"مبحبش المدرب ومبحبش الرياضة.. عاوز اتعلم رسم. هم مش هيضربونا في حصة الرسم صح؟"
لم يتعد عمره الست سنوات، طفل أحب لعبة التايكوندو، بعد أن شاهد أحد الأفلام الأجنبية، وأفصح لأبويه عن حلمه بأن يكون مثل البطل القوي الطيب الذي يدافع عن نفسه وعن الناس. من وقتها ظل محمد أشرف يطارد والدته يوميًا برغبته في التدرُّب على هذه اللعبة، حتى استجابت له ووسددت رسوم اشتراك التدريب في أحد الأندية القريبة، وعندها؛ بدأ فصل قاس من الحكاية..
يحكي محمد لـ"المنصة":" كنت عاوز أبقى بطل وانقذ الناس، لكن هو البطل بيضرب الأطفال؟ المدرب بيضربنا إذا معملناش الحركة زي ما بيقولنا عليها، ولا يسمح لنا بالذهاب للحمام، في مرة ضربني بـ"الشلوت"، ووقعت على وجهي.. لم أعد أريد أن أكون بطلاً بعد اليوم".
حول حمامات السباحة، وداخل صالات الجمباز، وغيرها من أماكن تدريب الأطفال على الألعاب الرياضية، يصعب ألا تلحظ الخوف الممتزج بالحزن المرسوم على أوجه كثير منهم. تتداخل الأصوات، ويمتزج بكائهم بصراخ مدربيهم المشوب بالسباب الموجه للمتدبين الصغار. بينما تجلس بعض الامهات يراقبن تعنيف أطفالهن الذي يصل أحيانًا حد الضرب، ومن حين لآخر تتدخل إحداهن لمواصلة ما بدأه المدرب من إهانات للصغير.
مريم عطا أم لطفلة تتدرب على الجمباز الأرضي تقول:" ابنتي عمرها 6 سنوات، وهي عنيدة جدًا لذلك المدرب يقسو عليها كي تتدرب جيدًا وتكون بطلة. لا تغضبني قسوة المدرب، لأنه يفعل هذا معها ومع كل الأطفال كي يزرع فيهم القوة والجدية". تصمت قليلاً ثم تواصل: "ثم إننا كأهل ننهار من شقاوة أطفالنا، فلماذا نلوم المدرب الذي كل همه هو بناء أبطال في اللعبة؟"
ولا تجد مريم في شكوى ابنتها من تلك القسوة مشكلة كبيرة: "هي كل يوم تطلع تعيط من التمرين وترجع تروح تاني يوم عادي.. يعني الموضوع مش مأثر عليها".
في التاسع عشر من نوفمبر/ تشرين ثان الماضي، أعلنت وفاة الطفلة "ريم مجدي" بطلة المصارعة النسائية، بعد تعرضها لعنف جسدي وضغط نفسي من مدربها ووالدها، لتلقي بنفسها من سيارة أبيها هربًا من الضغوط المتواصلة. لكن مقتل الطفلة الرياضية لم يفتح بابًا واسعًا للمناقشة حول العنف ضد الأطفال في صالات التدريب والأندية، أو تعامل الأسر مع طموحاتها الرياضية المتعلقة بأبنائها.
لكن مروة الصاوي والدة طفلين أصغرهما في السابعة من عمرها تتدرب على لعبة الجمباز، وطفل يبلغ في الثانية عشرة يلعب الكراتيه، رأت فيما واجهته البطلة الرياضية الراحلة وما يتعرض له الاطفال في صالات التدريب "كسر نفسي لا يجب أن يمر أبدًا" على حد وصفها. مضيفة ان الأسر مُطالبة بالاعتراض القوي على ما يتعرض عليه الاطفال وأن يقدموا ما يلزم من الشكاوى لمسؤولي الأندية التي يتدرب أطفالهم فيها، "حتى يحافظوا على نفسية أطفالهم ولا يقودوهم للانهيار".
مروة تحكي أنها كانت ترى "وحوشًا" داخل التمرين، فالفتيات الصغيرات يُسحبن من شعورهن، وتضرب رؤوس بعضهن في بار التمرين الحديدي. وكل هذا يحدث أمام أعين الأهل الصامتين.
أما في تمرين ابنها "الكراتيه"، فكان المدرب يضرب الأطفال بالحزام، ويسبهم بشكل مهين، على د وصفها.
لم تسكت مروة على ما رأته تجاوزات من المدربين، وتقدمت بعدة شكاوى لإدارة النادي وقادت شكاواها لتوقف المدربين المعنيين عن ضرب الأطفال وسبهم. لكن مروة تعرف أن هناك عواقب لدفاعها عن أبنائها: "أعرف أن هذا ليس حل جذري، وأعرف أنه سيتم الترصد لأولادي. لكن من المهم أن يعرف أطفالي أن ضربهم ليس حق لأحد، ولا أنه أمر طبيعي يمكن أن يمر مرور الكرام".
لا تفهم مروة صمت الأسر تجاه تعنيف اطفالهم "ما يثير جنوني ليس توحش المدربين على الأطفال، بل سكوت الأهل فهم ينقسمون إلى قسمين: قسم راضٍ تمامًا ومقتنع بأن مايفعله المدرب صحيح، وقسم أخر غير راض، لكنه لا يحرك ساكنًا. يراقبون ألم أبنائهم بصمت أو يمنعوهم عن مواصلة لعب الرياضة عوضًا عن مواجهة المدربين وإدارات النوادي. بينما يلجأ بعضهم للتمارين الخاصة، التي تكلفهم نفقات كثيرة مقابل معاملة أفضل لأطفالهم".
في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين أول الماضي، نشر أحد شريف صلاح، والد لطفل يتلقى تدريبات على لعبة الجمباز، بوست عن تعرض طفله البالغ 9 سنوات للضرب على يد مدربه. وأكد أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها طفله وأطفال أخرين فيها للعنف البدني واللفظي. وأكد على أنه تقدم بالشكوى لإدارة النادي التي وعدت بعدم تكرار الواقعة.
التدريب "بالحب"
كابتن كرة اليد أحمد الحصري المشرف على تدريب الأطفال في مدرسة الشيخ زايد، يقول :"لكل مرحلة عمرية نوع خاص من أنواع التحفيز، وليس من تلك الأدوات أبدًا الضرب أو الأهانة بأي شكل من الأشكال. فمثلًا الفئة العمرية التي تصنف كناشئين (سن المراهقة) يحتاجون إلى جدية أكبر وتحفيز أقوى يجعلهم يخرجون أفضل ما لديهم بتحدٍ وحب. أما الفئات العمرية الأصغر سنًا، فهم بحاجة إلى تحفيزات مادية. فالأطفال الصغار يستجيبون للتحفيز بالهدايا البسيطة أو الحلويات والتشجيع البسيط مثل صورة مميزة مع المدرب، أو غير ذلك. لكن الضرب والإهانة لا يصنعان أبطالاً رياضيين، بل أطفال مضطربين".
يحكي الحصري عن حالات متعددة أتت للتدريب معه بعد أن تدربوا في أماكن أخرى، مبينًا أن أعدادًا غير قليلة من الأطفال "مصابة بالإحباط" لا لعنف المدربين، ولكن لصمت الاهل على ما يتعرضون له من تعنيف وأحيانصا تشجيع الأسر للمدربين على معاملة هؤلاء الأطفال بقسوة.
ووفقًا لشهادة مدرب كرة اليد المحترف، فإن هؤلاء المدربين يقنعون أولياء الأمور أن "هذه هي طريقة التحفيز التي لا بديل عنها كي يكون أبنائهم أبطال مميزون في اللعبة". "الطفل بيلاقي نفسه بين تلطيش المدرب ومباركة الأهل"، الذين يجبرون أطفالهم على مواصلة التدريب مع نفس المدربين رغم ان الأطفال يعلنون عدم رغبتهم في الاستمرار في اللعبة، كي ينجوا من كل هذه الضغوط النفسية التي تُمارس عليهم.
ويكمل الحصري: "هناك دورات تدريبية للمدربين. ولا يجب أن يعين أي مدرب في أي نادي سوى بعد اجتيازها. وهي خاصة بكيفية التعامل النفسي مع الأطفال والناشئين وطرق وأساليب التحفيز العلمية المناسبة لكل مرحلة. لكن مع الأسف فإن التعيين في أنديتنا (بالحب) والواسطة، بغض النظر عن صلاحية المدرب وقدرته على التعامل مع الأطفال".
اغتيال شخصية الطفل
ويرى الدكتور طه أبو حسين أستاذ علم الأجتماع بالجامعة الأمريكية، أن التعليم بالعنف "من أكبر المصائب التي نعاني منها. فقد أثبتت الأبحاث العلمية أن العنف في التعليم خاصه مع الطفل يفقده 38% من قدرته على الإبداع".
ويواصل أستاذ علم الاجتماع: "هنا يأتي الخطأ الكارثي، فعلى جميع المتعاملين مع الأطفال في كل المجالات سواء في الملاعب أو المدارس أو البيت، أن يركزوا على بناء قائد، وليس كما يشاع بأن يُكسر الطفل ليطيع مدربه، فالقائد لا يُكسر، ومن يُكسر لن يكون قائد، بل سيتحول إلى شخص واقع ضمن دائرة العنف المفرغة".
ويضع طه أبو حسين تعريفًا لما يُمارس ضد الأطفال في التدريبات الرياضية بقوله: "هذا ما يسمّى علميًا باغتيال الشخصية. فالمدرب إن كان يحاول (كسر الطفل)، فعلى الأسرة عبء الترميم وإصلاح ما انكسر، لا المساهمة في ترسيخ انكسار شخصية الطفل ومحوها".