لم تمر ست ساعات على تسليم نفسه للمحكمة في نيويورك متهمًا جنائيًا ماثلًا للعدالة، حتى عاد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى مملكته الخاصة في منتجعه بولاية فلوريدا في اليوم نفسه، الثلاثاء، ليتهم في خطاب متلفز معارضيه وإدارة بايدن وكل من يختلف معهم، بتعقبه واضطهاده، بمن فيهم القاضي الذي مثل أمامه ولم يشأ أن يدع حراس المحكمة يضعون بيديه قيدًا حديديًا، أو يحتجزوه أو حتى يُصدر قرارًا بمنعه من الكلام عن القضية، بل تركه يعود منزله دون كفالة أو حظر، حتى تُعقد أول جلسة للمحاكمة في ديسمبر/كانون الأول المقبل.
لم يتظاهر كثيرون في نيويورك من أنصار ترامب, ولم يحاول أحدهم إغلاق الشوارع أو الاقتراب من المحكمة، رغم دعوة ترامب لهم قبل أسبوعين بالاحتجاج والتظاهر، لأنهم سيقبضون عليه. فما حدث من عقوبات قضائية بالسجن لمن لبوا دعوته للتظاهر عندما كان رئيس حين اقتحموا الكونجرس في يناير/كانون الثاني قبل عامين، لمنع التصديق على نتائج الانتخابات وإعلان خسارة ترامب، كان رادعا بما فيه الكفاية.
كانت الصدمة واضحة على وجه ترامب حين دخل المحكمة وأخذوا بصماته، لصحيفته الجنائية، ولو بعيدًا عن الكاميرات، وحين أدرك معنى أنه أصبح أول رئيس أمريكي في التاريخ يُتهم جنائيًا في قضية ويُسلم نفسه للمحكمة.
لم يصدّق وهو يتحرك من طابق لآخر في مبنى محكمة مانهاتن أن أحدًا لن يفتح الباب ويمسك به حتى يمر، فكاد الباب يُغلق على كتفه، والتزم الصمت والهدوء بوجوم وهو يواجه قائمة بأربع وثلاثين تهمة تتعلق بثلاث قضايا بالتزوير في أوراق شركاته، حتى لا يظهر أنه دفع عشرات الآلاف من الدولارات لامرأتين لشراء سكوتهما عن الحديث للإعلام عن علاقته الجنسية بهما. خصوصًا أن واحدة منهما كانت ممثلة أفلام إباحية ومنعها باتفاق عبر محاميه من الحديث للإعلام قبل أسبوعين من انتخابه رئيسًا في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
شخصية الديكتاتور المزدوجة
يدرك الديكتاتور أن صاحب القوة بيده كل شيء، بالتالي تصرف كأي متهم متوجس من العواقب في المحكمة أمام القاضي (مهاجر من كولومبيا) خوان مرشانت، واقتصر على إجابات مقتضبة، تبدأ بـ "نعم.. نعم"!
لكن ما إن عاد المتهم ترامب بطائرته الخاصة إلى منتجعه بفلوريدا وتجمع أنصاره وأولاده، رغم غياب زوجته عن الصورة لفضيحته الأخلاقية، حتى عاد الديكتاتور إلى صلفه وكذبه وإهاناته للجميع، سواء اتهام القاضي بالتحيز ضده بدعوى أن أسرة القاضي تكره ترامب، وأن ابنته كانت تساعد في حملة نائبة الرئيس كامالا هاريس، أو أن ممثل الادعاء (أمريكي إفريقي) إلفين براج يخشى من زوجته وكلاهما يكرهه.
وانتقل ترامب في كلمته يتهم الجميع بتعقبه مؤكدًا أنه بريء، ولم يكتفِ باتهام القائمين على قضية نيويورك، بل كل ممثلي الادعاء في باقي القضايا المرفوعة ضده ولم يتم بعد استدعائه فيها، ومنها محاولة التواطؤ لتزوير أصوات لصالحه في انتخابات ولاية جورجيا.
لا يجد ترامب غضاضة في استغلال المرأة ولو جنسيًا، أو خيانة زوجته بعد أقل من شهر من وضع ابنه الأصغر
ويعيد ترامب ترديد أكذوبته الكبيرة بأنهم أخفوا مليون صوت في انتخابات الرئاسة الماضية حتى يخسر أمام بايدن، ثم يعود ليتهم بايدن وابنه هنتر بأنهم الأولى بمواجهة التهم الجنائية لهم ومعهما هيلاري كلينتون لإخفاء وثائق سرية!
التشكيك في النظام السياسي والقضائي الأمريكي كان خلاصة خطاب ترامب الأخير بمجرد ابتعاده عن المحكمة. ولهذا أيضًا سارع في الخريف الماضي إلى إعلان الترشح للرئاسة قبل أكثر من عامين على موعدها، لأنه يريد خلط الأوراق وجعل كل إجراء قضائي كأنه عمل مسيَّس وحزبي يُتخذ ضده في سلسلة قضايا تنتظره، سواء مثل نيويورك على مستوى ولاية أخرى وهي جورجيا، أو فيدراليًا في قضيتين إحداهما عن إخفاء وثائق سرية ومحاولة عدم تسليمها، والثانية وهي الأخطر؛ محاولة تعطيل العملية الدستورية بدفع المتظاهرين لمنع تصديق الكونجرس على نتائج الانتخابات الرئاسية.
الشعبوية والعنصرية مفتاح السيطرة
لأنه يعرف مفاتيح تحريك القاعدة الشعبوية ومظالمها العنصرية من المساواة في الفرص وأمام القانون بمجتمع مهاجرين لا يزالوا يتدفقون على أمريكا البيضاء نسبيًا، يرفع ترامب وأنصاره عند كل أزمة شعارهم "اجعلوا أمريكا عظيمة من جديد" المعروف اختصارًا بالأحرف "ماجا/MAGA".
وبالتالي حين يشتم ترامب أحد الأمريكيين السود المختلف معهم ولو كان براج، المدعي العام لمحكمة مانهاتن وخريج جامعة هارفارد، فإنه يصفه بالحيوان. ويذكِّر أتباعه الناس بأن مرشانت، القاضي بالمحكمة نفسها جاء مع أسرته مهاجرًا وعمره ست سنوات وكان يعمل وعمره تسع سنوات بتوصيل البقالة لسيارات الزبائن بإكرامية.
ولا يجد ترامب غضاضة في استغلال المرأة ولو جنسيًا أو خيانة زوجته بعد أقل من شهر من وضع ابنه الأصغر، حين أقام علاقة مع ممثلة أفلام إباحية لأنه يعرف مفاتيح عقلية الرجل العنصري حين جاء لهذه القارة واستعمرها واستحل نساء عبيده!
مأزق الجمهوريين في قرصنة ترامب
لم يجرؤ أحد من أقطاب الحزب الجمهوري في الكونجرس بمجلسيه ومن حكام الولايات والزعماء الساعين للترشح للرئاسة، باستثناء إيسا هاتشنسون حاكم ولاية أركنسو السابق، على تحدي ترامب ومطالبته بالتنحي عن ترشيح نفسه عن الحزب ليتفرغ لقضاياه الجنائية ويقي الحزب هذه الفضائح والمهانة.
هم يدركون أن الجناح المتطرف في الحزب الجمهوري هو المسيطر الآن والأعلى صوتًا، بشعارات الحقبة العنصرية القديمة منذ أزعجه وصول الأمريكي الإفريقي أوباما إلى البيت الأبيض!
بالتالي، لا توجد فرص لأي مرشح جمهوري بالفوز في الانتخابات الأولية ليصبح مرشح الحزب للرئاسة، طالما كان منافسه دونالد ترامب. لذلك، يصمتون وينتقدون معه القضاء ويتهمونه بالتسييس والانحياز، حتى لا تقصيهم القواعد الشعبية للحزب فيخسرون المعركة، ليس لهذه المرة فقط، بل والانتخابات التالية.
هؤلاء ربما يتمنون أن يصل القضاء إلى ترامب فيزيحه بواحدة من الأربع قضايا التي تنتظره، بينما يندد هذا المرشح بنفس القضاء لإرضاء القواعد الشعبية مستخدما مظلمة ترامب.
المفارقة على الجانب الآخر، أنه بقدر رغبة القواعد الشعبية للديمقراطيين في رؤية ترامب خلف القضبان قبل موعد انتخابات نوفمبر 2024، تدرك قيادتهم السياسية أنه مع إصرار جو بايدن على إعادة الترشح لفترة ثانية أنه لا فرصة لمرشحهم هذا في الفوز دون أن يكون منافسه الجمهوري مرشحًا مخيفًا للمعتدلين والمستقلين من الشعب الأمريكي، مثلما كشف ترامب عن نفسه بعد أن أصبح رئيسًا، وهؤلاء المستقلون هم الذين يحسمون بنسبتهم، ولو الضئيلة، نتيجة الانتخابات، وسيحددون رئيس أمريكا المقبل!