تتمنى صديقة برازيلية من أصول لبنانية أن تصل كل شعوب العالم لما وصل إليه الشعب البرازيلي؛ تُصبح مزيجًا من أجناس مختلفة، حيث يتعايش الآتون من آسيا مع الأفارقة السود ومع السكان الأصليين ومع أبناء الغزاة الأوروبيين، لينتجوا معًا شعبًا هو التجسيد الأوضح للمزيج العرقي والثقافي.
صورة مبهجة تبعث على التفاؤل، أن تتخيل عائلة تضم تلك الأجناس، أو مجرد فناء مدرسة يلعب فيه أطفال من كل الإثنيات، وبعضهم نتيجة اختلاطها. لكن هذه الصورة تتحطم سريعًا، إن سُئلت هذه الصديقة صاحبة البشرة البيضاء سؤالًا أبعد من مجرد تجاور الألوان واختلاطها؛ سؤال العنصرية والسلطة.
أن نسألها مثلًا عن نسبة السود الممتلكين لسلطة ما في البرازيل، سلطة سياسية، أو في مجال الأعمال والمال. فهنا تتضح هشاشة الصورة، أن أصحاب البشرة السوداء والسكان الأصليين ما زالوا عند هامش هذه الصورة الجميلة للتنوع، سنجدهم أغلبية فقط في الأحياء المهمشة والعشوائية، وأغلبية في السجون.
لم يحقق أي بلد متنوع إثنيًا، على حسب علمي، هذه الجنة المفترضة للمساواة الحقيقية المتجاوزة للون والأصل العرقي. حتى كوبا، أول بلد لاتيني يضع المساواة على أجندته السياسية والاجتماعية والثقافية، ويمنح مساحات جديدة بعد الثورة لأولئك السود المهمشين تاريخيًا، لم تُنجز بعد مشروعها المشهر منذ 65 سنة. ومرة أخرى علينا البحث عن نسبة من يمتلكون السلطة ولونهم.
بالطبع الاستثناءات تبعث على الأمل، لكنها تظل استثناءات لا تخلوا من الطرافة، نتيجة للحظات مركبة، ولا تعني بالضرورة خطوات للأمام؛ أن يكون رئيس الولايات المتحدة أسود البشرة، أو أن يكون وزير الثقافة في حكومة لولا دي سيلفا البرازيلية الأولى إفريقي، تخلو أصوله العائلية من صدف الهجين والاختلاط، أو أن تكون نائبة الرئيس الكولومبي اليساري امرأة سوداء، أو أن يكون الرئيس السادات أسمر البشرة من أم سودانية، أو أن يكون أحمد زكي ببشرته السمراء نجمًا في الثمانينيات والتسعينيات، يحلق بين سلسلة ممتدة وطويلة من نجوم الشباك، قبله وبعده، بسمات معينة للوسامة تستبعد البشرة الغامقة.
مصر سوداء
بدأ الجدال على السوشيال ميديا حين أعلنت شبكة نتفليكس تقديمها لمسلسل عن الملكة كليوباترا، تجسدها ممثلة سوداء. بدأ التريند بكل سماته المعتادة، حاملًا للتطرف في الآراء والمواقف، بين من يتحدثون عن نقاء عنصري مصري، ومن يؤكدون أننا أفارقة وسود، ومن يطرحون أننا نتاج خليط أجناس مختلفة وأن لا وجود لنقاء عندنا، ومن يشتبكون مع تلك الصوابية السياسية/الجنسانية الأمريكية الناشئة لتعويض عقود طويلة من التمييز العنصري في مجال صناعة الأفلام والمسلسلات.
لم يتحول التريند لمناقشة حقيقية، انحصر في حدود حياته القصيرة كتريند. لم يتطور لأنه لم يصل لحوار يهم المواطنين في الشارع، ولم يطرح أي منا أرضية فكرية ومعرفية متماسكة تسمح بتطوره وتأصيله.
"مصر مصرية"، هذا ما يؤكده بوستر انتشر لمناطحة نتفليكس المتجنية علينا، وكأنه سيهزم مسلسلها. لكن ذلك العنوان العريض يكسر قاعدة لغوية تعلمناها في المدرسة الإعدادية "ألا يتم تعريف الشيء بنفسه". والمشكلة أبعد من الخطأ اللغوي، بل إن الخلل في منطق اللغة يفتح الباب أمام مشاكل أخرى متعلقة بالتوقيت، والمضامين.
التوقيت هو أن مصر الآن ملجأ من ضمن الملاجئ الأساسية للهاربين من جحيم حرب السودان، فكأننا بهذا الشعار نذكرهم "هذه الأرض والبلد والقدرات والمقومات لنا". كتأكيد على تمايزنا المصري في مواجهة الجميع، أو كأن المُضيف يقول لضيفه "لا تأخذ راحتك". ومغالطة المضمون واضحة؛ فتوصيف مصر بأنها "مصرية" لا يعني أي شيء.
ربما نجد المعنى المفتقد إن عرَّفنا مصر بنسبتها لسياق جغرافي ما: مصر عربية، إفريقية، متوسطية. أو عرَّفنا البلد بكابوسه "مصر دولة ديكتاتورية". أو أن نعرِّفها وقوفًا على أرضية الحلم، فنقول "مصر علمانية ديمقراطية متعددة الهويات والأديان والثقافات".
وتعريف أي بلد بربطه بزمن انتهى ولن يعود، كأن نقول مصر فرعونية، أو عثمانية، أو بيزنطية، أو قبطية، يعني ضياعه في متاهة الأزمان.
لم يعد غريبًا أن نقابل أشخاصًا يبدون متحررين، وربما تقدميين، يراجعون ملف مصر في السودان، بمنطق أن مصر أخطأت بالتنازل عن سيطرتها عليه
مصر بيضاء
يستدعي شعار "مصر المصرية"، وإن لم يدرك ذلك من أبدعوه، شعارًا قديمًا، كان رائجًا في هذا الوطن العظيم والجريح والمتطلع للحرية في بدايات القرن العشرين. وهو شعار يعبر عن قوة/ سطوة بها الكثير من الوقاحة –أو البجاحة- المفتقدة لأي أساس واقعي أو حقيقي "مصر والسودان لنا.. وإنجلترا إن أمكن".
شعار مؤسس على افتراض ملكية طرف ما لأماكن وبلدان محددة، دون أن تُحدد هوية الطرف المالك. فمن المقصود بضمير الملكية "لنا"؟ هل هم المصريين؟ أم المصريين والسودانيين؟ أم الأرستقراطيين والبرجوازية الناشئة وقتها؟ أم فقراء وحفاة القرى والمدن ببشرتهم السمراء والبيضاء؟
يُسلِّم الشعار بما يرفضه؛ يُسلم بمنطق القوة والتفوق المبرر للاحتلال. نحلم بالتحرر من الاحتلال الإنجليزي، لكننا لسنا ضد الاحتلال، فإن تمكنا من احتلال إنجلترا، سنحتلها. فتبدو المشكلة وكأنها ليست الاحتلال، بل في افتقادنا للإمبراطورية، والقوة الإمبريالية، لكننا نحلم بأن نملكها لنقهر بدورنا الآخرين.
من المؤكد أن ذلك الشعار التحرري، حسن النية، لمس وجدان عشرات الآلاف من الشباب وقتها، وفتح لهم الطريق، من ضمن عوامل أخرى، للانتساب للحركات والمجموعات الوطنية المتطرفة والعنصرية والفاشية في الثلاثينيات والأربعينيات، المعتمدة على العنف الفردي، والرفض العنصري للأبيض الذي كان يحتلنا، واحتقارنا بالتالي، وبسبب ضعفنا، للعنصر الأفقر، الأكثر ضعفًا، الموجود جغرافيًا عند جنوب هذا الوطن العظيم/ المجروح.
لم يمت الشعار حين جاء وقت موته، بل أعيد إنتاجه، فلم يعد غريبًا أن نقابل أشخاصًا يبدون متحررين، وربما تقدميين، يراجعون ملف مصر في السودان، ليس بمنطق النقد الذاتي، بل بمنطق أن مصر أخطأت بالتنازل عن سيطرتها على السودان، فكأن من المفترض لهذا البلد أن يكون عزبتنا الخاصة، نستغله ونلهو فيه.
أو نقابل من يتحسرون على زمن "قوة مصر الناعمة"، بجوهرها الذي لا يبتعد عن حلم استعادة السيطرة على الآخرين من العرب، عبر نموذج التفوق والغزو الثقافي والفني، وليس الندية والاستقلالية في التعامل بين الشعوب والدول.
أتذكر أن أحد المسؤولين المهمين في تنظيم شيوعي سري، كان يحب أن يردد بفصاحة في مطلع التسعينيات جملة فخر وطني "مصر بلد من العالم الأول ضل طريقه للعالم الثالث". المفارقة هنا أن ذلك الشيوعي لم يرفض التقسيمة الأوروبية الاستعمارية للعالم بناء على المركزية والدرجات، بل يسلم بها، حالمًا بأن ننجو من مركزنا المتأخر، كعالم ثالث، لننال ما نستحقه، أن نكون مركزًا لديه أطراف وتابعون ليستغلهم.
إن كان سؤال لون بشرة كليوباترا مهمًا، فالأسئلة الأهم هي إن كان الوطن يتسع لذلك الاختلاط حقيقة وبمساواة كاملة
مصر الضعيفة
النوايا الحسنة تدفعنا أحيانًا لمواجهة فوضى التريندات والجدالات الوطنية والهوياتية بإشهار أمانينا وكأنها حقائق، دون الانتباه إلى أنها ليست كذلك. فنقول إننا، نحن المصريون، نتاج اختلاط أجناس كثيرة، وهوياتنا متنوعة، بنفس تنوع سماتنا الشكلية. لكننا في فورة الحماس ننسى وصفنا حتى وقت قريب للنوبي والسوداني بكلمة "بربري".
لا نلتفت، مثل الصديقة البرازيلية/ اللبنانية، لنسبة المواطنين المصريين السود المحتلين لموقع السلطة، سلطة المال والأعمال، والسلطة السياسية. وننسى وجودهم البارز في الأعمال المهمشة، التي يراها أبناء الطبقة الوسطى المصرية وضيعة، مثل البوابين أو خدم البيوت.
ولا يسأل الكثيرون من بيننا عن سبب ذلك الشعور غير المريح الذي يراود البعض، ممن يتصورون أنهم ليسوا عنصريين، حين يواجَهون بعلاقة جنسية بين رجل أسود وامرأة بيضاء. هذا الشعور بعدم الراحة الذي يقل نسبيًا حين تكون المرأة سوداء والرجل أبيض. فالعنصرية والذكورية يلتقيان عادة.
من ضمن معاني كلمة "وطن" في المعجم اللغوي "مربض البقر والغنم". لكن الوطن كما نفهمه هو مكاننا، ما ننتمي إليه. فإن كان سؤال لون بشرة كليوباترا مهمًا، فالأسئلة الأهم هي إن كان الوطن يتسع لذلك الاختلاط حقيقة وبمساواة كاملة، دون أي نوع من أنواع التمييز أو العنصرية، وكيف يتحقق هذا الحلم، دون أن نحتل إنجلترا.
وكيف لهذا الوطن ألا ينحصر في صورة كليوباترا ولون بشرتها، وألا يُختصر في وطن سياحي، وطن للمزارات. أو أن نحميه من الضعف الذي كلما ازداد ازدادت ضوضاء التغني بعظمته، كتعويض عن هزاله، لنجد تعريفاته في الأغاني الوطنية مفتقدة المعنى، مثلما غنى محمد ثروت يومًا "مصر يا أول نور في الدنيا شق ضلام الليل.. أحسب عمر النور في الدنيا يطلع عمر النيل.. النور من هنا.. والخير من هنا.. ليه أسكت أنا وماقولش وأعيد؟".
دون أن ننكر فكاهية الأغنية، فكاهية مصرية وطنية بامتياز، حين يتمايل المغني مع جملة "إن ميلتي كده.. الدنيا تميل".