تتحسس نورهان حمدي جسد طفليها الصغيرين؛ حليمة ذات الثلاث سنوات وزكريا الذي لم يتجاوز العام، محاولةً الاطمئنان عليهما، والتأكد من نجاتهما، غير عابئة بالدماء التي غطت وجهها جراء سقوط لافتة إعلانية ضخمة أعلى كوبري 6 أكتوبر فوق سيارتها.
مشاهد تضمنها مقطع فيديو قصير انتشر على السوشيال ميديا، ظهر خلاله زوج نورهان، إبراهيم فاروق، بملابس ملطخة بالدماء، يحاول إسعاف زوجته حتى نقلها للمستشفى، في أجواء وصفتها الأسرة بـ"الأسوأ على الإطلاق".
ويعود الحادث إلى الأول من يونيو/حزيران الجاري، حين شهد كوبري 6 أكتوبر بالقاهرة، واقعة انهيار لافتة إعلانات، أعلى منطقة عزبة أبو حشيش باتجاه ميدان التحرير، نتيجة اعوجاج قاعدتها الحديدية تأثرًا بعاصفة ترابية اجتاحت القاهرة. سقطت اللافتة الضخمة على سيارتينِ ودراجة آلية، وكسرت عواميد إنارة، وتسببت في إصابة أربعة ووفاة شخص واحد، وفقًا لتحقيقات النيابة.
أسبوع مر على الحادث، وسط تجاهل المسؤولين في شركة بترا للإعلان، مالكة الامتياز الإعلاني عن اللافتة، لنورهان وأسرتها، وعدم سعيها للتواصل معهم، ما دفع نورهان إلى اللجوء لجروبات فيسبوك، طلبًا لدعمها في مواجهة الشركة. وبعد ساعات من نشر مناشدتها على فيسبوك، فوجئت بمكالمة من محامي الشركة وصفتها بـ"غير المُريحة".
زيارة الجدّة تحولت لمأساة
نورهان، التي كرست حياتها لرعاية طفليها، قررت اتخاذ الإجراءات القانونية ضد الشركة، عبر سؤال أحد المحامين، الذي طالبهم بانتظار ما ستسفر عنه تحقيقات النيابة في القضية.
الصدمة التي مرت بها أثناء الحادث، حالت دون أن تحمل ذاكرتها منه الكثير. كل ما تتذكره أنها وزوجها وطفليها كانوا في طريقهم من محل إقامتهم بمدينة نصر إلى محل سكن "حماتها" بوسط القاهرة، وبينما كانت الأمور تسير على طبيعتها أعلى كوبري أكتوبر، فوجئت بصوت أشبه بالانفجار الشديد، وبعده حلَّ ظلام داخل السيارة، وتعرضت لشبه إغماء.
في وقت لاحق على الحادث، أمرت النيابة العامة بتشكيل لجنة هندسية من محافظة القاهرة؛ لمعاينة الأرض الكائن بها اللافتة، وطلبت الاطلاع على ملف ترخيصها وفحصه.
أثناء التحقيقات، أكد مدير الإيرادات والإعلانات بحي حدائق القبة، أن اللافتة منتهية الترخيص، وأن الجهة الإدارية حررت محضرًا بمخالفتها في فبراير/شباط الماضي، وقدم صورة من ملفها.
ضياع حلم الأسرة
عن الدقائق التي سبقت الحادث تقول نورهان أن ابنتها حليمة كانت متحمسة لزيارة جدتها، إلا أنها استغربت السماء التي تحولت للون الأصفر نتيجة العاصفة. "بصي ياحليمة الجو عامل إزاي" هكذا قالت نورهان قبل دقائق معدودة من سقوط اللافتة، ليحل بعدها الظلام والإغماء والدماء.
لا تمثل السيارة التي حولها الحادث إلى "كومة صفيح" بالنسبة للأسرة مجرد وسيلة للرفاهية، بل كانت قبل شرائها حلمًا للأسرة التي أثقل كاهلها مصاريف توصيل حليمة إلى حضانتها، والتي تقدر بـ 13 ألف جنيهًا سنويًا.
محامي الشركة اعتبر الحادث "قضاء وقدر" بسبب سوء الأحوال الجوية
هذا المبلغ الكبير دفع الأسرة إلى تدبير جزء من المال، على حساب احتياجاتها الشخصية، وسداده كمقدم لشراء سيارة مستعملة من طراز "اسبيرنزا A113" وتقسيط باقي ثمنها، ولا تعلم الأسرة ماذا ستفعل الآن بعد دمار السيارة، لا سيما وأن مصاريف الباص ستتضاعف بعد التحاق شقيقها زكريا بحضانة بذات المدرسة.
ولم تُخف نورهان تأثر أسرتها بالظروف الاقتصادية الأخيرة التي مرت بها البلاد، خاصة وأن فاروق زوجها يعمل موظفًا بشركة لتصدير الملابس. تتذكر أنها قبل الحادث بأيام قليلة اضطرت لشراء أربعة إطارات للسيارة بالتقسيط لعدم قدرتهم على شرائها كاش، نظرًا للارتفاع الشديد الذي شهدته أسعار الإطارات مؤخرًا، وتجاوز سعر الإطارات الأربعة 10 آلاف جنيه.
"مطالبنا مش مرتبطة بالعربية بس، أنا مضرورة.. أنا وعيالي وجوزي.. التقرير الطبي بتاعي مكتوب فيه إني خضعت لغرز جراحية عددها 27 غرزة في دراعي وأيديا الاتنين، وإصابتي بارتجاج في المخ، وتجمع دموي قعدت بسببهم يومين في المستشفى تحت الملاحظة"، تقول نورهان.
ومع ضخامة الحادث، بالنظر لما خلّفه من خسائر على مستوى الإصابات وتحطم السيارة، كانت أسرة نورهان تنتظر اهتمامًا "لائقًا" من قبل الشركة. وتذكر أنه أثناء تلقيها للعلاج بإحدى مستشفيات منطقة حدائق القبة، جاء شابان وأبلغوها بأنهما يعملان بالشركة صاحبة امتياز الإعلان، وطلبا منها أرقام الهواتف للتواصل، مستطردة "لكن ماحدش سأل فينا بعدها".
الموضوع بالنسبة لنورهان ليس فقط سيارة، حتى وإن سمعت عبارات مواساة من قبيل "اللي ييجي في الريش بقشيش"، "أنا عايزه حقي وحق عيالي، وحق خضتي عليهم وحق خوفهم، كان وارد في الحادث ده أخسرهم أو هما يخسروني.. كل ده أذى نفسي بعيداً عن الأذى المادي".
قضاء وقدر
قال المحامي بهاء حلمي، الوكيل القانوني لشركة بترا للدعاية والإعلان صاحبة اللافتة، للمنصة، إنه تواصل بشكل شخصي مع الأسرة بمبادرة من الشركة "بغض النظر عن مسؤوليتها عن الحادث، ومن منطلق أخلاقي"، معتبرًا أن "الحادث قضاء وقدر بسبب سوء الأحوال الجوية" على حد وصفه.
وأكدت نورهان أنهم تلقواْ بالفعل مكالمة منه، ولكنها قالت أنه تجاهل خلالها الحديث عن الأضرار النفسية والصحية التي لحقت بها وبأسرتها، مبديًا استعداد الشركة لتحمل تكاليف صيانة العربية، وأنه قال"شوفوا العربية تتصلح بكام؟". وأضافت "حسينا من كلامه إن الشركة هتتصدق علينا، وإحنا مش بنشحت من حد".
وعلى الرغم من ثبوت إصابتها بارتجاج في المخ في التقرير الطبي، إلا أن المحامي تجاهل التقرير قائلًا "الحمد لله اطمئنينا مفيش ارتجاج ولا حاجة، وأبلغنا الزوج باستعداد الشركة لتحمل أي تكلفة متعلقة بتداعيات الحادث من منطلق إنساني وأخلاقي".
وتابع "الموضوع بسيط قوي الحمد لله، وأنا أبلغت الزوج بأن الشركة ستسعى جاهدة لتعويض الأسرة وتصليح السيارة، وإعادتها لحالتها السابقة، وإديناه فرصة للتفكير في الأمر ومنتظرين قراره".
وبحسب التقارير الطبية الصادرة عن مستشفى سان بولا بحدائق القبة، أصيبت نورهان بارتجاج في المخ وجرح تهتكي في فروة الرأس واليد اليمنى.
وأفاد المستشفى، في التقرير الذي اطلعت عليه المنصة، أنه تم عمل اللازم طبيًا عن طريق خياطة فروة الرأس بعدد 10 غُرز جراحية، إضافة إلى جرحين باليد اليمنى احتاجا إلى 17 غُرزة جراحية لغلقهما، مع وجود كدمات وسحجات متفرقة بالجسم، وإدعاء ألم بالبطن والرأس، وأوصى التقرير بإجازة مرضية لمدة 3 أسابيع قابلة للتجديد.
وبشأن ما تضمنه بيان النائب العام عن عدم وجود تراخيص للافتة، قال حلمي "اﻷمر اختصاص التحقيقات القضائية ومش مجاله الصحافة".
تأمل نورهان أن تنجز النيابة العامة تحقيقاتها لبيان المسؤولية الجنائية للشركة، حتى يتسنى لها ولأسرتها الحصول على حقوقهم الأدبية والمادية عن الأضرار التي لحقت بهم جراء الحادث.