حين خسر دونالد ترامب انتخابات الرئاسة 2020 فقد الرئيس المصري دعمه السياسي غير المشروط، ليس فقط في التعامل الأمني مع ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل الأهم بالنسبة لمصر، بغض النظر عن حاكمها؛ ملف سد النهضة وتعنت إثيوبيا في ملئه بعد بنائه دون تنسيق مع مصر أو مراعاة لتضررها.
لو أرادت مصر سياسيًا وعسكريًا أن تعطل مشروع السد الخانق لشريان حياتها، لتمكنت من ذلك بدعم أمريكي وقت ترامب، الذي استغرب صراحة من عدم قصف مصر لهذا السد! لكن يبدو أن الدعم الإماراتي لأبي أحمد في إثيوبيا، شأن دعمها لميليشيا حميدتي في السودان، غلّا أيدي مصر عن القيام بعمل عسكري في البلدين يلبي ضرورات الأمن القومي المصري.
تحسن وضع إثيوبيا وسدها على النيل، وزاد دعمها في واشنطن مع مجيء مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن للرئاسة، ليس لوجود موقف مسبق من بايدن لصالح إثيوبيا، ولكن لأنها كسبت تأييد تجمع النواب السود الأمريكيين في الكونجرس بمجلسيه، وينتمي كل أعضائها للحزب الديمقراطي، وهما عضوان في مجلس الشيوخ، و54 نائبًا بمجلس النواب، بجانب مندوبين يمثلان العاصمة واشنطن.
إذا كانت مصر خسرت قوتها في الاتحاد الأفريقي الذي كانت من مؤسسيه فكيف تواصل خسارة دعم الأمريكيين الأفارقة
يتطابق موقف هذا التجمع للنواب الأمريكيين الأفارقة مع الموقف الإثيوبي بترك الأمر في التحكيم والوساطة للاتحاد الإفريقي دون سواه. لكن إذا كانت مصر قد خسرت خلال ثلاثينية مبارك قوتها في الاتحاد الإفريقي الذي كانت من مؤسسيه مع إثيوبيا وغانا وغينيا في الستينيات باسم منظمة الوحدة الإفريقية، فكيف تواصل خسارة دعم وتعاطف الأمريكيين الأفارقة، حتى وهم يبالغون في نسب تاريخهم وتراثهم لحضارة مصر القديمة؟!
عبد الناصر والزعامة الإفريقية
تزامنت فترة حركات التحرر الوطني في إفريقيا مع حركة الحقوق المدنية للأمريكيين السود، أو بالأحرى الأفارقة، خلال الستينيات من القرن الماضي.
اثنان من أول ثلاثة رؤساء جمهوريات للعسكريين في مصر كانت أمهما سودانية الأصل، وهما محمد نجيب وأنور السادات، وكانت ملامحهما وبشرتهما السوداء أقرب للانتماء الإفريقي عن الرئيس الذي جاء بينهما. رغم ذلك كان انتماء عبد الناصر الإفريقي سياسيًا أكثر من أي رئيس بعده.
لدرجة أن هناك مقولة لا أزال أذكرها لأحد الأمريكيين الأفارقة في المقارنة والمفارقة بين السادات وعبد الناصر، وهي أن السادات كان أسود البشرة لكن قلبه مع البيض، أما عبد الناصر فكان أبيض البشرة لكن قلبه مع السود!
كان عبد الناصر حاضرًا في أول تجمع إفريقي في أكرا بغانا عام 1958، وفي أديس أبابا عام 1963 لتأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، ثم بعد عام واحد اجتمع الزعماء الأفارقة في مصر، التي شهدت أيضًا زواج زعيم غانا، نكروما، من المصرية فتحية، وأنجبا ابنهما جمال.
كان مطلب التحرر من الاستعمار الأوروبي مرادفًا لمكافحة التمييز العنصري. وهكذا عُرفت أيضًا مصر عبد الناصر لدى نخبة مثقفي وناشطي حركة الحقوق المدنية للسود في أمريكا. وهي حركة بدأت مسيحية مسالمة ضد العنف بزعامة القس مارتن لوثر كنج، لكن جانبًا منها تحول للصدام والعنف مع أمريكا البيضاء المتشبثة بالفصل العنصري، فظهر جناح يساري تقدمي مثل "القوة السوداء" وجناح مسلم كحركة "أمة الإسلام" بزعامة أليجا محمد، ثم مالكوم إكس، الذي غير اسمه إلى مالك الشباز، ثم جاء بعده لويس فرقان.
حرص كلاي على زيارة مصر لرمزية كل من الأزهر وعبد الناصر في التحرر من رموز السادة الأوروبيين والتحرر من ديانة الرجل الأبيض
واستطاعت حركة أمة الإسلام أن تجتذب الملاكم الشاب كلاي ليصبح بعد إسلامه "محمد علي" بطل العالم في الملاكمة، والذي حرص أيضا على زيارة مصر، لرمزية كل من الأزهر وعبد الناصر، في العودة للأوطان، والتحرر من رموز السادة الأوروبيين، بل وحتى لدى بعض السود المسلمين للتحرر من ديانة الرجل الأبيض.
لم تتوقف حركة تحرر الأمريكيين الأفارقة على التخلص من عبودية ثم سيطرة المستعمر الأبيض المادية سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، بل امتدت للانعتاق الثقافي لنداء العودة إلى الموطن الأصلي في القارة الإفريقية التي انتزعوا منها، ليصبحوا عبيدًا بعد أن كانوا أسيادًا. ومن هنا جاءت المراجعات التاريخية لمركزية الحضارة الأوروبية التي يدعيها البيض ويمليها على مستعمراته.
الخصومة المصرية المتعالية على المركزية الإفريقية
لا أحتاج للإطالة بتوضيح الظرف التاريخي ومؤرخي مراجعات المركزية الإفريقية في أمريكا، مع وجود مقال عميق ومفصل عنها هنا بموقع المنصة للدكتورة سها بيومي المحاضرة بجامعة جونز هوبكنز المرموقة. بعنوان في نقد "المركزية المصرية".. كيف نرى الأفروسنتريك؟
وقد نُشر المقال بعد أسبوعين من إلغاء "السلطات" المصرية حفلًا باستاد القاهرة لأحد نجوم الستاند أب كوميدي من الأمريكيين الأفارقة، وهو كيفن هارت، دون إبداء أسباب منطقية سوى تحميل الشركة المنتجة مسؤولية فشلها في التجهيز بجانب خسارتها في إرجاع أموال التذاكر لحفل أُلغي قبل أقل من يومين لنجم قادم من جنوب إفريقيا، وذهب بعد القاهرة لتستقبله بالترحاب، حسب جدول الجولة، جماهير حفلاته في الإمارات والبحرين والسعودية.
يبدو أن هناك لواءً أو خبيرًا في الجينات الوراثية أقنع المسؤولين بأن الشاب الكوميديان الفخور بانتمائه الإفريقي ويتمسح بالحضارة المصرية كجزء من حضارة إفريقيا، وليس الرجل الأبيض الأوروبي، سيهدد بمعتقداته أمن مصر القومي!
كما سبق للسلطات المصرية قبل عام مضى إلغاء مجموعة فعاليات ومحاضرات ثقافية لأسبوع في أسوان، كان ينظمها أمريكيون أفارقة بعنوان "إفريقيا واحدة: العودة للمنبع". ولم يعلن أحد رسميًا مسؤولية المنع، لكن علينا أن نستشف السبب من حملة على السوشيال ميديا تتهم المنظمين بجريمة التفاخر بحضارة إفريقيا بدلًا من أوروبا.. أو بالنسبة لهم بدل مصر، وكأنها لا تنتمي لإفريقيا.
المدافعون عن كليوباترا البيضاء
لم تمر سوى بضعة أسابيع قبل أن تعود الحملة المصرية المتشنجة ضد من ينسب هذه المرة الملكة المصرية كليوباترا إلى الحضارة الإفريقية، بعد إعلان نتفليكس أنها ستعرض بدءًا من العاشر من مايو/أيار مسلسلًا دراميًا وثائقيًا من ثمانية أجزاء عن "كليوباترا الملكة" في مستهل سلسلة عن ملكات إفريقيا. والمصيبة أن دور كليوباترا ستؤديه الممثلة الأمريكية السوداء أديل جيمس، بعد مرور ستين عامًا على تمثيل الأمريكية البيضاء إليزابيث تايلور للدور نفسه.
وقت إليزابيث تايلور غضب المصريون وقاطعوا الفيلم، ليس بسبب لون بشرة بطلته، ولكن لديانتها اليهودية وانحيازها لإسرائيل. بينما جانب من رفض المحتجين الآن على ممثلة كليوباترا السوداء أن الملكة كانت بيضاء يونانية مقدونية سكندرية، مع أن عائلتها كانت تعيش لنحو ثلاثة قرون في مصر، واختلطت بأنساب المصريين المختلطة بكل ألوان جيرانها.
كما لم يحتج المصريون، بل وجدوه منطقيًا، حين قدم التليفزيون الأمريكي عام 1983 عملًا دراميًا وثائقيًا من جزءين عن السادات كزعيم معاصر، ومثّله أمريكي أسود هو لويس جوسيت. فهل معنى هذا أن السادات إفريقي بسبب لونه بينما كليوباترا التي انتحرت، أو انتحروها، قبل ثلاثين عامًا من الميلاد، ليست إفريقية بل أوروبية الأصل؟!
من المؤسف أن ينجح أحد مقدمي البرامج البريطانيين الأيرلنديين المعتزين بمركزية حضارته الأوروبية مثل بيرس مورجان في عمل مناظرة ساخنة بين الكاتب الأمريكي إرنست أوينز دفاعًا عن المركزية الإفريقية والكوميديان المصري باسم يوسف دفاعًا عن المركزية المصرية، وكأنها تتعارض مع الانتماء الإفريقي لمصر. لقد بدت لي مبارزة بين أبناء المستعمرات على أرض السيد الأبيض السابق لرفض حماسة، أو حتى مبالغة، الأفارقة في التباهي بأي رموز ليست أوروبية بل تنتمي للقارة الإفريقية التي جاءوا منها.
مفهوم أن يقع المثقف والناشط الحقوقي الأمريكي، الذي يكافح حتى الآن حقبة التمييز العنصري، في فخ الاختيار الثنائي، بلا ثالث أو رابع، وهو أبيض/أسود؛ لكن كيف يقبل مثقفون مصريون مصرية فيها كل ألوان البشرة حتى بين الأشقاء، ثم يستنكفون محاولة نخبة، تعاني من استبداد ساد مجتمعاتهم من المستعمرين الأوروبيين، حين تشير إلى مصر باعتزاز معتبرة كل إنجاز مصري هو إنجاز إفريقي، وأن ملوك مصر وساداتها من رموز إفريقيا، أي أن أجدادنا كانوا أسيادًا وملوكًا وليسوا عبيدًا بعد استرقاقنا؟
ما الذي يضير المصريون في ذلك إلا لو كانت عقدة الخواجة أو النقص والتباهي بأصل حكامنا الأوروبيين من مقدونيا أو ألبانيا، أما إفريقيا فلا؟
وأخيرًا، ما الذي تستفيده مصر الرسمية من خسارة دعم الأقليات الملونة في الدول الغربية؟ إنها تريد أن تتمسح في تاريخك السابق، إن لم تساعدك سياسيًا فافتح الباب لها لمساعدتك سياحيًا واقتصاديًا.
أو ليس الأجدى لدعاة الحماس الوطني على عدم التفريط في التاريخ، المندثر من آلاف السنين، إظهار هذه الغيرة والحمية في الجغرافيا وعدم التفريط بالأرض والأصول الماثلة أمام أعيننا؟!
تم تعديل معلومة بعد نشر المقال تتعلق بضيف المناظرة أمام باسم يوسف في برنامج بيرس مورجان.