الحديث عن التحرش الجنسي بالنساء في مصر بات حديثًا مكررًا ومثيرًا لملل البعض، منذ صارت مصر واحدة من الدول الرائدة في هذا المجال، بشهادة الدراسات الأكاديمية ووسائل الإعلام العالمية والمنظمات الحقوقية الدولية.
اعتدت أن تكون لي يوميًا مغامرات في طريقي من المنزل للعمل وبالعكس، ذلك الطريق الذي لا يتعدى الدقائق مشيًا على الأقدام، أواجه خلالها صنوفًا من التحرشات البذيئة، حتى اعتدتها. لكن؛ ما ظل قادرًا على إثارة دهشتي رغم الاعتياد هو: كيف يتحرشون بي وأنا أسير بصحبة طفلي الصغير؟
تعلمت أن الأمهات أيضًا كباقي النساء في مصر، مجرد قطع من اللحم الضعيف في نظر ذكور الشارع. لكن بقيت أشد حالات التحرش إثارة للغضب والدهشة، هي حالات التحرش بالنساء الحوامل، وتلك الموسوعة الشعبية المتوارثة المخصصة للتحرش بهن.
كانت تجربتي الأولى مع هذا النوع من التحرش أثناء حملي بطفلي الأول "مازن". كنت في الشهر الأخير من الحمل، مرهقة ومثقلة الخطوات، ومكتئبة من كل هذا التعب والإرهاق الذي صار صاحبًا لجسدي، عندما فاجأني في سيري مجموعة من المراهقين يلتفون حولي، وينظرون إلى بطني المُثقل بشكل مريب واستغراب، وكأنهم يعاينون مخلوقًا فضائيًا هبط إلى الأرض توًا، ليصرخ أحدهم في وجهي "يسلم اللي نفخك".
في اللحظة التالية كانوا يضحكون جميعًا ويرحلون بسلام، دون أن يحدث شيء.. دون أن يتوقف المارة، وكأني لقطة خارج كادر الشارع. بقيت واقفة في مكاني أحاول أن أفهم ماقاله ذلك المراهق، وعدت إلى المنزل أسأل زوجي عن معنى ماقاله الفتى.
اقرأ أيضًا: الدورة الشهرية.. دماء في رقبة الدولة
وجدت ميكروباصًا به بعض المقاعد الفارغة، نصحني السائق الشاب بالركوب في المقعد الأمامي كي لا تتعبني المطبات، ركبت وأخبرته أني سأدفع أجرة المقعدين كي أجلس براحتي بعيدًا عن السائق، وعن أي أحتكاك مع أي أحد. لكن كلامي لم يعجب السائق الذي حاول إرغامي على أن تشاركني سيدة مسنة الجلوس في المقدمة، بشرط أن أكون أنا بجواره بدعوى أن السيدة ستصل قبل محطتي.
رفضت، وحاولت الجلوس في كرسي آخر في السيارة بعيدًا عنه، لكنه اعترض طريقي بغضب: "لأ! يا تركبي قدام يا مش هتركبي خالص". تيقنت أن المسألة تتعلق بتخريبي لخططه في التحرش بي خلال الطريق.
كان يظن أن كوني سيدة حامل، يعد سببًا وجيهًا لاستضعافي أكثر. تلقى هذا السائق ضربه مني، دفعته وركبت السيارة رغمًا عنه، وسط أستياء الركاب مني أنا!
نعم أنا كنت الشريرة في هذه الحكاية، وفي كل حكاية أحاول فيها أن أرفض كوني ضحية ومستضعفة.
الحكايات التي جمعتها من سيدات أخريات جعلتني أعرف أن التحرش بالحامل ليس مقتصرًا عليّ، ولا أنها حالات فردية من مختلين.
"يسلم اللي نفخك"
مُدرِّسة طفلي في الحضانة سيدة منتقبة، ولديها طفل يبلغ حوالي عامين من العمر. أخبرتني أنها ستترك العمل لأنها تعبت مما يحدث لها منذ ظهور حملها الثاني.
جمل مثل "دي آخر اللعب على السراير"، "نفسي أشوف الي نفخك"، وعبارات أخرى تصعب كتابتها هنا، كانت تسمعها كل يوم، ليس وحدها، بل وبصحبة صغيرها .
جانيت عبد العليم الناشطة النسوية تحكي عن واحدة من حالات التحرش بها أثناء حملها، وتقول: "في الثامن من يناير 2014، كنت في آخر الشهر السابع من الحمل، أصبحت وقتها ثقيلة الخطى. وفجأة خرج من العدم شخص أربعيني ليقطع علي الطريق ويسألني: (واللي نفخك النفخة دي ستر عليكي ولا سابك وجري؟)".
تواصل جانيت: "لم يتوقع أبدًا أن أرد عليه بقوة بنفس بذاءة كلامه معي، وهرب بسرعة من أمامي".
"أسوأ ذكريات حياتي تلك التي كنت فيها حامل بطفلتي الأولى". بهذه العبارة بدأت مي الشيخ عضو لجنة الشباب في المجلس الأعلى للثقافة في الاسكندرية قصتها، وواصلت حكاياتها عن ذلك الوقت الذي كان يفترض أن يكون من أجمل أوقات حياتها: "جسدي الصغير الذي يجعل عمري دومًا يبدو وكأنني لم أتجاوز 15 عامًا، لم يكن متوافقًا مع حجم بطني التي كبرت في الشهر السابع من الحمل، كنت أرى شكلي كوميدي جدًا".
لكن الكوميديا انقلبت إلى تراجيديا سوداء بسبب حالات التحرش المرهقة والمتكررة: "أمام عملي ترصدني أحدهم يوميًا يسمعني كلام لم أعره في البداية الانتباه، حتى صار الوضع مزريًا". في أحد الأيام قررت مي أن تجيبه عن سؤاله الملح: "مش هتقولي بقى مين اللي عمل كدة فيكي؟" تقول مي: "عدت إليه وجذبته من رقبته بكل ما أوتيت من غضب وليس قوة، ولم أتركه سوى في قسم الشرطة".
سألتني رانيا في بادئ الأمر كيف ستكتبين ما يقال؟ لم يكن صوتها قد تغير بعد، كانت متحمسة لتحكي وتشارك معاناتها اليومية: تؤكد رانيا أن كل من تحرش بها وهي حامل كان يقف أمامها مباشرة، وكان يقترب منها ليرمي ببذاءته في وجهها بهدوء وقوة دون خوف.
يومها؛ ارتدت رانيا بسرعة إسدال الصلاة الخاص بها، لتركض للحاق بموعد عودة سيارة مدرسة طفلتها، وقف أمامها ذلك الشاب بهدوء وسألها: " طبعًا إنتِ دلوقت متقدريش تنكري أنك متنـ..."، ثم رحل، وتركها تحاول أن تستقبل طفلتها بوجه باسم.
مع صوت متقطع النفس تحاول استكمال رواية بعض المشاهد اليومية التي تعاينها، تقول: "رجل قد يكون تجاوز الستين من عمره، يقابلني وجهًا لوجه أثناء نزولي من عربة المترو ليرمي في وجهي كلماته المريضة : "يا بخت الي لعب وهاص وبـ.. الـ...".
أثناء الحكي، انهارت رانيا باكية وهي تؤكد أن مايحدث لها ولغيرها لايختلف كثيرًا عن الاغتصاب. وأنه "يأخذ مع كل كلمة منهن جزءًا من أرواحهن". وأن الحوامل أصبحن يكرهن أجسادهن، وتفقدن الفرحة التي تعايشها مليارات الأمهات في بقاع أخرى من الأرض، لا يتحول فيها الحمل بالأطفال إلى خبرة مُعذِّبة ومهينة لصاحبته.
تقول: "ينمو طفلي أمامي، ورغم سعادتي أتذكر ما تعرضت له من إهانات وانتهاكات بينما كان ينمو في أحشائي". وتواصل: "أنا لا أتمنى أن أنجب ذكرًا بسبب كل ما أراه منهم. أنا أكرههم بقدر ما جعلوني أكره نفسي وجسدي".