حديثة العهد بالقضاء الفيدرالي، وكان عيَّنها ترامب نفسه فيذلك المنصب منذ ثلاثة أعوام بموافقة الكونجرس، وهي ابنة مهاجر كوبي من أنصار اليمين الأمريكي المعادي لكاسترو.
ونالتها الكثير من الانتقادات حين رفضت من قبل توجيه الاتهامات الرسمية التي رفعها المحقق ضد ترامب، بدعوى أنه يكفي الحصول على الوثائق بمداهمة منزله، ويكفي ماتعرضت له سمعته نتيجة ذلك، دون مراعاة منصبه بأنه رئيس سابق للولايات المتحدة!
وحينها اضطر محقق وزارة العدل إلى اللجوء لمحكمة استئناف بدائرتها، فحكم القضاة الثلاثة بالإجماع، الذين كان تم تعيينهم من قبل رؤساء جمهوريين، بأن الادعاء على حق، وحكموا بتوجيه الاتهام الجنائي ضد ترامب. بالتالي، هناك مطالب بأن تنحي القاضية نفسها عن نظر القضية لتجنب شبهة التحيز وعدم الاستقلالية.
هل يمكن القول بأننا نتعامل مع دولة عميقة تتعقب المناضل ترامب، أم دولة مؤسسات تصر على أنه ليس فوق القانون بعد أن أصبح مواطنًا عاديًا دون حصانة المنصب الرئاسي، الذي يملك الكونجرس بمجلسيه، وليس القضاء، محاسبته كرئيس وعزله من منصبه.
من المرجح أن يطول أمد التقاضي مع ترامب ليدخل عام انتخابات الرئاسة المقبلة وهو مثخن بجراح ومعارك واتهامات المحاكم وأخذ البصمات والاستئناف المتواصل بين ترامب والمدعين من وزارة العدل، أو ولايتي نيويورك حاليًا ثم جورجيا لاحقًا.
وهو ما يتمناه الديمقراطيون بمرشحهم الطاعن في السن جو بايدن، لأن أمله الوحيد يقبع في عدم منافسة جمهوري آخر سوى ترامب، والاحتكام وقتها للناخب العادي والمستقل غير الحزبي من الجانبين، وهو الناخب الذي يملك الأغلبية البسيطة الحاسمة: أيهما تختار رئيسًا: مسنًا مستكينًا للأمر الواقع، أم مذنبًا مهددًا لمؤسسات الدولة واستقرارها؟!